يعدّ سقوط نظام الأسد حدثاً تاريخياً فاصلاً سيخلّف عواقب إقليميّة ودوليّة كبيرة. والسؤال الآن هو: هل سيفي الثوّار بوعدهم بالشمولية وانتشال الشعب السوري من بؤسه، وما الذي تستطيع الولايات المتحدة وإسرائيل فعله للمساعدة في تشكيل مسار النظام الجديد.
من الصعب المبالغة في فرحة الشعب السوري عندما سمعوا نبأ سقوط بشّار الأسد الذي أنهى “سلالة” عمرها 52 عاماً ستظل في الأذهان باعتبارها الفصل الأكثر قتامة في تاريخ البلاد. وإلى متى سيستمر فرح الشعب، وما إذا كانت الحياة الطبيعية ستعود إلى بلد محطّم، فإن هذا سيعتمد على ما إذا كانت الحكومة الجديدة ستفي بوعدها بالشموليّة والتركيز على إعادة بناء البلاد والسّعي إلى السلام والمصالحة، أو ببساطة استبدال الدكتاتورية القاسية بدكتاتورية جديدة.
ولعلّ من السابق لأوانه أن نحدّد ما إذا كان الثوار سيلتزمون بوعودهم فيما يتصل بالشمولية ومعاملة كل مواطن، بغض النظر عن عرقه، على قدم المساواة أمام القانون. ولكن هناك إشارات مهمة وإيجابيّة تشير إلى أن القادة الجدد من المرجح أن يتبعوا ما كانوا يقولونه لإثبات التزامهم بإقامة حكم مسؤول وشرعي.
ولتحقيق هذه الغاية دعوا إلى الوحدة الوطنية والإنتقال السلمي للسلطة. والتقى زعيم الثوار، أبو محمد الجولاني، برئيس الوزراء المنتهية ولايته محمد الجلالي لمناقشة انتقال السلطة لإظهار رغبته في العمل مع المسؤولين ذوي الخبرة لضمان إنتقال أكثر سلاسة للسلطة والإشراف المؤقت على البيروقراطية. كما وضع هادي البحرة، رئيس الإئتلاف الوطني السوري، خططاً لفترة إنتقالية مدتها 18 شهراً ومد يده للمساعدة في صياغة دستور جديد وإجراء إنتخابات كما يرغب زعماء الثوار.
ولإظهار التزام زعماء الثوّار بالعدالة، أقسموا على محاسبة العديد من ضباط الجيش المتورطين في التعذيب والالتزام بإقامة “دولة الحرية والمساواة وسيادة القانون والديمقراطية”، كما ذكر سفير سوريا لدى الأمم المتحدة مندوب سوريا في الأمم المتحدة قصيّ الضحّاك. ولقد أصدروا تعليمات لأتباعهم بالحفاظ على مؤسسات الدولة واستعادة الخدمات الأساسية وإعادة فتح البنوك لضمان الإستقرار الإقتصادي. كما وجهوا ضبّاطهم لمنع تدنيس الأضرحة والمراكز الثقافية للعديد من الجماعات العرقيّة، بما في ذلك العلويين الموالين للأسد، ممّا جعلهم يشعرون بالطمأنينة والتفاؤل بأنهم لن يُستبعدوا من الإنضمام إلى العملية الانتقالية السياسية.
ونظرًا للحكم الإرهابي الذي فُرض على الشعب السوري، يبدو أن القادة الجدد ملتزمين ببداية جديدة يتوق إليها الشعب، وليس مجرد استبدال دكتاتورية الأسد القاسية بأخرى جديدة. إنهم يريدون كتابة فصل جديد من شأنه أن ينهي آلام ومعاناة ويأس الشعب وخاصة على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية منذ اندلاع الربيع العربي ويجلب الأمل في مستقبل أفضل واعد. وفي المجمل، يبدو الأمر وكأن عصراً جديداً قد بدأ في سوريا.
ولكن العلامات الإيجابية المذكورة أعلاه ليست خالية من التحديات العديدة المرتبطة بتغيير النظام، والتي تشمل دمج الجماعات المسلحة في هيكل موحّد والحفاظ على جميع مؤسسات الدولة، فضلاً عن المفاوضات الشاقة بين العديد من جماعات المعارضة ذات الأيديولوجيات والولاءات المختلفة. وهناك أيضا مخاوف من أن التغييرات المتسرّعة قد تدعو جماعات مسلحة أخرى إلى الظهور وإغراق البلاد مرة أخرى في حرب أهلية وتدمير ما تبقى تحت حكم الأسد.
وأخيرا، فإن الأمر الأكثر إثارة للقلق يتعلق بالجذور الإسلامية لهيئة تحرير الشام، ويثار السؤال حول ما إذا كان زعيمها، أبو محمد الجولاني، المنتمي سابقا إلى تنظيم القاعدة، سيعود إلى التطرف أم لا. ولتخفيف هذه المخاوف، أوضح الجولاني أن قطع علاقاته مع تنظيم القاعدة يعود إلى عدة سنوات وتعهّد بالسعي إلى التعددية والمساواة العرقيّة والتسامح الديني.
