البطلة إيلاريا يوسف غسان تحصد المركز الأول في القفز والحركات الأرضية للمرة الثانية تواليًا      رئيس اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني يشارك في تشييع البابا فرنسيس إلى مثواه الأخير      مراسم جنازة البابا فرنسيس      غبطة البطريرك يونان يصلّي ويلقي نظرة الوداع على جثمان المثلَّث الرحمات قداسة البابا فرنسيس المسجَّى في بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان      صور.. القداس الإلهي بمناسبة تذكار القديس مار بينا / ارموطا      صور.. تذكار مار كوركيس في قرية تن بحضور سيادة المطران مار أزاد شابا      صلاة لراحة نفس البابا فرنسيس في عنكاوا كاتدرائية ماريوسف الكلدانية      المنظمة الآثورية تحيي الذكرى العاشرة بعد المائة لمذابح سيفو      غبطة البطريرك يونان يلتقي عدداً من أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية، أربيل - العراق      البطريرك ساكو يغادر إلى روما      "نملة الجحيم".. اكتشاف أحفورة نادرة تعود لأقدم نملة في التاريخ      دراسة تكشف: خلايا "الزومبي" قد تساعد في علاج السرطان      "ريمونتادا" برشلونة تكمل تفوق فليك... وتقرب أنشيلوتي من الرحيل      معزيا ذلك إلى تراجع معدلات هطول الأمطار.. محافظ أربيل يحذر من صيفٍ قاسٍ      تلك الوردة البيضاء على رخام الضريح، علامة بأن تريزيا الطفل يسوع "قد أصغت إليه"      "بواسطة التسميم".. حملة للقضاء على الكلاب السائبة في الموصل      تقارير: وقود للصواريخ الباليستية وراء انفجار بندر عباس في إيران      كندا.. قتلى بعد دهس سيارة لحشد في مهرجان بفانكوفر      باريس تتحرك تجاه جهاديين فرنسيين في العراق      مقترح أوكراني جديد للسلام مع روسيا.. هذه تفاصيله
| مشاهدات : 5431 | مشاركات: 0 | 2010-01-22 11:57:38 |

سفر يونان النبي وصوم نينوى ( الباعوثا )

الراهب آشور ياقو البازي

سفر يونان النبي وصوم نينوى

( الباعوثا )

 

 

 الراهب آشور ياقو البازي

 

المقدمة

 

سفر يونان من أقصر أسفار العهد القديم، وهو السفر الخامس من بين أسفار ( الأنبياء الصغار )، يتكون من أربعة فصول فيها ( 48 ) آية، قد يعود زمن تأليفه إلى مرحلة ما بعد الجلاء ( السبي )، وهو أكثر من نبوءة، فهو حكاية، أو مثل ( مدراش ) يتطرق إلى مسألة تعليمية، ويعتبر من أكثر قصص الكتاب المقدس شعبية، فيها كل عناصر الامثولة، وتمتاز بطابع الدعابة والغرابة، وقد اعتدنا أن نسمعها كل سنة، أثناء صوم نينوى، ولا سيما ان أحداثه قد وقعت في بلادنا، ولقد أبدع الكاتب في سرد حكايته باسلوب رائع، يتحدث المؤلف من خلاله عن شخص يدعى يونان، سلمت إليه رسالة من الله لينقلها إلى شعب وثني ، ليعلن له حدوث كارثة.

 

فسره الكثير، وانكب عليه علماء النفس أيضاً لدراسته، ولكن معظم الناس لا يتذكرون من السفر سوى قصة الحوت الذي ابتلع يونان النبي.

 

في المقال المتواضع هذا ، سوف أتحدث في الفصل الأول منه بصورة موجزة عن محتويات السفر، وعن أهم الآراء التي كتبت بشأنه، وكذلك عن مكان وبيئة السفر، وتاريخ كتايته، كما سأتطرق في الفصل الثاني عن مدينة نينوى التي كرز فيها النبي يونان بعد هروبه إلى ترشيش، وأهم الأحداث التي رافقته. كما أتحدث عن صوم نينوى ( الباعوثا ) .

 

وأخيراً ان سفر يونان رواية تعليمية، نتعلم منها ونأخذ أهم الدروس والمعاني والرموز التي تساعدنا في حياتنا المسيحية المعاصرة.

 

 

الفصل الأول

 

 

محتويات سفر يونان

 

يختلف هذا السفر، عن سائر الأسفار النبوية في أنه، لا يحتوي كلياً، أو خصوصاً على أقوال لفظها النبي باسم يهوه، ولكنه يحتوي على رواية في النبي. إنه يبتدئ باسلوب الرواية : " صار كلام يهوه إلى يونان بن أمتاي قائلاً "( يونان 1 : 1 )، ويحكي كيف أن يونان اجتهد في تجنب أمر يهوه بمناداة نينوى على التوبة، محاولاً الهروب بسفينة من يافا إلى ترشيش. أتت عاصفة كبيرة من قبل الله بسببه فكادت السفينة تغرق ( يونان 1 : 4 ) فيطرحه الملاّحون في البحر لتهدئة العاصفة فتبتلعه سمكة كبيرة وبعد ما كان في بطن السمكة ثلاثة ايام .

 

لفظ نشيد شكر ( يونان 2 : 3 _ 10 )، فقذفته السمكة إلى البرّ ( يونان 2 : 10 )، والآن يطيع أمر يهوه المجدّد بأن يكرز في نينوى بالتوبة. يتّضع أهل نينوى، ويترك الله العقاب الذي قصده ( يونان 3 : 2_5). فيغرق يونان في عواطف اليأس، فيفهمه الله جنون موقفه، بجعل يقطينةً تنمي وتظلّل يونان، ثم يجعلها الله تيبس، فيبقى يونان بدون ظلّ، ويغتاظ من أجل النبتة الميتة، فيوبّخه يهوه على اغتياظه من أجل النبتة. كم بالأحرى ليهوه حق في الشفقة على المدينة الكبيرة التي فيها " أكثر من مئة وعشرين ألف نسمة لا يعرفون يمينهم من شمالهم، فضلاً عن بهائم كثيرة " ( يونان 4 : 11 ).

