في زمنٍ يُفترض أن تكون فيه المعرفة سيدة المجالس، صارت التفاهة تُمنح مقاعد الصدارة، تُزف كالعروس على شاشات الفضائيات، وتُصفق لها الجماهير، وكأنها منجز حضاري لا يُضاهى، لم يعُد غريبًا أن نشهد أسماءً تتصدّر المشهد الإعلامي وهي لا تملك من المضمون سوى الصراخ، ومن العمق سوى قشور مبتذلة، تصنعها فرق الإنتاج الإعلامي كما تُصنع السلعة، تُغلف، وتُسوّق، وتُستهلك.
هل رأيتم مشهد "باب القصر" في مسلسل المختار؟ أولئك الذين كانت مهمتهم أن يثيروا الضحك داخل قصور الطغاة، يقدمون الحركات البهلوانية، والتعليقات السمجة، ليشغلوا بلاط السلطان عن أوجاع الناس وآهات المظلومين؟ أولئك اليوم عادوا، لكن بأثوابٍ عصرية، و"فلترات" جذابة، وكاميرات HD، وتطبيقات ترفعهم في دقائق إلى قمم "الترند". ولكن المحتوى؟ خواء مقنّن.
الإشكال ليس في وجود التفاهة، فهي كانت وما تزال جزءًا من أي مجتمع، المشكلة الحقيقية تبدأ حين تتحول التفاهة إلى مشروع، تُضَخ له الأموال، وتُفرَش له المنصات، ويُعاد تدويره عبر إعلامٍ يحترف الابتذال، هنا لا نتحدث عن "حرية التعبير"، بل عن تسطيح مُمنهج للعقل الجمعي، خصوصًا في المجتمعات التي لم تتعافَ بعد من تبعات الحروب والانقسامات والجهل المركّب.
لقد صار بإمكانك أن تصبح "مشهورًا"، بمجرد أن تكون صاخبًا، متهتكًا، مستعدًا لخلع كل شيء، الوقار، الأخلاق، الحياء، بل وحتى الوطنية والدين، كل ذلك في سبيل لأيك، أو مشهد قصير يثير ضحكًا مؤقتًا، لكنه يزرع غباءً طويل الأمد.
إن ما يُروّج اليوم، عبر كثير من وسائل الإعلام ومنصات التواصل، لا يخلو من أجندة خفية، بل أحيانًا تكون واضحة وضوح الشمس، تفريغ الإنسان العراقي والمسلم من قيمه، من هويته، من حسه النقدي، ومن حلمه بالتغيير، فالعقل المشغول بالتوافه، لا يمكنه أن ينهض، ولا أن يفكّر، ولا أن يحتجّ.
في مشهد آخر من مسلسل المختار، يدخل أحد المهرجين مجلس الوالي، فيُضحك القوم بكلماتٍ سطحية، فيما كان الناس خارج الأسوار يُذبحون ظلمًا، أليس هذا ما يحدث اليوم؟ يُقصى العاقل، ويُحتفى بالمهرّج؟ يُقمع صاحب المبدأ، ويُكرم صاحب المحتوى الرخيص؟
من المسؤول؟
* هل الإعلام فقط؟
* أم الجمهور الذي ينجرف دون وعي؟
* أم الجهات التي تضخ المال لصناعة هذه الأسماء الفارغة؟
الحقيقة أن الجميع مسؤول، الإعلام يُخضع خطه للربح، والجمهور يميل للأسهل، والسلطة قد تجد في التفاهة أداةً لتخدير الشعوب.
إن مواجهة التفاهة ليست بالصراخ عليها، بل بإنتاج البديل، محتوى راقٍ، حقيقي، جذّاب، دون أن يكون مملاً أو تقليديًا، إنها معركة وعي، لا تقل أهمية عن أي معركة سياسية أو اقتصادية، لأن ما يُغتال اليوم هو العقل، والهوية، والكرامة.
لنعد إلى باب القصر في المختار، ونتذكر دومًا أن كل مهزلة إعلامية تبدأ حين يُفتح ذلك الباب لأهل التفاهة، ويُغلق في وجه أهل الموقف.