بغدادُ والشعراءُ والصور ذَهَبُ الزمان وضوعه العطِرُ
يا ألف ليلةٍ يا مكملة الأعراس يغسلُ وجهك القمرُ
هذه القصيدة هي من أروع القصائد التي غنتها فيروز، عن أجمل بلدٍ في الدنيا (العراق) وأجمل مدينة (بغداد) وهي من تأليف الرحابنه الأخوين عاصي ومنصور، أثناء زيارتها للعراق صيف 1976، يوم كانت بغداد حاضرة الدنيا وأُم المدن وعاصمة العواصم في وقت كانت فيه أغلب عواصم العرب تعيش قريباً من الظلام وبعيداً عن الحضارة باستثناء القاهرة وبيروت.
هناك حقيقة أشبه بالطرفه، إنه عندما قرر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أن يعمر مدينة (دبي) عاصمة الأمارات، في سبعينات القرن الماضي اجتمع بالوفد الفني المكلف بالأعمار قائلاً لهم: أريدكم أن تجعلوا من دبي مدينة أشبه بالبصرة..
هذا الحديث كان في منتصف السبعينات حينما كانت بغداد تضاهي بعض العواصم الأوربية، حيث حركة البناء والأعمار لتتحوّل العاصمة إلى ورشة كبيرة، ولكن حركة المعاول توقفت وصمتت الرافعات مع بداية الثمانينات ليتحوّل الحجر إلى قنابل مدافع حيث حرب الخليج الأولى وهدأ ضجيج بغداد تلك العاصمة التي كانت لا تنام والآن هي نائمة وغدا نهارها ليلاً في حين كان ليلها نهاراً.
بعد نيسان 2003 قالوا لنا.. إنها مسألة وقت في أن تصبح بغداد مثل أجمل عواصم الغرب، باريس، روما أو ربما لندن.. وها نحن في منتصف العقد الثاني وبغداد مدينة تَغْفُو على أصواتِ الرصاص وتستيقظ على الإنفجارات والدماء وشوارع مغلقة، نعم مغلقة مقفلة بأبواب حديدية عليها أقفال كما هو الحال في شارع النهر المحصور ما بين الرشيد ودجلة ( وكان يسمى شارع البنات أيضا ) كان ظاهرة للجمال في بغداد..
وأزاء هذا الوضع اخترت عنواناً لمقالتي (عذراً فيروز: بغداد، لا شعراء، لا صور" ) مما حدا بالبعض أن يكتب قصيدة (تشاكس) كلمات الأخوين رحباني فقالوا في بغداد:
فيروزُ عفواً خانك النظرُ
بغداد يَغسل وجهها الكدرُ
من حَسَّ روحَ الشعرِ في بلدٍ
من قال زَعْما أنه عَطِرٌ
حتى الورود هنا تُحتقرُ
- بغداد.. صيف 1967
في تموز 1967 كانت رحلتي الأولى صوب العاصمة الذي كان الوصول إليها حدثاً غير إعتيادي باعتبارها (أم الدنيا) كيف لا وقد كُتِب عنها المجلدات منذ عهد مؤسسها (أبو جعفر المنصور).
بعد ثمان ساعات من رحلة قادنا فيها المرحوم (هادي حنونا) بالباص الوحيد (نيرن صفراء) من بغديدا إلى بغداد لنتوقف في مقهى يقع في منطقة (المربعة) المواجهة لشارع الجمهورية (جيخانه ديغديداي) هي مقهى بالشكل المتعارف عليه ولكنها مدينة في مقهى تجدها غاصة بالرواد، الواقفون فيها ضعف عدد الجالسين لأن أغلبهم يأتي إليها عصر كل يوم ليتعرّف على آخر أخبار بلدته من خلال صديق جاء منها أو يستلم أمانة من الأهل بعثوها من خلال السيارات القادمة، أحد أركان المقهى تحوّل إلى مخزن للأمانات وأغلبها كواني البرغل والحبيّة وصناديق خبز الرقاق وأحياناً العرق المحلي أو بعشيقة.