 

أراء حول سفر يونان

 

هناك رأيان متباينان بشأن هذا السفر، فأحدهما وهو رأي المفسرين المحدثين لا يعتبره تاريخياً. بل مجازاً أي رواية تمثيلية موضوعة في قالب تاريخي، وانه كتب في عهد حديث ، أي ليس قبل القرن الرابع أو الخامس قبل المسيح، ويبنون رأيهم على ما ياتي :

 

1_ وجود السفر مع الاسفار النبوية وليس مع الاسفار التاريخية.

 

2_ ذكر معجزات تختلف عن المعجزات المذكورة في الاسفار التاريخية، ولا سيما النبأ المتعلق بالحوت.

 

3_ عدم الاتفاق بين ما قبل في توبة أهل نينوى من كبيرهم إلى صغيرهم، وما يعرف عن تاريخ نينوى وما جاء في سفر ناحوم ( 3 : 1 ) " ويل لمدينة الدماء كلها ملآنة كذباً وخطفاً "، " جرحك عديم الشفاء كل الذين يسمعون خبرك يصفقون بأيديهم عليك " ( ناحوم 3 : 19 )، وناحوم عاش بعد يونان.

 

4_ ما جاء في ارميا ( 51 : 34 و 44 ) " أكلني نبوخذنصر ملك بابل. أفناني وجعلني إناءً فارغاً. ابتلعني كالتنين. ملأ جوفه من لذائذي ... وأخرج من فمه ما ابتلع " وهذا القول تشبيه بغير شك، فيقولون ان رواية يونان هي أيضاً تشبيه.

 

أما الرأي الآخر، وهو رأي المحافظين من الشراح، فيعتبره سفراً تاريخياً كتبه يونان بن امتاي نفسه ومما يثبت ذلك :

 

1_ نفس الكلام ، فأنه لا يقول: صار قول الرب إلى انسان " بل إلى يونان بن أمتاي.. الخ ".

 

2_ كلام يسوع المسيح اذ قال : " لانه كما كان يونان في بطن الحوت... الخ، رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينوه، لانهم تابوا بمناداة يونان. وهوذا أعظم من يونان ههنا "

 

3_ ان نبأ الحوت ليس من الحكايات التي غايتها أن تثير فضول الناس، ودهشتهم بل غايته الرمز إلى موت االمسيح وقيامته. ( ليس بامكاننا أن نجزم بذلك فهي قراءة مسيحية ).

 

أما بخصوص توبة أهل نينوى من المحتمل انهم تابوا توبة وقتية فقط، ولم تذكر هذه التوبة إلا في هذا السفر، ولعل السفر جعل في عداد الأسفار النبوية.

 

لان ما ورد فيه يرمز إلى امور مستقبلية، كقيامة يسوع المسيح، وتبشير الأمم وسواء قبل هذا الرأي، أو ذاك فالدرس الذي يلقيه السفر واحد.

 

من هو يونان

 

 

في ( 2 ملوك 14 : 25 ) يذكر نبي اسمه يونان بن أمتاي، من جت حافر من أعمال الجليل. جاء في التلمود، انه ابن أرملة صرفة الذي أقامه ايليا النبي ، إلأ أنه ليس ثمة سند كاف لإثبات هذه الرواية، وربما يكون واحداً من جماعة الأنبياء الذين جاء ذكرهم مرتبطاً بارسالية ايليا ( 2 ملوك 2 : 3 ). يروي المقطع في سفر الملوك، أن هذا النبي أي يونان بن امتاي تنبأ وأعلن في أيام يربعام الثاني ملك السامرة ( 784 _ 753 ) ان مملكته سوف تتوسع مرة اخرى إلى سعة مملكة داود .

 

ان الصيغة السريانية والعربية للاسم العبري ( يونة ) ( ܥܘܢܢ ) معناه حمامة، وأول نبوءة فاه بها تلائم اسمه، لانه تنبأ بتعزية شعب الله، واخبرهم ان الله نظر لمذلتهم وانه سيخلصهم من الاراميين، كما نجد ذلك في سفر ( 2 ملوك 14 : 25 _ 27 ). وكانت نبوءته هذه مطبوعة بطابع وطني أدبي خلقي كنبوءة هوشع، وعاموس، وهذا النوع من النبوات كان يصادف هوى في قلب الشعب العبراني.

 

إذاً كان في منتصف القرن الثامن نبي بهذا الاسم، ولكن يمكننا السؤال هل للسفر الذي سمي باسمه _ والذي لا ينسب إليه _ صلة به غير استعمال اسمه ؟

 

إعلانه الوارد في ( 2 مل 14 : 25 ) لا علاقة له بالرسالة الموكولة إليه حسب السفر. لكن من الممكن ان قصة أخذت تجري منذ أيام هذا النبي، أو حالاً بعد موته، بخصوص اعتراض منه، فاشل في اخر أمره، على رسالة من قبل يهوه، على مثال قصة مماثلة عن ايليا في وقت سابق ( 1 ملوك 19 : 4 _ 8 ).

 

كذا قصص اسطورية تحوي مقداراً من الواقع التاريخي، بقدر ما كان الاصطدام بين الاندفاع النبوي، وبين الرغبات والمقدورات البشرية _ وهو ظاهر جلي في حالة ارميا _ جزءاً بديهياً من خبرة كل نبي. بالواقع سفرنا مبني على قصتين اسطوريتين من هذا النوع : واحدة منهما تخص مقاومة يونان، المغلوب عليها أخيراً من قبل يهوه، على الرسالة لمناداة نينوى على التوبة ( يون 1 : 3)، والثانية تظهر كيف ان استياء يونان من شفقة يهوه ينتهي إلى نقطة المسخرية بعمل يهوه ( يونان 4 ) متشابك مع هاتين الروايتين _ أو بالأحرى مع الأولى منهما _ موضوع من مواضيع الأساطير وحكايات الجن يوجد في كل أرجاء العالم، وهو موضوع ابتلاع وقذف إنسان من قبل سمكة كبيرة .

