اميل
حبش (مقال منشور في جريدة الصباح)
فمنذ
القدم بدأ التباين الطبقي في المجتمعات يأخذ حيزاً واسعاً في التعامل الاقتصادي والاجتماعي وباتساع الفرق بين الطبقات ظهرت طبقات
غنية مترفة
واخرى فقيرة معدمة تحاول الاخيرة خدمة الطبقة الغنية بكل الاساليب
لكسب رضاها
وقبولها وربما على قطعة نقود منها كأكرامية تعطيها ومن هنا بدأت
فكرة البخشيش كهبة تعطى من الغني الى الفقير لقاء خدمة او عمل او
تسهيل امر يقدمه الاخير.
ويعود اول ظهور للبخشيش في الكتابات التاريخية الى زمن الامبراطورية الرومانية حيث اعتاد النبلاء ان يدفعوا مبلغاً اضافياً عند شرائهم
أي شيء من السوق ليتفاخروا امام الاخرين ويبينوا بأنهم من طبقة
النبلاء والاثرياء وكان ثاني ظهور للبخشيش في التاريخ خلال القرون الوسطى
في انكلترا حيث كان المسافرون يقدمون بخشيشاً
للسائق كرشوة لضمان عدم سرقة امتعتهم وضمان الخدمة الجيدة في المكان الذي ينزل فيه المسافر اثناء السفر ومن هنا جاء اسم البخشيش في
الانكليزية
(tips) وهي مختصر
للجملة (to
insure prompt service) والتي معناها لضمان الخدمة السريعة.
وفي عالمنا العربي دخلت هذه الكلمة عن طريق اللغة التركية التي كانت
قد اخذتها من الفارسية، حيث كان الاتراك يعتنون بالاسواق وبتنظيفها
وحراستها اثناء الليل ومقابل ذلك يأخذون رسوماً لكل من اراد
الدخول الى السوق للتسوق ويسمون هذا الرسم bahsis ) الباخسيس) ومعنى الكلمة (الذي يدفع يدخل السوق)، وبعد تدهور اوضاع الدولة العثمانية وضعفها اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن
العشرين بدأ الموظفون الاتراك بفرض البخشيش كشرط لانجاز معاملات
المقاولين ومجهزي التموين للجيش العثماني واصبح
للكلمة معنى اخر هو (ادفع للحصول على معلومات سرية) وشيئا فشيئا اكتسبت معنى (الرشوة)
وخاصة في الدول التي كانت محتلة من قبل العثمانيين وتشير الوثائق التاريخية بأن البخشيش قد اخذ شيئاً من الرسمية بعد تصريح يعزى الى
السلطان عبد الحميد الثاني الذي قال (يمكن ان نصفح عن
البخشيش المقدم الى صغار الموظفين ممن قلت رواتبهم
وكثر عيالهم في حال تأخرت هذه الرواتب واعتبار ذلك كهدية وليس كما يتصور الغربيون رشوة) وعن طريق هؤلاء الموظفين الاتراك انتقل مفهوم
البخشيش الى الموظفين العرب الذين عملوا في الدوائر الرسمية
العثمانية وبداوا بفرضه على الناس، واستمر الوضع
بعد انتقال السيطرة الى قوات الدول الغربية لان الموظفين كانوا قد تتلمذوا على يد العثمانيين وخاصة بعد ان وجدوا تشجيعاً من المحتل الجديد
الذي بدأ يقاسمهم البخشيش.
اما في العصر الحديث فبالامكان القول ان البخشيش
انتشر في معظم بقاع العالم، ولكن هذا لا يعني عدم وجود دول ترفض الفكرة اساساً فعلى سبيل المثال البخشيش لا يقدم في استراليا ونيوزيلاندا
نهائياً، وتتفاوت الدول والمجتمعات بدرجات مختلفة حول مسألة
قبوله او رفضه، فهو غير قانوني في الارجنتين وفيتنام، اما في اليابان
والصين فيعتبر اهانة وفي فرنسا ومعظم الدول الاوروبية
فهناك قانون يحدد البخشيش كنسبة مئوية من اجور الخدمة وفي اميركا يقدم البخشيش في كل مكان ويكثر حسب جودة الخدمة فاذا وضع الزبون البخشيش
وصورة النقد الى الاعلى فهذا يعني انه استحسن الخدمة اما اذا
وضعه والكتابة هي الظاهرة الى الاعلى فمعنى
ذلك ان الخدمة التي قدمت له كانت غير جيدة.
