
عشتار تيفي كوم - ابونا/
في ظل الدمار الذي خلفته أكثر من عقد من الحرب، تكافح المجتمعات المسيحية في سوريا ليس فقط من أجل البقاء، بل أيضًا لتظل مرئية ويُسمع صوتها. فقد أصدرت منظمة عمل المشرق تقريرًا جديدًا في 27 تشرين الثاني، يُقدّم صورة نادرة من أرض الواقع عن مخاوفها وصمودها وآمالها الهشة في بلد يخرج من الديكتاتورية والصراع، لكنه لا يزال يشهد حالة من عدم اليقين العميق.
استند التقرير، الذي جُمعت مادته على مدى عدة أشهر قبل وبعد سقوط نظام بشار الأسد، إلى شهادات من مختلف أنحاء البلاد. ورسالة التقرير واضحة: المسيحية في سوريا ما زالت حيّة وفاعلة وضرورية اجتماعيًا، لكنها في الوقت نفسه تتضاءل بشكل حاد وأصبحت أكثر عرضة للخطر.
يقول إلياس، طالب طب شاب في دمشق، خلال مؤتمر عبر الفيديو نظمته المؤسسة مع صحفيين: "نحن موجودون. لا نريد أن نموت ونُنسى". ويأمل إلياس أن يدعو البابا لاون الرابع عشر العالم للصلاة من أجل المسيحيين السوريين، مجتمع متعب من الحرب وقلق بشأن المستقبل. ويعبّر آخرون عن نفس القلق، مثل فراس، مسيحيّ من دمشق: "لم نعد نشعر بأننا في وطننا. لا نفهم لماذا لا يُقبل بنا، خصوصًا أن المسيحيين حاولوا دائمًا محبة الجميع!".
تاريخيًا، تعود جذور المسيحية في سوريا إلى ما يقرب من ألفي عام، ولا تزال المؤسسات المسيحية قائمة بشكل لافت. ففي حلب وحدها تسجل تسع أبرشيات، وهو ما يذكّر بتعددية البلاد الدينية التاريخية. ويشير التقرير إلى أن المسيحيين يواصلون لعب دور بارز في التعليم والرعاية الصحية ودعم ذوي الإعاقة وجهود المصالحة، غالبًا عبر شبكات جمعيات توسّعت خلال سنوات الحرب.
واستنادًا إلى بيانات جمعت مباشرة من الكنائس المحليّة، تُقدّر منظمة عمل المشرق أن نحو مليوني سوري يستفيدون من مبادرات اجتماعية وإنسانية تديرها جمعيات مسيحية. وفي مجال الرعاية الصحية وحده، تُعالج أربع مستشفيات مسيحية في دمشق وحلب نحو 117,000 مريض سنويًا بغض النظر عن ديانتهم، وتُعد هذه المرافق من أفضل المؤسسات في البلاد من حيث جودة الرعاية وانفتاحها على الجميع.
التعليم هو ركيزة أخرى من ركائز المشاركة المسيحية. ففي مختلف أنحاء سوريا، تدير الكنائس 57 مدرسة تُعلّم حوالي 30,000 طالب من خلفيات دينية متنوعة. وغالبًا ما يُعتبر هذه المدارس فضاءات لتعليم قيم التعايش والسلام والاحترام المتبادل من خلال القدوة العملية.
مع ذلك، يواجه حتى هذا العمل عقبات، إذ صودرت 67 مدرسة مسيحية من قبل حزب البعث، وتجرى مفاوضات لاستعادة 30 منها فقط. بعض المباني تم تأميمها، والبعض الآخر تُرك مهجورًا، واستعادتها يتطلب تراخيص تعليمية جديدة وحسن نية سياسية غير مضمونة دائمًا. في المناطق المتضررة بشدة مثل دير الزور والسويداء، قد يُسهم إعادة فتح مدرسة واحدة في إعادة ربط المجتمعات المسيحية الصغيرة بالسكان عمومًا، واستعادة حد أدنى من الشعور بالحياة المجتمعية.