 

 

مكان السفر وبيئته

 

لا نرى في سفر يونان على تواريخ تساعدنا على معرفة زمن تدوينه، إلا ان اسلوب الكتاب المقدس، ومفرداته هي التي تخولنا أن نحدد البيئة التي نشأ فيها، ففيه نستدل على التعابير المستعملة في اللغة العبرانية الحديثة، والواردة غالباً في نشيد الأناشيد، وفي سفر الجامعة التي تكشف عن تاثير آرامي.

 

كذلك كلمة ( سفينة ) ( يونان 1 : 5 )، وعبارة ( إله السماء ) ( يونان 1 : 9 ) انها مكتوبة في الأسفار اللاحقة للجلاء، ( عزرا، نحميا، دانيال )، والعبارة تعود إلى زمن الواقع بعد العودة ( السبي ) من الجلاء .

 

أما نينوى فلم تعد المدينة المخفية ، كما ورد في نبوءة ناحوم، وغيره من الأنبياء، فلو لم تكن ذكريات العنف التي ترافق تأريخ نينوى قد ابتعدت عن مخيلة المؤلف، لما كان استطاع أن يتحدث بهذه الطريقة، عن توبة أهل نينوى إلى الرب.

 

أخيراً في سفر يونان تخمين لتعاليم الأنبياء من يوئيل وارميا بصورة خاصة. لأن اللاهوتيين حاولوا بعد الجلاء تأوين تعليم الأنبياء السابقين دون ذكر أسمائهم مباشرة.

 

ان مصدر سفر يونان هو أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، فهو يصف لجماعة اورشليم في ذلك الزمان. يونان هو صورة عن البيئة التي يريد المؤلف انتقادها بطريقة لبقة . نرى فيه أرادة صاحب السفر، أن يعرض على قرائه تناقضات البيئة انه لا ينتقد قوميتهم الضيقة فحسب، بل ديانتهم الخاطئة أيضاً.

 

أما مأساة يونان فهي : مأساة مؤمن في صراع مع نفسه ومع العالم، ويقول يونان على ظهر السفينة : " انا عبراني واتقي الرب " يشدد على المسافة التي تفصل اليهود عن الوثنيين، وكلماته تحمل إلى ذهننا كلمات القديس بولس الرسول في رسالته الى أهل رومة ( 2 : 17_ 21 ) " وأنت، ما يا من تسمي نفسك يهودياً، وتتكل على الشريعة، وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميز ما هو الأفضل بما تعلمته من الشريعة، وتعتقد أنك قائد للعميان ونور لمن هم في الظلام، ومؤدب للأغبياء ومعلم للبسطاء، لأن لك في الشريعة كمال المعرفة والحقيقة. أنت، يا من يعلم غيره، أما تعلم نفسك؟ تنادي : لا تسرق، وتسرق أنت؟ " يعيش يونان هذا التناقض، فهو بينما يعترف بايمانه ويشهد لربه، فانه يتمرد على الله، ويهرب من وجهه. ان هذه التناقضات في يونان تحمله على تمني الموت والاستسلام له.

 

جماعة يهودية متعصبة وقومية

 

غابت مملكة يهوذا عن الوجود في القرن السادس قبل الميلاد، وناب منابها أقليم صغير، تشريعي قائم على التوراة، وخاضع للامبراطورية الفارسية. لقد بني الهيكل بعد خراب دام عشرات السنين، والجماعة التي تعيش حوله في اورشليم، هي جماعة قومية كهنوتية متعصبة، وجماعة انطوت على نفسها، وراحت تحافظ على اصالة الانتساب اليهودي، تحت تأثير سلطة الكهنة والكتبة. في هذه الجماعة خوف من الخطيئة وحقد على الوثنيين، فالخطيئة سببت بحسب تعاليم الانبياء، سقوط الهيكل ونهاية الملكية، وعقاب الجلاء.

 

أما الحقد على الوثنيين وهم بسبب فساد الشعب، فقد حمل الجماعة على التقوقع في روح قومية، ودينية، ومتعصبة، وعنصرية صلبة. ان إله الآباء، هو إله يهوذا بصورة خاصة، والاختيار لم يعد خدمة. بل حقاً متطلباً امتيازاً فردياً، لقد طردت النساء الغريبات، وابعد السامريون والأمم الوثنية، كتب لها الدمار، لا قداسة إلا في اورشليم، فالله الذي عرّفنا عنه الانبياء قد تحوّل إلى إله الجماعة المنطوية على ذاتها في حدودها الاقليمية.

 

 

تاريخ الأصل والهدف من السفر

 

من هذه المواد صنع جامع مجهول مؤلفاً سفر يونان، ولا نستطيع أن نكتشف بتفاصيل ما قد لقيه حاضراً وما أضافه هو. بامكاننا فقط أن نقول بيقين أن روح العمومية الواسعة، والإنسانية المتسامحة التي تجعل السفر كذا جذاباً هي من الجامع وزمنه.

 

أجل، انه ممكن ان المواد الحاضرة كانت تلمح إلى تلك الأفكار تلميحاً، ولكن الاعتقاد الواضح بان رحمة يهوه، لا تنحصر في اسرائيل. بل تشمل الأمم والأجانب أيضاً. وحتى سكان مدينة بغيضة لاسرائيل، وحتى الحيوانات، يعود دون أي شك إلى الجامع. هذا ما يحدد الوقت. لا نقدر أن نتصور مثل هذه العمومية الواسعة وهذا التسامح الشامل في الفترة التي قبل المنفى.

 

كذلك العبارات الارامية الواردة في السفر( 1 : 7 بسبب من ؟ ، و 3 : 1 المناداة ، وغيرهما) . ليس السفر من بعد 200 ق.م ، إذ يعرفه ابن سيراخ ( 49 : 10 )، وطوبيا ( 14 : 4 ) " لأني أومن بنبوءة ناحوم النبي أن دمار نينوى أصبح قريباً وأن السلام يكون في ماداي، وأن بني قومنا يبقون مشتتين في الأرض بعيداً عن أورشليم المقدسة التي تخرب ويحترق فيها هيكل الله ويقفر إلى حين " اللذان نشأ في أوائل القرن الثاني.

 

كتابنا واقف في سفر الاثني عشر بين الكتب المتأصلة _ حقيقة أو اعتباراً _ من القرن الثامن.

