بقلم نافع البرواري
كيف أعرف من أنا إذا لم أعرف من أنت؟ فأنا بدونك لا أعرف نفسي. فمن خلال الآخر (أنت) أعرف حقيقة كياني وهويّتي وجنسي, لأنَّك نظيري ومثالي. فالمحبة لايمكن أن تسمى محبة الآ بوجود الآخر لأنّ المحبة هي أنبثاق مشاعر جيّاشة من شخص يَعطي وآخر يَستقبل هذا العطاء ، المحبّة وفاء وعملية تجرّد من الذات من أجل الآخر, وقمة السعادة الحقيقية هي في العطاء وليس في ما أحصل عليه, وللأسف الكثيرون يستغلّون المحبة لحالة النفع فتصبح سلبية, وعلاقة المحبة ناجحة عندما نُطبّق القاعدة الذهبية الورادة في الكتاب المقدس التي تقول"مثلما تُريد لنفسك هكذا أحب لأخيك"."لأنّ الله سكب محبّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا"روميا 5:5" هكذا يجب على المسيحي أن تنبثق منه المحبة التي هي رائحة المسيح الطيبة المرتفعة الى الله, فلا يخطئ الآخرون ملاحظتها، (2كورنثوس2:15").
فرسالة المسيحي هي أنّه طالما أستقى محبته" من ينبوع الماء الحي" يسوع المسيح معطي الحياة فلا بد لهذا المسيحي أن يسقي الآخرين بهذا الماء الحي "المحبة" الفائضة منه. لأن الكتاب يقول" مجانا أخذتم مجانا تعطوا".
فالمجتمع المسيحي رسالته هي جذب الناس للمسيح بالمحبة التي يراها الناس فيهم فتنتقل الى الآخرين, فكما هناك قوة جاذبية بين الأجسام في الكون هكذا تكون الجاذبية بين الناس بالمحبة المستقاة من يسوع المسيح الذي هو مصدر هذه المحبة، فالمسيحية تنفرد عن بقية الديانات بهذه المحبة, فهي مفتاح الحياة المسيحية بل مفتاح ملكوت السماء، عندما يمتلأ المؤمن من محبة الله, فلا بد أن تفيض على الآخرين, انها محبة التضحية ومحبة فيها نشارك الآخرين أفراحهم وأتراحهم وأن نصل الى قلوبهم ونمسح دموعهم ونساعدهم في أجتياز كلّ مشاكلهم. يخبرنا سفر أعمال الرسل كيف كان المؤمنين يشاركون الخبز مع بعضهم البعض وكيف كانوا يداومون في الصلاة في الهيكل بقلب واحد "أعمال 2:46,47".
المحبّة هي العطش الى الآخر والأحتياج الى الآخر وبذل الذات من أجل الآخر, فقمة المحبة هي العطاء والبذل، والمسيح أحبنا حتى النهاية وهو على الصليب حيث صاح "أنا عطشان" أنّه عطش "المحبة" وهي تنبع من الداخل الى الخارج, فهي تتدفق كما يتدفق الماء من الينبوع الصافي, وهكذا كان الماء والدم الذي تدفق من قلب المسيح وهو على الصليب رمزا لهذه المحبة النابعة من قلب الله لنا نحن العاجزين عن ادراك هذه المحبة الغير المشروطة والمضحية. فمحبة المسيح لنا هي مثل الماء الحي الذي يروي عطش كل انسان فيرتوي ولن يعطش بعد ذلك ابدا، وهي الخبز الروحي النازل من السماء الذي وحده يشبعنا فمحبته تنعش النفس والروح و تشفي الجراح وتحّول الجحيم الى جنة, فالمحبة هي علاج النفس والروح والجسد، الحب هو جوهر الوحي المسيحي. ووحده حبُّ الله للبشر يدل على دافع الخلاص للبشرية. هذا الحب, الذي كشفه يسوع المسيح, يحرّك الحب فينا والذي يدفعنا الى التحدي حتى الموت, لأنّ المحبة أقوى من الموت, وهذا ما تشهد له تاريخ الكنيسة عبر الأجيال(وخاصة الكنيسة الأولى), ولكن للأسف صار الأيمان اليوم متزعزع وبدوره زعزع المحبة, واصبح الأنسان المؤمن يستسلم لتأثير المحيطين به, خاصة وقت الأضطهادات والمحن, وبسبب الأنقسامات بين المسيحييّن