وما يحدث محليّا ً سوف يؤثر على القوى الأجنبية، وخاصة تركيا وإيران وروسيا، التي لها مصالح جيوستراتيجية راسخة في سوريا. إن الطريقة التي سيناور بها زعماء الثوّار بين هذه القوى المتنافسة سوف يكون لها عواقب وخيمة على سوريا ومكانتها في منطقة غير مستقرة مثقلة بالصراعات والمنافسة على النفوذ الأكبر مع القادة الجدد في دمشق. وبغض النظر عن هذا، فإن الأمر الأكثر إلحاحًا في الوقت الحالي هو أن تتخذ الولايات المتحدة وإسرائيل، على وجه الخصوص، عدة إجراءات لتشجيع القيادة السورية الجديدة على متابعة ما وعدت به علنًا والحفاظ على الخطوات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية الأوليّة التي اتخذتها.
ينبغي على الولايات المتحدة أولاً إزالة هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب لإرسال رسالة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة مستعدة لإظهار ثقتها الأولية في أن القيادة الجديدة سوف تتبع بالفعل ما وعدت به. ولأنّ الشرعية أمر بالغ الأهمية للقيادة الجديدة، فينبغي على الولايات المتحدة أن تعرض على الثوار الإعتراف الدبلوماسي بشرط التزامهم بالديمقراطية وسيادة القانون.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة الإنخراط في دبلوماسية القنوات الخلفية لمناقشة الأمن الإقليمي وعرض التعاون. إن الولايات المتحدة قادرة على تقديم المساعدة الإقتصادية من خلال إزالة العقوبات التي يعود تاريخها إلى عام 2012 أولاً، والمساعدة في الجهود الرامية إلى استعادة الأموال التي سرقها الأسد نفسه وحكومته ودعم جهود إعادة الإعمار والتي يمكن أن تساعد بشكل كبير في تحسين الظروف المعيشية واستقرار البلاد. وأخيراً، يمكن للولايات المتحدة أن تقدم المعرفة الفنيّة والتدريب لمنظمات المجتمع المدني وتساعد في تعزيز وسائل الإعلام المستقلة والمؤسسات الديمقراطية.
ومن خلال اتخاذ هذه التدابير وغيرها، يمكن للولايات المتحدة أن تثبت التزامها بدعم تطلعات الشعب السوري إلى الديمقراطية وآفاق النمو والإزدهار مع تخفيف مخاوف الولايات المتحدة بشأن الإستقرار الإقليمي.
ولمنع أي صراع محتمل مع الحكومة السورية الجديدة، وضعت إسرائيل ثلاثة خطوط حمراء للثوار، وتحدتهم ألا يتجاوزوها. وتشمل هذه الخطوط: 1) عدم السماح للأسلحة الكيميائية بالوقوع في أيدي الثوار الجهاديين؛ 2) منع إيران من نشر قوات إيرانية لإعادة بناء أي منشآت عسكرية على الأراضي السورية؛ و3) عدم نشر أي قوات معادية بالقرب من الحدود الإسرائيلية. وقد اتخذت إسرائيل بالفعل عدة تدابير احترازية لمنع أي سوء تفاهم، بما في ذلك الإستيلاء مؤقتًا على المنطقة العازلة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان وقصف مواقع الأسلحة الكيميائية المشتبه بها، وفرض حظر التجوّل في عدة قرى داخل المنطقة العازلة.
وبعد أن أكدت إسرائيل أن هذه التدابير وقائية، فإنها تستطيع أن تتخذ عدة خطوات لتشجيع العلاقات السلمية مع الحكومة الجديدة في حين تخفّف من حدّة العداء التقليدي للثوّار تجاه إسرائيل. وبادئ ذي بدء، يتعيّن على إسرائيل أن تنشئ خط إتصال مع الثوّار وتمدهم بالمساعدات الإنسانية لتطوير حسن النية. فضلاً عن ذلك، تستطيع إسرائيل أن تعرض حوافز اقتصادية وتثبت اهتمامها بمعالجة المخاوف الأمنية في سوريا. ومن خلال الجمع بين التواصل الدبلوماسي والتدابير الأمنية الاستراتيجية والحوافز المالية، تستطيع إسرائيل أن تطوّر علاقة مستقرة مع الحكومة السورية الجديدة في حين تحافظ على أمنها.
هناك العديد من القضايا الحرجة الأخرى التي تفصل إسرائيل عن الثوّار؛ وأهمها مستقبل مرتفعات الجولان. ولكن سواء قبلت الحكومة الجديدة الإيماءات الإسرائيلية أم لا، فإن إسرائيل باتخاذ هذه التدابير تستطيع أن تخلق جواً إيجابياً من شأنه أن يسهل المفاوضات البناءة حول أي قضية متضاربة في المستقبل.
إن الإنتصار المذهل الذي حققه الثوّار السوريون يفتح آفاقاً جديدة لشرق أوسط أكثر سلاماً، أو قد يمهد الطريق لمزيد من العنف والموت والدمار. ويتعيّن على السلطة السورية الجديدة أن تقرر أي طريق تختار أن تسلكه. ولكن هناك أمر واحد مؤكّد هو أنه رغم أن القوى الأخرى، وخاصة تركيا وروسيا وإيران، لديها مصلحة فريدة في مستقبل سوريا، فإن ما ستفعله الولايات المتحدة وإسرائيل سيكون له التأثير الأعظم على المسار الذي سيختاره النظام الجديد في دمشق.