 

هذا التوقيت يجاوب أمر النبي يونان ( 2 ملوك 14 ) عاش في القرن الثامن. ولكن لا نقدر أن نقول اذا كان وضع الكتاب هناك يقصد ان الكاتب أيضاً من القرن الثامن. على كل حال، هذا التوقيت ( للكتاب ) ليس أكثر من توقيت يوئيل وعوبديا حتمياً .

 

انفتاح مؤلف سفر يونان

 

تجعلنا هذه الخلفية التاريخية، نكتشف رفض سفر يونان هذه القومية، اننا نفهم رفض يونان، وتمرده أمام دعوة الله له، فأن الله يطلب منه أن يعمل ما يعاكس تماماً اللاهوت الرسمي، الذي كان يحيط به، ولا يذكر سفر يونان اورشليم، ويهوذا، ولا يذكر الهيكل، إلا في المزمور، فأن سفر يونان يتجاهل امتيازات سكان اورشليم، فإن خلاص أهل نينوى، وخلاص اسرائيل رسالة واحدة في نظر إله يونان، وهذا أمر لا يطاق .

 

يحاول يونان الهرب من وجه الله، لأن خلاص نينوى لا يعني له شيئاً، فالوثنيون في نظره نجسون. لكن كاتبنا يصفهم أشد من يونان تديناً، وأشد منه إنسانياً، فالبحارة يتوسلون إلى الله، ويكتشفون عمله في الأحداث، وينتقدون عدم طاعة يونان، ويحترمون في الوقت نفسه حياته، ويقدمون ذبائح.

 

بينما يونان ينام والعاصفة تهدد بالهلاك، وعند استيقاظه من نومه، فانه لا يشارك حتى في صلاة الوثنيين. ولو لم يزد المزمور على هذا السفر لما شكر يونان الله الذي خلصه من الموت. أما يونان فيعصي امره وهو يهودي الذي يشهد بشكل صحيح على حقيقة الله.

 

 

الفصل الثاني

 

مدينة نينوى

 

طلب الرب من يونان أن يبشر نينوى، المدينة العظيمة، الله نفسه دعاها المدينة العظيمة ( يونان 1 : 2 ). لم يكن يعرف عن هذه المدينة حتى 1841 م سوى ما كتب عنها في التوراة، وبعض شذرات من تاريخ الاشوريين ، فتخيل لبعضهم ان ما ورد عنها في التوراة خرافة من أساطير الأولين، ولكن حوالي ذلك التاريخ نقب بعض علماء الاثار في ذلك الاقليم، ومن وقتها أخذوا يتحققون صحة خبر التوراة عن نينوى، فقد وجدوا ما يدل على عظمتها.

 

حيث كانت محاطة بسور ضخم، بحيث تسير عليه ثلاث عربات صفاً واحداً ، تقول عبارة الكتاب المقدس، ان المدينة " مسيرة ثلاثة ايام " ( يونان 3 : 3 )، وكذا اثبتت الآثار، وجد علماء الاثار مدارها نحو ( 60 ) ميلاً يقطعها السائر في لا اقل من ثلاثة أيام. ومن ضمن هذه المسافة كثير من الأراضي الزراعية للمواشي وهذا أيضاً يوافق نص التوراة ( بهائم كثيرة ). ومن حيث انها تشتمل على مائة وعشرين الف نسمة، لا يعرفون يمينهم من شمالهم، أي الأولاد الصغار، فلا يقل مجموع سكانها عن مليون نسمة. ويؤيد هذا، قصورها الشامخة، وهياكلها الضخمة، وحصونها المنيعة، وأعمالها الصناعية العظيمة _ تماثيل اسود، وثيران ذوات وجوه بشرية واجنحة، ( ثيران مجنحة ) _ مما يدل على سعة حضارتها ورسوخ مدنيتها .

 

لم يذكر يونان شيئاً كثيراً عن شر نينوى، لكن ناحوم النبي يعطينا فكرة أوفر عن شر نينوى. إذ يقول ناحوم ان نينوى كانت :

 

1_ مذنبة في تامرها على الرب ( ناحوم 1 : 9 )

 

2 _ في استغلال الضعفاء ( ناحوم 2 : 12 )

 

3 _ في الوحشية اثناء الحرب ( ناحوم 2 : 12 ، 13 )

 

4 _ في الزنى والسحر والاستعباد ( ناحوم 3 : 4 ) .

 

 

كانت نينوى أهم مدينة في اشور التي كانت تمثل القوة العالمية العظمى في تلك الايام، وفي خلال ( 50 ) عاماً، قدر لنينوى أن تكون عاصمة الامبراطورية الاشورية الممتدة، وقد ازدهرت ازدهاراً عظيماً في بعض القرون السابقة للميلاد .

 

شيدت المدينة على الضفة الشرقية من نهر دجلة، على فم رافد صغير فيه، المعروف برافد الخوصر، على بعد ( 25 ) ميلاً من التقاء دجلة مع الزاب، وقبال الموصل. وكان العبرانيون يعممون اسم نينوى حتى يشمل كل المنطقة حول التقاء الزاب بدجلة ( تكوين 10: 11 و 12 ) ، ( يونان 1 : 2 ، 3 : 3 ). وكانت نينوى تدين بالولاء لاشور التي كانت تبعد عنها حوالي ( 60 ) ميلاً. إلى أن بنى شلمناصر قصراً له في نينوى.

 

حوالي عام ( 1270 ) ق.م واعتبرها قاعدة ملكه، واستمر خلفاؤه يسكنونها إلى أيام اشور ناصر بال، وابنه شلمناصر اللذين لم يكتفيا بنينوى. بل جعلا مدينة كالح ( نمرود ) عاصمة اخرى مثل نينوى. حوالي ( 880 ) ق.م ولكن نينوى استعادت الرئاسة فيما بعد .

 

كان ملوك الاشوريين يعنون باحضار الغنائم والاسلاب معهم إلى نينوى، وتركها هناك لتنمو المدينة وتزداد عظمة وغنى وجمالاً . حتى انهم اعتبروا العالم القديم كله عبداً لنينوى يمدها بما تحتاجه. وإلى جانب القصور الشاهقة، والشوارع الواسعة، والهياكل، والاسوار، والقلاع التي اشتهرت بها نينوى .