المرحوم (حبيب جايجي) صاحب هذا المقهى، إنسان طيب، احتفظت ذاكرته بالمئات من صور الأشخاص والأخبار أو الرسائل التي يستلمها، يجيبك على إستفسارك بمجرد السؤال.
كل هذه الخدمة من رسائل، أمانات أو توصيات يوصلها سائق السيارة أو صاحب المقهى مجاناً، مجرد خدمة يؤديها الناقل لأبناء بلدته وهو يشعر بالراحة عندما يؤديها.. الآن لا يستلم سائق السيارة الرسالة إلاّ بعد ترفق معها (25) ألف دينار.
- شيءٌّ عن تاريخ بغداد
بغداد، عاصمة العراق، مساحتها (1,134)كم2، نفوسها (7) مليون نسمة أكبر مدن العراق وثاني أكبر مدينة عربية بعد القاهرة. بناها الخليفة العباسي (أبو جعفر المنصور) في القرن الثامن الميلادي (762م) واتخذها عاصمة له.
يخترقها نهر دجلة وينصفها إلى جزئين (كرح، رصافة) تعرضت للكثير من الغزوات الخارجية فقد غزاها (المغول، الإنكليز، العثمانيون، الفرس، الأمريكان).
أقدم تسمية لبغداد وردت في عهد الملك البابلي (نبوخذنصّر) إضافة إلى وثيقة قضائية أيام الملك (حمورابي) إذ وردت تسمية (بغداد) وتعني (هيكل الصقر) أو (باغ) وتعني الصنم و(داد) اسم الإله وهذا ما جاء في المعجم السومري للدكتور بهاء الدين الوردي وأيّده عالم الآشوريات الفرنسي (لابات) في معجمه الخاص بالعلامات الأكدية، ويقال أن (بغداد) عرفت في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وسميت مدينة السلام استناداً الى اسمها المركب، حيث أن لفظة (باغ) آرامية وتعني البستان و (داد) تعني الحبيب، فيصبح المعنى جنينة الحبيب او بستان الحبيب..
أما تسمية (الكرخ) فهو آرامي وتعني (القلعة) أو (المدينة المحصنة) كما في (كركوك)- بيث كرخ سلوخ- وهناك مَنْ ينسبه إلى نهر (كرخايا) الذي هو موضع جامع (براثا) الحالي. أما تسمية (الرصافة) فهي كلمة أكدية (رصابو rasapo) وتعني الطريق المرصوف وأصلها (رصبو) أو (رصاب) وقد أخذتها العربية بنفس المعنى فقيل (طريق مرصوف) وقد أطلق الآشوريون على المدينة (راسابا) أو رصافة ومن أسمائها (رَسْفْ) أو (رَزْفْ). وقد أشار الملك (شلمنصر) ببناء موقع تحوّل إلى مدينة عام 840 ق.م أطلق عليه إسم (راسابا) رصابه.
- شكراً للجواهري
أقول شكراً لشاعر العرب الأكبر (محمد مهدي الجواهري) الذي جعلنا أن نتعرف على بغداد من خلال حضورنا لمهرجانه السنوي الذي رعته وزارة الثقافة واتحاد الأدباء والذي أُقيم للفترة من 13- 15 تشرين الأول 2011 وكان فرصة للشعراء للتهكم بحرارة وسخريةمن العناءات والأوجاع وقد رافقهم الجواهري من خلال شعار المهرجان (أبدأ تجوب مشارقاً ومغارباً) وفيه استمد الشعراء انطلاقة البوح بلا تردد فكانت كلماتهم تنهمر مطراً ملوّناً. وخلال هذه التظاهرة الثقافية اتفقت مع زميليَّ هيثم بردى وابراهيم كولان في أن نقوم بجولة حرة راجلة تبدأ من ساحة الجندي المجهول القديم (الفردوس) باتجاه شارع السعدون ومن ثم ساحة التحرير (الباب الشرقي) مروراً بشارع الرشيد وشارع المتنبي مختتمين رحلتنا حيث ساحة الميدان وهذه بعض من مشاهدتنا.
