يمر العراق بمرحلة دقيقة، حيث تتداخل الأزمات السياسية والاقتصادية والخدمية والتجاذبات الانتخابية مع أزمة أعمق تتعلق بالحريات العامة وحقوق المواطنين. وإذا كان من الطبيعي أن تتحمل السلطة التنفيذية والبرلمان النصيب الأكبر من المسؤولية، فإن المجتمع بكل أطيافه، ولا سيما النخب المثقفة وأصحاب الفكر، يواجه اليوم واجبًا تاريخيًا يتمثل في حماية المصلحة الوطنية من التفريط والفساد.
لقد أنتج نظام المحاصصة الحزبية واقعًا هشًا تتحكم فيه قوى سياسية تسعى إلى توسيع نفوذها عبر الوزارات والمؤسسات. هذا الانحراف في مفهوم الدولة حوّل الوظائف العامة والعقود الحكومية إلى أدوات سياسية، وأدى إلى تراجع الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة، التي باتت عنوانًا دائمًا لمعاناة المواطن. لكن الأخطر من ذلك أن هذه القوى سعت إلى تقييد الحريات العامة، عبر قوانين متناقضة ووسائل قمعية، بما في ذلك ـ التضييق ـ على التظاهر السلمي وملاحقة الصحفيين والناشطين وقمع المرأة وسلبها حقوقها المدنية المشروعة. أمام هذا المشهد، تتضاعف مسؤولية المواطن العادي. فالمشاركة في الانتخابات من عدمها ـ موقف ـ لا يمكن فهمه من خلال الكلمات التي تشكلها أو تشير إليها تشريعات تتجاهلها العديد من الأطراف رغم ثبوتها. ـ بمعنى آخر ـ إنكارٌ لحقوق أو حقائق موجودة لكنها تمارس بذكاء اصطناعي يخدم فئة أقلية تتحكم بمصير الدولة والمجتمع على حد سواء. من هنا تبلغ الضرورة أهميتها الموضوعية القصوى في أن يتحمل المواطن إلتزاماته ومسؤولية تثبيت دوره الطبيعي في الحياة العامة لأجل التغيير من خلال مواجهة الانتهاكات ووضع حد للخداع الجماعي، ورفض ثقافة الولاءات الضيقة، والانخراط الواعي في النشاطات المدنية. كلها أدوات تمكّن المجتمع من فرض إرادته على السلطة. فالمجتمع الصامت بمفهومه الدارج "الأغلبية الصامتة" يتحول إلى شريك غير مباشر حينما يغض النظر عن استمرار الفساد وتراجع الدولة، وكأنه من عالم آخر!.
وبالإنتقال من المفهوم المزاجي اليومي إلى الواقعية لتحديد المساحة الفاصلة بين الحقوق والواجبات، تفرز أهمية مواجهة الأحزاب المتسلطة لأجل حماية المجتمع ومصالح الدولة والوقوف بوجه تضليل الجمهور بشأن السلامة العامة والمخاطر التي تواجه البلاد. وعلى طبقات المجتمع "النخبة" تقع مسؤولية غير محدودة لحماية الكرامة الإنسانية الأساسية وسط قسوة الأزمات ومهاناتها المدمنة على الدمار. فالمثقفون وأصحاب الفكر ـ دورهم ـ يتجاوز التنظير إلى صناعة وعي جمعي قادر على كشف أساليب السلطة في تضليل الرأي العام. . مسؤوليتهم تكمن في تعرية الفساد والدفاع عن حقوق المواطنين، وصياغة خطاب بديل يعيد الاعتبار لمفهوم الدولة ككيان جامع لا كغنيمة حزبية. وفي هذا السياق، يصبح صوت الكاتب والأكاديمي والباحث أداة استراتيجية ضاغطة في معركة استعادة الدولة وتوجيه عملية الانتقال نحو إقامة دولة المواطنة وتشييد السلم الأهلي والأمن والاستقرار وإنشاء ثلاث هيئات رئيسية عابرة للحدود الوطنية.
ولا يقل دور المجتمع المدني والإعلام المستقل أهمية. فهذه المؤسسات تمثل خط الدفاع الأول عن الحقيقة. هي التي ترصد الانتهاكات، توثقها، وتعرضها للرأي العام المحلي والدولي. الإعلام الحر والجمعيات المستقلة يعززان الرقابة الشعبية ويضيقان مساحة المناورة أمام السلطة التي اعتادت توظيف أدوات الدولة لمصالحها الضيقة.
السؤال: هل لقوى التغيير والإصلاح إرادة وإصرار بحجم التحديات لتحقيق النجاح؟.
فالمواجهة مع قوى ما يسمى بالدولة العميقة المهيمنة على السلطة بكل الوسائل قد تحمل مخاطر شخصية ومجتمعية، بدءًا من الضغوط الأمنية وصولًا إلى التشهير والملاحقات القضائية. ومع ذلك، فإن بديل الصمت ـ بالتأكيد ـ أثقل كلفة، لأنه يعني استمرار الاضطهاد والتفريط بمصالح الدولة والشعب.
إن العراق يقف اليوم أمام مفترق طرق. فإما أن يواصل الانحدار تحت وطأة المحاصصة والفساد والتقييد السياسي، أو أن ينهض عبر وعي مجتمعي يقوده مواطنون مسؤولون ونخب جريئة. حماية المصالح الوطنية ليست مهمة الدولة وحدها، بل هي واجب جماعي يتوزع على كل فرد ومثقف وناشط وصحفي. فالمجتمع الواعي هو الضامن الوحيد لإعادة السلطة إلى وظيفتها الطبيعية: خدمة الشعب، لا التحكم به.
بهذا المعنى، يصبح استنهاض وعي المجتمع وتفعيل دور النخب شرطا أساسيا لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي. فالطريق إلى دولة المواطنة والعدالة يمر عبر يقظة الشعب وتكاتف قواه الحية، وليس عبر انتظار إصلاح يأتي من داخل منظومة مأزومة أو فعل خارجي له مصالحه في فشل العراق وتخلفه. إن الإصلاح السياسي والخدمي في العراق لن يتحقق دون مشاركة المجتمع في الرقابة والمساءلة. حماية مصالح الدولة والشعب تتطلب مجتمعًا واعيًا، ونخبًا جريئة، وإعلامًا حرًا. وبهذا المعنى، فالطبقة المثقفة تمتلك رأس المال الرمزي القادر على صياغة الخطاب البديل ومواجهة السرديات الرسمية التي تبرر الفساد أو القمع. مساهماتهم الفكرية والإعلامية تضمن نقل الحقيقة إلى الرأي العام، وتعزز قيم الشفافية والمساءلة ومواجهة انحراف السلطة. بذلك فقط يمكن كبح نزعة السلطة نحو التفريط بمصالح الدولة والمجتمع، ووضع أسس دولة المواطنة والعدالة وفق استراتيجيات فعالة قادرة على مواجهة التحديات.