 

كذلك بنى اشور بانيبال ( حوالي عام 650 ق.م ) مكتبة عظيمة، ضم إليها جميع الوثائق الحكومية، والادارة، والرسائل الدبلوماسية، والمعاملات الداخلية، والاوامر الملكية، ونسخاً من المعاملات والوثائق، والمراسلات التي عثر عليها في بابل ، ومن الانبياء الذين تحدثوا عن دمار نينوى ( يونان 1 : 2 و 3 : 2-5 )، ناحوم النبي ( 1 : 1-3 )، وسمى النبي ناحوم نينوى ( مدينة الدمار )، وكانت كلها ملآنة كذباً وخطفاً ( ناحوم 3 :1 ).

 

من اشهر الملوك الامبراطورية الاشورية، الذين وجدت اثارهم في نينوى، شلمناصر، وتغلت بلاسر، وسنحاريب، واسرحدون، واشور بانيبال، وسقطت نينوى عام 612 ق.م على يد بابل وحليفتها مادي.

 

 

لماذا خالف يونان ربه ؟

 

" صار قول الرب إلى يونان بن امتاي قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد عليها لانه قد صعد شرهم امامي، فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب " ( يونان 1 : 1 _ 3 ) . فما الذي حمله على التردد والعصيان ؟

 

لم يكن ذلك جبناً منه، لأن الرجل كان شجاعاً غير هياب من الموت، بدليل ما ظهر من شجاعته عند هبوب العاصفة على المركب الذي هرب فيه، ولا كان السبب بعد المسافة ووعورة الطريق. إذ ترشيش التي قصد أن يهرب إليها واقعة على سواحل اسبانيا، فهي أبعد بكثير من نينوى، فضلاً عن مخاوف البحر. أما نينوى فكانت تسير إليها القوافل من آونة الى اخرى. إذ كانت عاصمة العالم المعروف في ذلك العصر، وأما السبب الحقيقي فلا يخلو من الفكر الذي اسلفنا ذكره، وهو ان اليهود لا يودون أن تشاركهم امة اجنبية في نعمة الله.

 

رأى يونان ان النداء على نينوى ربما يحملها إلى التوبة، وعلم ان الله رحوم يندم على الشر، فلا يهلكها وهي عدوة امته ( يونان 4 : 2 )، ولعله كان يريد ان يقع عليها القصاص حتى تعتبر امته بها وترجع إلى الله. على وفق قول بعضهم ( مصائب قوم عند قوم فوائد ).

 

أرسل الله يونان نبياً للشعب المختار، فكرس نفسه لخدمة امته وانقاذها من الأعداء، ولشدة محبته للوطن. لم يدر ما الحكمة التي قصدها الله من تكليفه بهذه المأمورية، وخاطر براحته وبوظيفته النبوية في سبيل المحافظة على مصلحة بلاده، ويظهر أنه كان واسع الاطلاع على سفر المزامير فعرف تمام المعرفة انه ان أخذ جناحي الصبح وسكن في اقاصي البحر لا يقدر أن يهرب من وجه الله. إلا انه ككثيرين من خدام الله كان يتأمل انه اذا تبدلت ظروفه يتساهل معه الله في تأدية المامورية، ويسكن تبكيت ضميره " فنزل الى يافا فوجد سفينة سائرة إلى ترشيش، فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب مع ملاّحيها إلى هناك بعيداً من وجه الرب ".

 

العاصفة

 

هاكم ما حصل في رحلته. انها قصة جميلة جداً على قصرها، يشخص فيها الكاتب بمشهد حيوي النوء الشديد، ومساعي البحارة وغضب الرئيس ( قائد السفينة ) على يونان، لعدم اكتراثه بالحادثة في حين ان كل الركاب كانوا يصلون لآلهتهم.

 

ألقوا القرعة، ليعلموا من هو المسؤول عن هذه الحالة الغريبة، فاصابت يونان، وعند ذلك احاط به الركاب والبحارة يجهدونه بالاسئلة : " اخبرنا بسبب من هذه المصيبة علينا ؟ " وقال آخر : " ما هو عملك ومن اين اتيت " ؟ وسأله غيره : " ما هي ارضك ومن اي شعب انت " ؟ وما كان أشد خوفهم، ودهشتهم عندما علموا من نفس جوابه انه هارب من وجه إلهه. الذي صنع البحر والبر، وشاوروه ماذا يعملون به حتى تهدأ الحال، وخافوا أن يلقوه في البحر حسب طلبه، لئلا تلحقهم بلية اخرى بسببه، وأخيراً اضطروا أن ينقادوا لمشورته، فطرحوه في البحر سائلين الله ان يبرئهم من دمه.

 

بيلاطس الاممي كان يريد أن يطلق يسوع، ولكن الأمة اليهودية، في هياجها، لم ترد اطلاقه، وازداد الشعب صراخاً ( اصلبه اصلبه )، فغسل بيلاطس يديه وقال : " اني بريء من دم هذا الانسان " .

 

حالما طرح يونان في قلب البحر سكن هياجه، وخمدت ثورته، وارتضاء يونان بان يطرح في البحر. يمثل لنا موت يسوع الاختياري بالنيابة عنا حيث يقول: " اضع نفسي لآخذها ليس أحد يأخذها مني بل اضعها انا من ذاتي " .ان صلاة يونان إلى الله من جوف الحوت، كانت كصلاة رجل ألف مطالعة المزامير زمناً طويلاً، لأنه اقتبس فقرات من مزامير مختلفة تلائم بينها، وبين ظروفه الخصوصية، ومن المزامير الذي اقتبس منها هي كالتالي : ( مز 42 : 7_8 )، ( 31 : 22_23 )، ( 69 : 1_3 )،( 18 : 6_7 )،( 77 : 11_12 )،( 3 : 8 )،( 50 : 14 ، 23 ).

 

 

تكليفه بالرسالة من جديد

 

" ثم صار قول الرب إلى يونان ثانية " قائلاً : قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد لها المناداة التي كلمتك بها، كرر الرب على عبده يونان هذه العبارة ( قم ) مرتين، واعادها عليه ربان السفينة مرة ثالثة، فكأنه يمثل حالة الخطاة المستغرقين في النوم، وليس بينهم وبين الأبدية إلا الواح السفينة. استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح.