- الجندي المجهول والسعدون
للجنود المجهولين الذين ذهبوا في الحروب، هذا النصب كان من تصميم المهندس (رفعت الجادرجي) في بداية ستينات القرن الماضي أُزيل هذا النصب في الثمانينات ليحل مكانه تمثال للرئيس العراقي السابق والذي أُزيل أيضاً عند دخول القوات الأمريكية بغداد في 9/ نيسان/ 2003.
شارع السعدون، أحد أهم شوارع بغداد والمنطقة التي حوله تسمى بنفس الأسم يقع في جانب الرصافة ويُعد مركزاً مهماً وحيوياً لما يحتويه من مكاتب السفر وعيادات الأطباء والفنادق فضلاً عن دور المكتبات الشهيرة سمى باسم (عبد المحسن السعدون) أحد رؤساء الوزارة العراقية وقد توفي سنة (1929) في ظروف غامضة.. تمثال السعدون صممه فنان إيطالي عام 1933 نقل إلى مكانه الحالي (ساحة النصر) عام 1962 بعد إن كان في مدخل شارع أبي نؤاس، هذا التمثال (أجتث) من مكانه يوم 9/ تموز/ 2003 وعلى مرأى من الدبابات الأمريكية حين نقل من أساسه إلى جهة مجهولة، ولكن أبناء عشيرة السعدون وأقاربه بادروا إلى صب التمثال مجدداً بمادة (الفايبر كلاس) واعيد الى مكانه الاصلي يوم 15/ آب/ 2003.
شارع السعدون الذي كان جزءاً مهماً من الذاكرة العراقية، يوم كان يضج بحركة الناس وقد توزعوا بين محاله التجارية ومطاعمه وفنادقه الفاخرة ودور السينما العريقة التي لا يحلو للبغداديين إلاّ أن يرتادوا أفراداً أو عائلات..
هذا الشارع أصبح اليوم شبه مهجور وقد هجره ناسه وفقد معظم معالمه: مطعم تاجران، مثلجات أكسبريس فلسطين، جامع الأورفلي، مكتبة المثنى، فندق بغداد، المقاهي، المسارح، عيادة الأطباء، دور السينما، شركات السياحة ومكاتب السفر..
شارع تسكنه الأشباح، عمارات متهرئه بلا ساكنين ومحال ومكاتب بلا مشترين يلتفت فيه من غامر بقطعه يميناً وشمالاً خوفاً من الناسفة أو طلق ناري، حواجز كونكريتية مرصوفة أو مبعثرة، مياه آسنة، حفر ومطبات.
والبغداديون بانتظار جهود أمانة بغداد عن إصلاح ما يمكن اصلاحه، ولسان حالهم يقول: هل تصلح (الأمانة) ما أفسده الدهر.
- الباب الشرقي والرشيد
الباب الشرقي أو (الشرجي) وتسميتها الرسمية (ساحة التحرير) التي تمثل قلب بغداد النابض فهي مركزها ومكان لكل التجمعات السياسية والجماهيرية كونه أكبر ساحات العاصمة ومن أبرز معالمه (نصب التحرير) للفنان جواد سليم الذي أكمل في بداية الستينات. ساحة التحرير الآن مطوقة بالعسكر من جهاتها الأربع ومفارز تفتيش ثابتة وراجلة وعوارض كونكريتية في مداخل الشوارع التي تؤدي إليه.
شارع الرشيد أول شارع أُفتتح في بغداد عام (1916) وشهد دخول أول السيارات للعراق خلال فترة الأنتداب البريطاني بعد أن كانت وسيلة النقل المعتمدة عربات الخيول (الربل).
شارع الرشيد يحمل ذاكرة بغداد حيث شهد قيام العديد من التظاهرات والإعتصامات والمواجهات بين الأحزاب والقوى الوطنية الداعية إلى الإستقلال وأبرزها إحتلال بغداد (1917) وثبة كانون وتشرين (1952) اغتيال عبد الكريم قاسم (1959).