تظهر الأرقام في التقرير انهيارًا ديموغرافيًا حادًا. ففي دير الزور، التي كانت موطنًا لـ7,000 مسيحي، بقي منهم أربعة فقط. على الصعيد الوطني، أسفرت الحرب عن أكثر من 520,000 قتيل، ونزوح ملايين داخليًا، وهجّر نحو سبعة ملايين إلى الخارج. وبينما عانى جميع السوريين، تضرّرت الأحياء المسيحية بشدة، خصوصًا تلك الواقعة على خطوط المواجهة أو المستهدفة من الجماعات الإسلامية. ففي حلب، بقي حوالي سدس عدد المسيحيين مقارنة بما كان عليه قبل الحرب.
إجمالاً، يُقدّر عدد المسيحيين الذين ما زالوا في سوريا بين 300,000 و400,000، وأكثر من نصفهم فوق سن الخمسين، ما يعكس اختلالاً في التركيبة السكانيّة في المجتمع المسيحي، حيث يقلّ عدد الشباب القادرين أو الراغبين في البقاء بشكل ملحوظ. وقد ساهم الزلزال المدمّر عام 2023، والعقوبات الدولية، والخدمة العسكرية الإلزامية، في تسريع وتيرة الهجرة الجماعية التي كانت قائمة بالفعل.
ولم تتوقف العنف بانتهاء الحرب، إذ يوثق التقرير حوادث مقلقة في ظل السلطات الجديدة للبلاد، بما في ذلك هجمات على طول الساحل ضد العلويين، وهجوم على كنيسة مار إلياس خلال القداس في حزيران، وهو عمل وصف بأنه غير مسبوق حتى في أوج الصراع. وتُعد مثل هذه الهجمات نادرة في تاريخ المنطقة الحديث، مثل مجزرة كنيسة سيّدة النجاة في بغداد عام 2010.
ولا يقتصر الخوف على المسيحيين وحدهم، فقد استهدفت مجتمعات درزية أيضًا، وامتد انعدام الأمن من حمص إلى حماة واللاذقية. ولا تزال عمليات الاختطاف والعنف المحلي مستمرة، غالبًا مع تدخل محدود من قوات الدولة. ويجري رؤساء الكنائس حاليًا حوارًا مع الرئيس الانتقالي، حيث يطرحون المخاوف بشل مباشر ويقيّمون الإصلاحات الجارية وتلك التي لم تُنفّذ بعد.
أحد مصادر القلق الكبيرة هو ما يُنظر إليه على أنه "أسلمة" الحياة العامة. ويشير التقرير إلى تغييرات طرأت مؤخرًا على المناهج الدراسية، حيث تمّ حذف الإشارات إلى الآلهة ما قبل الإسلام، وإضافة عبارات تصوّر اليهود والمسيحيين على أنهم "في ضلال". ويحذّر ممثلو الكنائس أن هذه التطورات تُقوّض التعددية وتُهدّد بإشعال التوترات الطائفية.
ردًا على ذلك، دعت منظمة عمل المشرق إلى اتخاذ إجراءات عاجلة وملموسة، تشمل إنشاء آليات عدالة ومصالحة متاحة لجميع السوريين، ومنصة وطنية للحوار بين المكوّنات مستوحاة من مبادرات مثل دير مار موسى، وهياكل تمويل دولية مخصصة لحماية التنوع الإثني والديني. كما تقترح إنشاء صندوق، قد يحظى بدعم من الاتحاد الأوروبي، يهدف إلى دعم استدامة الخدمات العامة التي توفرها المجتمعات المسيحية والتي تمولها اليوم الكنائس وحدها.
ويؤكد فينسنت جيلو، مدير بعثة المنظمة في سوريا ولبنان: "تهدف هذه المقترحات إلى توجيه رسالة إيجابية إلى الشركاء الذين يشعرون بالتخلي عنهم. نحن لا نستطيع التحكم في قوات الأمن، لكن لا يزال بالإمكان القيام بشيء. وجود هذه المجتمعات بأكمله على المحك".
بالنسبة لمسيحيي سوريا، لم يعد البقاء مجرد إعادة بناء الكنائس أو المدارس، بل مسألة ما إذا كان مستقبل مشترك وتعددي ما زال ممكنًا، وما إذا كان العالم لا يزال مستعدًا للاهتمام قبل أن يختفي هذا الحضور التاريخي العريق في طي النسيان.