 

غير ان الذي نبه يونان رجل الله من نومه رجل وثني، ولنا من ذلك انه قد يعمل الله بآلة غير صالحة للاستعمال، فلنكن على استعداد لنسمع صوته على لسان من يرسله مهما كانت حالته.

 

قلنا سابقاً ان الله كلم يونان راساً مرتين وقال له ( قم )، ولم يوبخه في المرة الثانية على عصيانه في الأولى، لأنه كان يكفيه ما لحقه من الأخطار بسبب هذا العصيان، وعندما لآن قلبه صار كفوءاً ان يلّين قلوب نينوى. آه ! ما أشد حاجة شعب الله، في عصرنا الحاضر، إلى انكسار القلب ! فان لآنت قلوبهم يؤثرون في العالم الوثني ! ..

 

فآمن اهل نينوى بالله ونادى الملك بصوم

 

ان حادثة يونان كسرت قلبه وسحقت نفسه، وبهذا صار موصلاً بنقل التأثير والقوة من جانب الروح إلى الشعب، فكان آية لهم، وعمل فيه الروح بقوة فائقة، بحيث تأثرت المدينة العظيمة من كرازته يوماً واحداً ( فآمن اهل نينوى بالله). وقرنوا في الحال الايمان بالعمل، ونادوا بصوم وتذلل، وبلغ الخبر الملك، فخاف الله، وتذلل لعزته الالهية، وصام ولبس المسح على الرماد كأحد رعاياه ( يونان 3 : 6 )، ثم أصدر أمراً رسمياً بتقديس صوم عام يشمل البهائم أيضاً. فصامت المدينة كلها_ الناس والبهائم _ ولبست المسوح، وقد اختلطت صلوات الناس بتصويت البهائم الجائعة. وصعدت هذه الجلبة إلى اذني من هو طويل الاناة وكثير الرحمة. إذ رأى الله ان توبتهم حقيقية ندم على الشر الذي أنذر به المدينة على يد رسوله يونان وصفح عنها.

 

نرى ، من معاملة الله لنينوى وليونان المتضجر، سعة رحمته تعالى، ولطفه نحو خليقته. استاء يونان من عفو الله عن نينوى عدوة امته، كما أنه استاء من اهلاك نبتة اليقطينة التي كانت تظلله، فقال له الله بلطف : " أيحق لك أن تغضب من أجل اليقطينة ؟ فأجاب يونان : ( يحق لي أن أغضب إلى الموت ). فقال الرب : ( أشفقت أنت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، وإنما طلعت في ليلة ثم هلكت في ليلة، أفلا أشفق أنا على نينوى العظيمة التي فيها أكثر من مئة وعشرين نسمة لا يعرفون يمينهم من شمالهم، فضلاً عن بهائم كثيرة ؟ ) " لم يكتم يونان قومه سقطاته التي يؤاخذ عليها ليقدم لهم، ولنا درساً مؤثراً، عن رحمة الله الشاملة للعالم كله من بشر ودواب.

 

ان سفر يونان هو سفر الارساليات في جوهره لأنه يمثل مأمورية المسيح العظيمة حيث يقول : " اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالانجيل للخليقة كلها "

 

لما خرج ( قام ) المسيح من القبر، نفذت رسالة انجيله إلى كل اقطار الارض، وتبرهنت بقوة الروح لكل الذين آمنوا، وما زالت تتبرهن للذين يؤمنون.

 

 

 صوم نينوى( باعوثا ) ( ܒܥܘܬܐ )

 

الباعوثة ( ܒܥܘܬܐ ) أو الطلب، هي ذكرى لتوبة أهالي نينوى، الذين سمعوا كرازة يونان النبي، فقضوا أياماً بالصلاة والصوم. نادمين على خطاياهم، وسائلين الرحمة من الله. على مثالهم نقضي نحن المؤمنون أيضاً ثلاثة أيام التوبة، والصلاة، والصوم، والصدقة، وأعمال الرحمة، والمحبة الأخوية، والتقرب إلى الأسرار المقدسة، لكي يترأف الرب، ويعفو عنا.

 

ان صوم نينوى، هو صوم من الصيام التقليدية القديمة. خاصة بكنيسة المشرق ( الاثورية _ الكلدانية ). له جذور تاريخية وبترتيب معين، وأصبح في أيامنا، دعوة للتوبة، وقبول رحمة الله. لأننا ما زلنا خاطئين فردياً وجماعياً، وبحاجة إلى المصالحة.

 

( باعوثا نينوى ) التي تصادف الاثنين الثالث السابق للصوم الكبير، وتدوم ثلاثة أيام ايضاً، ويرجع أصلها _ حسب كتاب المجدل والحوذرا _ إلى عهد الجاثليق حزقيال ( 570 _ 581 م ) عندما ضايق البلد ( الطاعون المسمى الشرعوط، وعلامته كانت تظهر في كف الانسان ثلاث نقط سود، وحالما يبصرها يموت ) حتى خلت مدن كبيرة وقرى كثيرة من الناس، ثم اتفق أسقف نينوى على عمل الباعوثا بأن يصوموا، ويصلوا ثلاثة أيام.

 

أولها يوم الاثنين الذي قبل الصوم الكبير بعشرين يوم، ويطلبوا من الله أن يحميهم ويقبل سوالهم ( باعوثا ).

 

مثلما قبل أهل نينوى، ويرفع الموت عن خلقه، وأن يكون صيام هذه الايام الثلاثة مؤبداً طول الزمن..! وفعلاً، حتى في أيامنا هذه، ما زال المؤمنون يحفظون هذا الصوم، وتزدحم الكنائس أشد الازدحام بذهابهم إليها.. ويدعوا الله المؤمنين بصورة خاصة من خلال قراءة مداريش شعرية عن يونان و ( توبة اهل نينوى )

 

وهنا ترتيب الصلوات والطلبات الخاصة الرائعة. التي تقام من الصباح حتى منتصف النهار :

 

1_ الجلسة الاولى ( ܡܘܬܒܐ) : هي مجموعة من المزامير والقراءات والطلبات مع الركوع.