أنفسهم ضَعُفَ أو انتكس الحماس الذي عرفته الكنيسة الأولى مع الأسف, لقد حلّت الديانة الروتينية (ديانة الطقوس ومظاهر التدين) محل العلاقة(الحميمية) بين الله والأنسان وبين الأنسان وأخيه الأنسان, ونتيجة لفتور الأيمان تدهورت أواصر المحبة بين البشر، فنشاهد اليوم في الكثير من الكنائس في العالم فتوراً وخمولاً, فاصبحت هذه الكنائس تمارس الشعائر الدينية كوظيفة (واجبات) طقسية يؤديها الناس دون تحريك قوّة الروح القدس ليشعل نار الأيمان ويلهب المحبة في قلوب المؤمنين, فأصبح ينطبق علينا قول المسيح عن ملاك كنيسة لاودكيَّة:"أنا أعرف أعمالك, وأعرف أنّك لا بارد ولا حارٌ, وليتُكَ كُنتَ باردا أو حارا! سأتقيّؤكَ من فمي لأنّك فاتِرٌ, لا حارٌ ولا باردٌ"رؤيا 3:15" المحبة هي: أن تبيّن للآخرين مدى أهتمامك العميق بهم, المحبة تؤدي الى الصدق والأمان, المحبة تأسر القلوب, المحبة تستر الأخطاء ، يقول بولس الرسول في رسالته الثانية الى كورنثوس:
,"المحبة تصبر وترفُق, المحبة لاتعرف الحسد ولا التفاخر ولا الكبرياء. المحبة لا تسيء التصرف, ولا تطلب منفعتها, ولا تحتدُّ ولا تظنُّ السوء. المحبة لا تفرح بالظلم بل تفرح بالحق, المحبة تصفحُ عن كُلّ شئ, وترجو كُلِّ شيء, وتصبرُ على كل شيء, المحبة لا تزول أبدا "2كورنثوس13" .
فالمحبة الحقيقية ليس فيها انانية وهي على النقيظ من الشهوة, لأن المحبة التي هي من الله تتجه الى الخارج، الى الآخرين وليس الى الداخل, الى أنفسنا, وكُلما أقتربنا من المسيح نُظهر محبتنا للآخرين, فأنا لا أستطيع أن أقول لأنسان أن يكون منعزلا عن الناس والعالم كليّا أنه يُحبُّ, لأنَّ المحبّة هي فعل متجسّد (كما جسّد يسوع المسيح محبة الله للعالم على خشبة الصليب) فالمحبة تعني العمل, عمل شيء من أجل من نحبهم( كما كان يسوع المسيح يطبق أقواله بأعمال الخير) , وذلك ببذل الجهد والمال والأهتمام, المحبة تقاس بكيفية التعامل مع الآخرين بالخدمة الخالية من الأنانية وقد شبه الرب يسوع المسيح هذه المحبة بمحبة الطفل الصغير الذي لا يستطيع أن يردّ الجميل "متى 10:42". من الصعب أن يحب الأنسان لو فكّر في ذاته فقط.
بماذا تتمييز المسيحية عن بقية الديانات والمعتقدات؟
الأجابة بكل بساطة لهذا السؤال هو" المحبة". فكلّ الديانات التي جاءت قبل المسيح وبعد المسيح لم تشفي غليل الأنسان المتعطّش, ليس الى شرائع وقوانين النهي وفرائض للعقاب والثواب, بل كان الأنسان ولازال متعطش الى شئ أسمى من الأوامر والشرائع , كان ولا يزال متعطشا الى من يحبُّه ويبادله المحبة وهذه كانت غاية جميع الشرائع الألهية, لأن الله زرع فينا هذا الشوق الى المحبة ، "المحبة" هي شريعة المسيحية "أي العلاقة بين الله والأنسان وبين الأنسان وأخيه الأنسان" ففي المسيح يسوع لا الختان ولا عدمهِ ينفع شيئا, بل الأيمان العامل بالمحبة"غلاطية 5:6". يقول الأديب عباس العقّاد"المسيح أتى بشيء لم يأتي به قبله ولا بعده لأنّه أتى بشريعة الحب" ، يقول يوحنا البشير:"اذا كان العالم لايعرفنا, فلأنّه لايعرف الله....نحن أبناء الله"يوحنا 3:1,2" من خلال المسيح عرفنا عظمة ومحبة الله الغير المحدودة للبشر, فقد كشف الله عن طبيعته وجوهره بطريقة يمكن رؤيتها ولمسها وأحساسها "يوحنا 1:18".
