لا يعيش العراقي مع السلطة كما يعيش الناس في البلدان المستقرة، إنه يعيش معها كمن يرافق ظله؛ يخاف أن يفقده، ويضيق به حين يطول، في أعماقه حنينٌ إلى الدولة القوية التي تحمي وتُنظم، لكنه في الوقت ذاته يخشى من أن تتحول تلك القوة إلى هيمنةٍ تُقصيه أو تُقيده، هذه المفارقة ليست طارئةً على الشخصية العراقية، بل هي جزءٌ من تاريخٍ طويلٍ صاغه التقلب بين القبيلة والمركز، بين الزعامة الفردية والمؤسسة الرسمية.
منذ العصور العثمانية وحتى اليوم، ظل مفهوم الدولة يتبدل شكلاً دون أن يستقر مضموناً في ذاكرة المجتمع، كانت الدولة يوماً "باباً عالياً" بعيداً عن الناس، ثم أصبحت ملكاً على الشعب، ثم انقلبت إلى زعيمٍ يتحدث بإسم الجميع، قبل أن تتحول بعد عام 2003 إلى مؤسساتٍ متعددة تحاول معاً أن تؤسس لسلطةٍ قانونية حديثة.
لكن المجتمع الذي عانى طويلاً من سلطةٍ فوقية لم يتصالح بعد مع فكرة القانون حين يأتي من الأسفل، من داخله هو، من مؤسساته وممثليه المنتخبين.
التحول الكبير بعد 2003 لم يكن في النظام السياسي فحسب، بل في صورة السلطة نفسها، صار المواطن يسمع كلمة "الدولة" من أفواه الناس أكثر مما يسمعها من القوانين، الدولة أصبحت موضوعاً للنقاش اليومي، لكنها لم تصبح بعدُ تجربةً شعوريةً مستقرة في حياة المواطن، فهو يشعر أحياناً أنها حاضرةٌ في كل تفاصيله، وأحياناً أنها بعيدةٌ تماماً عن وجعه.
يريد أن يراها عادلةً ومنظمة، لا قاسيةٍ ولا مترددة، ويريد أن تُنصت إليه لا أن تفرض عليه، ومن هنا تتجلى المفارقة العراقية العميقة: فالمواطن يريد دولةً قوية، لكنه يريدها في الوقت نفسه قريبةً من وجدانه الشعبي، يريدها سلطة، لكن بشرط أن تبقى إنسانية، يريد القانون، لكن لا يريد أن يشعر أنه متهم حين يلتزم به، إنها علاقة تحتاج إلى لغةٍ جديدة تقوم على الثقة، لا على الخوف أو الشك.
الدولة، من جهتها، ليست كائناً غريباً هبط من السماء، بل هي نتاج وعي المجتمع وثقافته، حين يكون المجتمع منظماً في سلوكه، تصبح الدولة انعكاساً لذلك، وحين يسود الارتباك أو التردد، تظهر آثارُه في مؤسساتها أيضاً، لهذا فإن بناء دولةٍ قوية لا يبدأ من المكاتب الرسمية، بل من عقول الناس التي تؤمن بها وتدافع عنها، فلا يمكن لأي نظامٍ أن يستقر ما لم يشعر المواطن أن القانون له لا عليه، وأن تطبيقه عدالةٌ لا عقوبة.
في السنوات الأخيرة، برز جيلٌ جديد من العراقيين، أكثرُ جرأةً في طرح الأسئلة، وأكثرُ واقعيةً في النظر إلى السلطة، جيلٌ لم يعش الخوف الذي عاشته الأجيال السابقة، لكنه يعيش القلق ذاته بطريقةٍ مختلفة؛ يريد إصلاح الدولة لا إسقاطها، وتصحيح المسار لا كسره، جيلٌ بدأ يدرك أن بناء الدولة ليس مهمة الحكومة وحدها، بل مهمة المجتمع أيضاً، وأن المشاركة في الحكم لا تعني فقط الانتخاب، بل المراقبة والمساءلة والسلوك المدني اليومي.
ربما لهذا السبب نحتاج اليوم إلى مصالحةٍ هادئة بين العراقي والدولة، مصالحةٌ لا تقوم على الخطاب العاطفي أو التبرير، بل على الفهم المتبادل بأن الجميع شركاء في المسؤولية، الدولة التي تنصت لمواطنيها ستصبح أقرب إليهم، والمواطن الذي يثق بدولته سيصبح أحرص عليها، بهذه المعادلة وحدها يمكن أن نخرج من ثنائية "السلطة واللاسلطة" إلى مفهومٍ أعمق هو "السلطة المشتركة"، حيث القانون لا يكون سوطاً، بل مظلة، وحيث الوطن لا يكون ساحةً للصراع، بل بيتا يتسع للجميع.
العراقي اليوم لا يبحث عن من يحكمه بالقوة، بل عن من يشاركه حكم الوطن بالعقل والضمير، وحين نصل إلى تلك النقطة، سنكتشف أن الدولة لم تكن غائبةً يوماً، بل كانت تنتظر أن نؤمن بها بصدق.