 

2 _ المسيرة من ( قدس الاقداس ) إلى ( البيم ) (ܒܥܡ ) مع تراتيل ( عونياثا 2 ) ( ܥܘܢܥܬܐ ).

 

3_ الجلسة الثانية : على نفس الترتيب مع ميامر لمار افرام ونرساي. ( يا رب ترحم علينا، يا رب اقبل باعوثتنا .. زد الامن في البلاد والسلام في كل الاقطار، ابطل الحروب والقتال من الارض .. يا حنان، بارك البيعة المقدسة بنعمتك واحفظ بنيها وارحمنا . )

 

4_ القداس الإلهي مع إنجيل متى ( 18 : 23 _ 35 )، لوقا ( 18 : 2 _ 14 ( متي ( 6 : 1 _ 18 ) .

 

 

سفر يونان رواية تعليمية

 

ان سفر يونان رواية تعليمية، تدعو إلى اخذ المسؤولية على عاتقنا. وان الله يسترجعنا إذا حاولنا التهرب من مسؤوليتنا. واذا فهمنا ذلك، بدات تفاصيل القصة تنجلى.

 

مهما حاول الانسان الهرب من أمام رسالة الله، ومن مصيره، فالله يسترجعه بطريقة مختلفة تعاكس حياته، ويدعه يجرب نفسه أكثر من مرة محاولاً الهرب من هروبه الفاشل مبتداً بنقطة انطلاق اخرى، لكن دون جدوى . لا يريد يونان أن يذهب، فبدلاً أن يذهب إلى الشرق يبحر إلى الغرب ( ترشيش ). ثم تصف القصة بصور رائعة كيف أن يونان يختلي مع نفسه، فينزل أكثر فأكثر في الظلمات في الحفرة انه يسير مع سفينته إلى اتجاه الليل ( الغرب )، وينزل في عمق جوف السفينة، ويسد عينيه، ويغوص في نوم عميق. الهرب الفاشل.

 

اجتهد يونان في تجنب أمر الله بمناداة نينوى، على التوبة محاولاً الهروب بسفينة، من يافا إلى ترشيش وأثناء الهرب أتت عاصفة كبيرة من قبل الله بسببه، فكادت السفينة تغرق، فيطرحه الملاّحون في البحر لتهدئة العاصفة، وتبتلعه سمكة كبيرة، بعدما كان في بطن السمكة ثلاثة ايام. بدأ يصلي لينجيه الله من سجن الحوت.

 

قذفه الحوت إلى حافة الشاطئ. فيرسل الله يونان إلى هذا العالم الفاسد في عينيه ويكرس يونان معلناً بالتوبة، فيتوب أهل نينوى ويترك الله العقاب الذي قصده.

 

أخيراً يعلمنا الله معنى الرحمة، التي ليست بالترحم على ذات نفسه. بل الترحم من أجل العالم كله. هنا نرى يونان الذي ينصب مظلة ( يرمز إلى الحرية من العبودية حسب عيد المظال)، ويفرح بالشجرة التي تعبر عن الفضل الإلهي، شجرة عجيبة، تذكرنا بشجرة الفردوس. لكن في الغد تهلك الشجرة، كما يريد يونان ان تهلك المدينة، رمزاً ودرساً له، ولشعبه العنصري، لكي يفهم الآن الآية القائلة: " اني اريد الرحمة ، لا الذبيحة " أو " كونوا رحماء كما اباكم رحيم " ( لوقا 6 : 36 ).

 

النبي المدعو من قبل الله للقيام برسالة خاصة، وهي الكرازة بالتوبة في نينوى، مدينة العنف والحروب، ومركز العالم القديم. لكنه يرفض الالتزام، ويهرب من ( وجه الله )، ذاهباً إلى البحر، مكان الموت والهلاك، ليتخلص من صوت الله ودعوته، ولا ينزعج من استعمال الحيلة، والكذب لتحقيق هدفه.

 

يرفض يونان الطاعة، ويتجنب ارادة الله، والمسؤولية عن خير شعب غريب. أن يونان نبي هارب، غير وفي، قليل الثقة، لأنه لا يهتم إلا براحة نفسه، دون الآخرين، ويفضل الهرب الأناني، الذي يودي به أخيراً إلى العاصفة والهلاك.

 

يونان يمثل كل واحد منا، في بعض الاوقات نهرب من واجباتنا، وذلك باستعمال نوع من الأعذار الكاذبة، لكي لا تظهر، حتى لانفسنا. يدعونا الله، على المستوى الفردي، إلى الالتزام بواجباتنا تجاه الآخرين، لكننا نهرب من التعب، ونفضل الكسل ( هلاك الضمير نتيجة الكبرياء، الطمع، اشباع الحواس، الشراهة، قبول الحرام، الاحتيال، الكلام بلسانين، النميمة، الحسد، البخل، قساوة القلب، الاستهزاء من الآخرين...الخ ). فمن ثم واجب على المؤمن، أن يهرب من الشر الذي يدمره عوضاً عن الهرب من الله الذي يحبه، ويقصد إصلاحه لينمو في الحب والحياة مع الآخرين، وذلك بواسطة صوت الروح القدس في عمق الضمير، حيث يدعوه إلى أعمال الرحمة، والغفران، والتواضع.

 

كان يونان نائماً في جوف السفينة، رافضاً كل مسؤولية تجاه رسالته، وحتى تجاه الناس الذين هددهم خطر العاصفة، نراه منكمشاً منقبضاً في بطن الحوت. قد ذكرني ( نوم يونان )، بنوم التلاميذ في حديقة الزيتون، وبنوم الكنيسة المتكرر عبر الأجيال، ويمثلنا يونان بهذا الموقف، لاننا مراراً بعدما فشلنا في عمل، نرفض أن نهتم بأي شيء أو نلتزم بأي واجب آخر.

 

لكن أيضاً كجماعة كنسية، نفضل أنفسنا عن الآخرين، ونحتقرهم كأنهم غير صالحين مثلنا، ونرفض أية علاقة بهم، لأننا نخاف على كرامتنا. لكن أخيراً يترحم الله حتى على يونان، لأن الحوت خلصه من البحر، فعلاً، يد الله تحمينا، لا تخنقنا.