ويقول الرسول بولس في مكان آخر بما معناه أنّ شهوات هذا العالم أعمت عيون الأمم (أي غير المؤمنين بالمسيح) فلا يستطيعوا أن يميزوا بين الخير والشر بين المحبة والشهوة, فهناك المحبة الحقيقية الصافية النقية التي هي عطاء وهناك الشهوة الشريرة التي هي الأمتلاك ، ألاولى سماوية والثانية هي من الشرير.
أعظم شيء يحتاجه الأنسان على الأطلاق في حياته هو أن يُبدي الناس له محبتِهم , وأتعس شيء للأنسان أن يعيش محروما من محبّة الآخرين له فهو سيعيش في تعاسة, وحتى علم النفس يؤكّد أقوال الكتاب المقدس عن هذه الحقيقة, فالطفل المحروم من المحبة والحنان قد يتحول الى وحش كاسر في حياته بسبب حرمانه من حنان ومحبة الوالدين أو المحيطين به, والأنسان في داخله طفلٌ يحتاج الى دُفئ المحبة, لأنّ المحبة تُعطينا الفرح والسلام, فكلُّ البشرية تبحث عن المحبة لأنّها أجمل وأرقى علاقة بين البشرية وهي سرُّ(الحياة) لا يعرفه الاّ الذين يختبرون نتائج هذه المحبة, ويركز البشير يوحنا على المحبة كطريق للحياة الحقيقية, فيقول عن الذين لا يسلكون في المحبة ".....ولكن من يكره أخاه فهو في الظلام , وفي الظلام يسلك ولا يعرف طريقه, لأنّ الظلام أعمى عينيه"1يوحنا 2:11". وحتى تأديب الله لنا فغايته تقويمنا لأنّه يحبنا, فالمحبة هي السبب وراء اللوم والتوبيخ والتأديب للرجوع والعودة الى الله. يسوع المسيح جاء ليضع لنا شريعة المحبة الحقيقية وهي أن نحبُّ حتى أعدائنا مهما كانت الأسباب "سمعتم أنّه قيل : أحِبَّ قريبُك وأبغض عدوّكَ. أما أنا أقول لكم : أحبّوا أعدائكم"متى 5:13". المحبة تتجلّى عندما نغفر ونصفح حتى لأعدائنا "لا تنتقموا لأنفسكم, أيُّها الأحباء, بل دعوا هذا لغضب الله . فالكتاب يقول : ليَ الأنتقام, يقول الرب, وأنا الذي يجازي ولكن : اذا جاع عدوُّك فأطعمه, وأذا عطش فأسقه"روميا12:19,20 .
الغفران قد يكسر حلقة الأنتقام ويؤدي الى المصالحة المتبادلة. وقد يخجل العدو فيغيّر من أساليبه, فمقابلة الشر بالشر (كما في بعض الديانات والمعتقدات) سيُسبب لنا من الضرر مثل ما يسببه للعدو, ولكن الصفح عنه سيحررنا من عبء ثقيل من المرارة. المحبة تجمع كلِّ الأديان وتربطنا باله المحبة (المسيحي – اليهودي – المسلم...الخ ) "حيث الأيمان أحيانا يُفرّق" ولكن لايستطيع أن يحب الأنسان اذا كان خاضعا للعبودية (عبودية الخطيئة), فقط بالحرية (بعد معرفة الحق) يتحرر الأنسان ليستطيع أن يحب ويتحرر من كُلِّ المعتقدات التي تفصل الأنسان عن أخيه الأنسان (مثل السامري الصالح في انجيل لوقا يؤكد فيه الرب يسوع أنّ المحبة تتجاوز العقائد والفواصل الطبقية والحواجز التي يضعها البشر)" راجع لوقا 10" .
فالقريب (بالمفهوم المسيحي) هو أي انسان محتاج الى المساعدة, من أي جنس كان, ومن أي عقيدة ومن أي لون, ومن أي خلفية أجتماعية, فالله أحب كُلِّ العالم "اذا كان العالم لا يعرفُنا, فلأنّه لا يعرف الله.....ولا يكون من الله من لايحبُّ أخاهُ"1يوحنا 3:1,10" فيسوع المسيح جاء لخلاص العالم, وتحرير الأنسان من العبودية للخطيئة, فهو ليس لفئة معينة من البشر بل للعالم كله "أذهبوا الى العالم كُله وأعلنوا البشارة الى جميع الناس" مرقس 16: 15"، يسوع المسيح في مثل السامري الصالح يعطينا أربعة نماذج من الناس في تعاملهم مع القريب (أي الأنسان)
1- علماء الشريعة يتعاملون مع المواضيع المطروحة عن البائسين والمشردين والفقراء والمجروحين....الخ , كموضوع للجدال والمناقشات فقط كما فعل عالم الشريعة اليهودية مع المسيح ليحرجه "لوقا 10:25".