شارع الرشيد المرتبط اسمه بالخليفة هارون الرشيد يختلف عن كل شوارع العالم كونه يمتاز بطراز عمراني قديم جعله أبرز معالم بغداد التراثية والحضارية حيث توجد (دنك) على جانبيه من مدخله وحتى نهايته في ساحة الميدان.
عندما تدخل الرشيد من جهة الباب الشرقي تواجهك (شركة جقماقجي) وهو أول ستوديو خاص بتسجيل الأسطوانات وهذا الأستوديو وثق الفن العراقي ونقل أصوات المطربين إلى داخل وخارج العراق منهم: داخل حسن، حضيري أبو عزيز، ناصر حكيم، لميعة توفيق، زهور حسين، عفيفة اسكندر وناظم الغزالي وهذا الأستوديو زاره عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب ووقعا معه عقد لتسويق الأسطوانات تحول الآن إلى محل لبيع الملابس الرجالية.
ومن معالم الشارع (المقهى البرازيلية) التي عرفت بتقديم البُن البرازيلي الذي تفوح رائحته إلى مسافات بعيدة وكانت مقراً لطلبة الكليات والمثقفين والأُدباء والشعراء فيها يتبادلون آخر أخبار الثقافة وقد ارتادها بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، جواد سليم، نوري السعيد. هذا المعلم الثقافي وجدته مغلقاً بسلاسل حديدية.
ومن محلات التصوير الفوتوغرافية أمثال: أرشاك، نوفكس، المصور الأهلي، بابل الذي اشتهر بتصوير الشخصيات يديره اللبناني (جان) وقد تحول هذا المحل بعد وفاة صاحبه إلى محل لبيع الزيوت ودهن السيارات في بيئة غريبة عن الفن تديره زوجته.
ومن المحال التجارية الشهيرة في هذا الشارع (أُوروزدي باك) أو شركة المخازن العراقية وكان تابع لوزارة التجارة إضافة إلى محال أُخرى مهمة مثل: حسو أخوان، الياس أخوان، أحذية حداد وزبلوق، أربطة البلداوي، كعك السيد، شربت زبيب الحاج زبالة، جبن العرب التازة، مطعم الشمس الكبير.
أما المقاهي فقد ضم شارع الرشيد أشهر مقاهي بغداد مثل: الزهاوي، حسن عجمي، مقهى الشابندر، مقهى عارف آغا، مقهى أم كلثوم، ومن المعالم المهمة للرشيد، شارع النهر المحاذي لنهر دجلة وكان يطلق عليه شارع البنات لأن أغلب محلاته خاصة بالملابس والأكسوارات النسائية حاولنا الدخول إليه من بداية جسر الحرية وهو مدخله الرئيسي فوجدناه مغلقاً ببوابة حديدية عليها قفل كبير وربما لا يصدق أحد أن يقفل شارع ببابْ ولكن هذه هي الحقيقة.
أما أبرز معلم حضاري في هذا الشارع فهو (شارع المتنبي) ويعتبر السوق الثقافي لأبناء بغداد حيث تزدهر فيه تجارة الكتب كما يحتوي على مكتبات ومطابع وبعض المباني البغدادية القديمة كونه كان مقر الحكومة حيث: القشلة ، المدرسة الموفقية، ساعة بغداد، وتعرض هذا الشارع إلى سيارة مفخخة في 5/ أيار/ 2007 أدت إلى مقتل الكثيرين وتدمير العديد من المكتبات والمقاهي مثل مقهى الشابندر والتي تعتبر أكبر المراكز الثقافية في بغداد والعراق ولكن أعيد بناؤها من جديد.
وكان من المقرر أن نختتم هذه الرحلة بزيارة (مطبعة شفيق) التي تقع في ساحة الميدان ولكن يبدو أن الساحة مغلقة نهائياً وعندما اتصلنا بمديرها السيد (جوني ياكو) جاءنا ليضيفنا في داره بدلاً من المطبعة التي أصبح الدخول إليها من الشوارع الفرعية.
كان بودي أن أكتب الكثير عن بغداد وشارعها الرئيسي (الرشيد) ولكن وقد يكون لي عودة أُخرى عن الموضوع.