
مصدر الصورة: رووداو
عشتارتيفي كوم- بغداد اليوم/
نشر الخبير الاقتصادي منار العبيدي بيانات جديدة توضح توزيع الرواتب في العراق خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، وهي بيانات تكشف بوضوح حجم التحول الذي طرأ على هيكل الموازنة العامة، حيث أصبحت الرواتب تشكل العبء الأكبر والأكثر ثباتاً، في اقتصاد يعتمد بصورة شبه كاملة على إيرادات النفط.
فوفق الأرقام المعلنة، جاءت وزارة الداخلية في المرتبة الأولى بإنفاق رواتبي تجاوز 9 تريليونات دينار، تلتها وزارة التربية التي بلغ إنفاقها نحو 8 تريليونات، ثم وزارة الدفاع بأكثر من 6 تريليونات دينار، بينما سجل مجلس الوزراء نحو 5 تريليونات دينار، وهو رقم يتجاوز ما أنفقته وزارة الصحة التي جاءت في مرتبة أقل رغم اتساع الحاجة إلى الإنفاق الصحي في بلد يشهد نمواً سكانياً مرتفعاً.
هذه الأرقام لا تعكس فقط توزيعاً قطاعياً للإنفاق، بل تُظهر اتجاهاً أكثر عمقاً: الدولة العراقية باتت تستهلك الجزء الأكبر من مواردها في تمويل جهاز إداري وأمني وتعليمي واسع، أكبر بكثير من قدرة الاقتصاد على تحمّله. فالرواتب والمخصصات تشكل النسبة الأعلى من الإنفاق التشغيلي، وتترك مساحة محدودة للغاية للاستثمار، ما يجعل قدرة الحكومة على تحسين الخدمات أو بناء مشاريع جديدة رهينة بظروف السوق النفطية، لا بالتخطيط المالي الداخلي.
من الناحية الاقتصادية، يشير هذا النمو في كلفة الرواتب إلى اختلال واضح في التوازن بين الدولة كجهاز تشغيل وبين الدولة كمنظّم اقتصادي. فبدلاً من أن تكون الرواتب جزءاً من نشاط إنتاجي أو خدمي متوازن، أصبحت التزاماً مالياً ثابتاً لا يمكن تخفيضه بسهولة، ولا يمكن تمويله إلا من خلال الاعتماد المستمر على إيرادات النفط. وهذا يضع العراق في موقع هش، حيث يظل الإنفاق مرتبطاً بصعود الأسعار العالمية وهبوطها.
وتظهر بيانات 2025 أن الزيادة في كلفة الرواتب لا ترتبط بزيادة مقابلة في الإنتاجية أو في توسيع قاعدة الإيرادات غير النفطية، بل بترسيخ نهج يشجع على التعيين داخل القطاع العام بوصفه بديلاً عن خلق فرص العمل في القطاع الخاص. وبذلك، تتحول الرواتب إلى أداة سياسية أكثر من كونها جزءاً من رؤية اقتصادية، وهو ما يتعارض مع محاولات الدولة المتكررة لإطلاق برامج إصلاح مالي أو تقليص العجز.
ولذلك يرى محللون أن استمرار هذا المسار سيقود إلى مشكلة تمويلية بنيوية، إذ سيجد العراق نفسه مضطراً إلى الاقتراض أو تقليص الإنفاق الاستثماري أو الدخول في موجة جديدة من الضغوط على سعر الصرف إذا تعرضت أسواق النفط لأي هزة كبيرة. فالدولة التي تخصص هذا الحجم من الإنفاق للرواتب لا تستطيع بسهولة التحول نحو اقتصاد إنتاجي، ولا يمكنها إطلاق إصلاحات جذرية دون مواجهة حساسية اجتماعية وسياسية عالية.
وفي المحصلة، تكشف بيانات العبيدي عن حقيقة تتجاوز حدود الأرقام: القطاع الحكومي أصبح أكبر من قدرة الاقتصاد على تمويله، وأكثر كلفة من قدرة الدولة على إعادة هيكلته، وأشد ترسخاً من أن يُعالج بإجراءات قصيرة الأمد. فالرواتب اليوم ليست مجرد بنود إنفاق، بل تعبير عن نموذج اقتصادي كامل يقوم على الاستهلاك وتمويله عبر النفط، لا على الإنتاج ونموه من داخله.