2- ويتعامل اللصوص (سارقي أموال الناس وتجار الحروب....الخ) مع هؤلاء الناس كموضوع للنهب والسرقة, كما تعامل اللصوص مع الرجل السامري في مثل قصة السامري الصالح.
3- أما الكاهن في مثل السامري الصالح يمثّل لنا الكثيرين من رجال الدين الذين يتجنّبون مواجهة المشاكل للآخرين لانّها مشاكل لا تتعلق بهم فهؤلاء يعتبرون مركزهم الديني مجرّد لغرض الأرشاد وتعليم الناس شريعة الله ولكنهم في الحقيقة قلوبهم بعيدة عن محبة الله وأخوتهم في الأنسانية, الذين يعانون شتّى أنواع الآلام والظلم والفقر والجوع والمرض, بل هم بعيدين عن وصية الله الأولى التي تقول"أحب الرب الهك من كلّ قلبك, وبكلّ نفسك, وبكل قوتك, وبكل فكرك, وأحب قريبك مثلما تُحبُّ نفسك"لوقا10:27" انّ الرب يسوع المسيح يقول لهؤلاء المتديّنين والذين يحسبون أنفسهم علماء الشريعة "أبتعدوا عنّي, ياملاعين, الى النار الأبدية المهيّأة لأبليس وأعوانه :لأنّي جعتُ فما أطعمتموني , وعطشتُ فما أسقيتموني , وكنتُ غريبا فما اويتموني, وعُريانا فما كسوتموني, ومريضا وسجينا فما زرتموني "متى 25:41,42,43" نعم أنّ مانفعله للآخرين يبين حقيقة محبتنا, ويسوع المسيح يريد أثمار ايماننا وخاصة مع أخوتنا المجروحين جسديا ونفسيا وروحيا .
4- أما السامري الصالح الذي(كان بحسب المفهوم اليهودي وثنيا), تعامل مع المجروح, كأنسان يستحق الحب والرحمة, فهو يمثل كلِّ انسان صالح يساعد المحتاجين ويعمل على تخفيف معاناتهم معنويا وماديا, قد تكون بكلمة طيبة أو محبة صادرة عن القلب التي تكفي لضماد جروح الآخرين, أو القيام بأعمال الرحمة ومساعدة المحتاجين حوله, وعن هؤلاء يقول الرب يسوع المسيح"تعالوا يا من باركهم أبي, رثوا الملكوت الذي هيّأهُ لكم منذ منذُ انشاء العالم, لأني جعت فأطعمتموني وعطشتُ فسقيتموني, وكنتُ غريبا فاويتموني وعريانا فكسيتموني, ومريضا فزرتموني, وسجينا فجئتم اليَّ"متى 25:34,35,36".
ويقول يوحنا البشير هذا هو الشاهد الذي عاش المحبة ورأى الحق "فالوصية التي سمعتموها من البدءِ هي أن يُحبَّ بعضنا بعضا, لا أن نكونَ مثل قايين الذي كان من الشرّير فقتل أخاهُ....نحنُ نعرف أننا أنتقلنا من الموت الى الحياة لأنّنا نُحبُ أخوتنا. من لايحبُّ بقي في الموت"1يوحنا 3:12,14" .
آدم لم يستطع أن يعيش سعيدا وهو في الفردوس بالرغم من كُلّ المميزات التي أنفرد بها عن بقية المخلوقات حيث أعطاه الله السلطة ليكون سيد الكائنات والخليقة, الا أنه كان مهموما هائما, فقال الله "ليس مستحسنا أن يبقى ادم وحيدا, سأصنع له معينا نظيره "تكوين 2:18" هكذا خلق الله من ضلع ادم حواء نظيرة له ليبادلها المحبة .
انها لمأساة بشرية حقيقية أن يفكر(لمجرد التفكير) الأنسان بكراهية أخيه الأنسان ، فماذا نستطيع أن نصف مُعتقد أو دين يؤمن بقتل أخيه الأنسان، هذا الذي يمثل صورة الله على هذه الأرض ، وهو أيضا انعكاس لصورة أخيه الأنسان ونظيره ؟
سؤال يحتاج الى الأجابة.