 

كما خلص الله سفينة نوح من الطوفان الهالك، هكذا خلص يونان الغارق في أنانيته، والذي قصد هلاك نينوى، ثم تعلم يونان الصلاة، في بطن الحوت، في الضيق ومن الأعماق، وسط أخطار المياه، يصرخ إلى الله قائلاً : " أين أهرب حتى إلى جوف البحر، لكن يدك هناك، يدك الممتدة لمسكني وتنقذني ".

 

 

الخاتمة

 

يونان، النبي اليهودي، لا يريد خلاص الوثنين. بل غضب الله لهلاك المدينة، انه أناني لا يحب الاخرين، ولا يريد أن يحبهم الله برحمته، وهكذا بعدما مشى يوم واحد، حكم يونان على شرّ المدينة، وأخذ يكرز بتدميرها، عكس موقف يسوع المسيح، الذي تحنن على الجموع وترحم عليهم، كأنهم خراف متروكون مثقلون متعبون، لا راع لهم. لكن يونان لم يرد أن يعرف أهل المدينة، ولم يسمع صوت الرحمة، أو يذكر نعمة خلاصه نفسه.

 

إلا ان يهددهم بالخوف من الدينونة والجحيم، وبهذا يستغل يونان ( الله ) لاهدافه الشخصية، ويستخدمه لفكره الإنساني الضيق عن العدالة والعقوبة. لكن رغم ذلك، يؤمن أهل مدينة نينوى، ويتوبون إلى الله، ويترك العنف واللانسانية، كما تبين من صلواتهم وأعمالهم الصالحة في سبيل الندامة والخير. أما يونان، فيخرج من المدينة المتجددة، وهو مثل الابن الكبير الذي رفض الاشتراك بحفلة الفرح عند رجوع أخيه الضال، ويبقى خارجاً في الظلام، دون أن يتوب، وكذلك لم يفهم يونان معنى الرحمة ولم يعرف قلب الله، ولم يؤمن بسر المحبة. انه غضب لعدم الانفجار وعدم الدينونة، كما ثار وتذمر لعدم الظل على رأسه، عندما يبست شجرته، شجرة نعمة الله، واخيراً يعلمه الله نفسه، انه يحب نينوى وسكانها، كما يحب يونان، النبي الأناني الهارب، وشعبه العنصري، لا يريد الله التدمير أو الهلاك، لا يريد إلا الحياة، للكل وبوفرتها. " هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لخلاص العالم " ( انجيل يوحنا ).

 

يمثلنا يونان بموقفه العنصري الأناني، عندما نعتبر أنفسنا أفضل من الأخرين بأسباب دينية وغيرها، وكأن كل ما نمتلك هو نتيجة استحقاقاتنا، في حين انه ليس إلا نعمة الله وبفضل حنانه. كم مرة يأكل الحسد قلبنا ويجعلنا أن نرفض التصرف مع الأخرين ببساطة وتواضع.

 

كذلك على صعيد الكنسي، ان معنى الكنيسة ورسالتها تجاه العالم المعاصر لم تتحقق عندما تبقى الكنيسة مغلقة على الذات، ومتكبرة أو خائفة. ان رسالتها في تقديم الخلاص، خلاص الله للعالم، وهي ليست، إلا الوسيطة لرحمة الله تجاه العالم.

 

الراهب آشور ياقو البازي

 

للمزيد انقر على هذا الرابط

منتدى البازيين

منتدى أحفاد سومر وأكد وبابل وآشور

 

http://albazi2009.ba7r.org

 

 

 

المصادر

 

1_ الكتاب المقدس.

2_ القس سليمان صائغ الموصلي، تاريخ الموصل، الجزء الأول، المطبعة السلفية، مصر - 1923.

3_ ستيون لويد، آثار بلاد الرافدين، ترجمة د. سامي سعيد الأحمد، وزارة الثقافة والأعلام، العراق - 1980.

4_ الخوري بولس الفغالي، القراءة المسيحية للعهد القديم ( 1 )، نسقها وقدم لها، جمعية الكتاب المقدس، طبعة أولى، بيروت – 1991.

5_ الأب فنسان مورا، سفر يونان ( 25 )، نقله للعربية الخوري حليم بريشا، دار المشرق، بيروت - 1993.

6_ أ . م . هودجكن، المسيح في جميع الكتب، صادر عن دار منشورات النفير، بيروت - لبنان.

 

 

المجلات والإصدارات

 

1_ مجلة البشرى، تصدر عن مركز الكاثوليكي للتعليم المسيحي، عدد ( 11 ) تشرين الأول 1995.

2_ الأب منصور المخلصي، يونان، إصدار مركز التعليم المسيحي في كنيسة الروم الكاثوليكية، بغداد - العراق 1997.

3_ الأب يوسف عتيشا، مجلة الفكر المسيحي، عدد ( 234 )، صحيفة 110، نيسان 1998.

4_ الأب يوسف توما، مجلة الفكر المسيحي، عدد( 331- 332 )، صحيفة 11،كانون الثاني- شباط 1998.

5_ الأب لوسيان كوب للفادي الأقدس، دراسات في الكتاب المقدس ( الأنبياء الآخرون )، كلية بابل للفلسفة واللاهوت، بغداد - 2005.

 

القواميس والمعاجم

 

1_ قاموس الكتاب المقدس، الطبعة العاشرة، دار الثقافة، القاهرة - مصر 1995.

2_ المعجم اللاهوت الكتابي، جمعية الكتاب المقدس في المشرق، الطبعة الثانية، دار المشرق، بيروت - لبنان 1988.

 

المراجع السريانية

 

1_ كتاب الخوذرا ( 2 )، روما – 1938.

2_ اشعيا شماس داود، تاريخ بين النهرين ( اشور – بابل )، طهران – 1963.

 

 

 










أربيل - عنكاوا

  • رقم الموقع: 07517864154
  • رقم إدارة القناة: 07504155979
  • البريد الألكتروني للإدارة:
    [email protected]
  • البريد الألكتروني الخاص بالموقع:
    [email protected]
جميع الحقوق محفوظة لقناة عشتار الفضائية © 2007 - 2025
Developed by: Bilind Hirori
تم إنشاء هذه الصفحة في 0.4592 ثانية