وفي بلدان اخرى يقدم البخشيش كرشوة
لضمان انجاز عمل ففي المكسيك هناك عرف بتقديم البخشيش لضابط المرور لضمان عدم تسجيل مخالفة عند الوقوف طويلاً والتجاوز على فترة العداد. وفي سجون
بولندا ومعظم دول اوروبا الشرقية يدفع البخشيش كرشوة من
عائلة المسجون لضمان عدم ضرب اقربائهم المسجونين
اضافة الى ضمان المعاملة الحسنة.
اما في البلاد العربية فلا يوجد بلد عربي واحد لا يعرف
هذه الظاهرة بكل مفاهيمها اذا كانت بمعنى
الرشوة او بمعنى الاكرامية او بالمعنيين معاً، فبعد خروج المحتل ولكون الانظمة التي تسلمت الحكم فتية وبدون خبرة لذلك استمرت ظاهرة
البخشيش القديمة وشيئاً فشيئاً اصبح مصطلح البخشيش متداولاً ليس في
الشركات الرسمية الخدمية فحسب بل امتد الى الشركات
الخاصة والى السوق واصبح مفهوماً سائداً فلأجل انجاز الاعمال يجب دفع البخشيش ولاجل الحصول على مناقصة يجب دفع البخشيش وزاد الامر سوءاً
كلما زاد تدهور اقتصاد البلد المعني بالظاهرة.
ان مفهوم البخشيش كرد خدمة تقدم من الزبون (وهنا نقصد الاكرامية) او ان يكون معناه كمبلغ يدفع لاستغلال منصب شخص اخر
للحصول على
منفعة مادية (وهنا نقصد الرشوة)، ان هذا المفهوم مرتبط بصورة او
باخرى بمدى قوة اقتصاد البلد وقوة الانظمة والقوانين فيه ومدى
احترامها من قبل السكان بالاعتماد على درجة وعيهم ورقيهم وهذا ما يدفع
عامل محطة تعبئة الوقود في اليابان مثلاً
لفتح غطاء خزان الوقود وملأه ثم اغلاقه وفحص زيت السيارة وربما تنظيف الزجاجة الامامية والخلفية للسيارة دون ان يقبل اكثر من قيمة رقم عداد
النقود على مضخة التعبئة في حين يطالب عامل محطة التعبئة في
العراق بالبخشيش الاجباري دون ان يعمل شيئاً فالسائق
من عليه اداء كل مراحل عملية التعبئة من اخذ خرطوم المضخة الى ملء الخزان وغلقه واعادة الخرطوم الى مكانه والعامل عليه ان يتسلم المال وان
ياخذ البخشيش و(يا ويلك) اذا رفضت اعطاءه البخشيش فسوف تنهال عليك
الكلمات الجارحة والاسئلة التهكمية الساخرة
منه ومن موظفي المحطة الاخرين، هذا اذا لم تتعرض الى الكلام غير اللائق.
ان ظاهرة البخشيش الاجباري منتشرة لدينا ومتفشية في كل المرافق الخدمية الاخرى فأنت تدفع هذا البخشيش الاجباري عند
شرائك للنفط والغاز في محطات التعبئة، وهي منتشرة عند عمال
الكهرباء الذين لا يقومون بتصليح أي عطب اذا لم يتم
جمع المال من الدور المتضررة من العطب والواقع نفسه موجود عند عمال المجاري والماء فالمتضرر من كسر انبوب ماء او انسداد مجرى عام عليه ان يدفع
لضمان سرعة
الانجاز وجودة واتقان العمل الذي غالباً ما يكون جيداً بجودة المبلغ
المقدم،
والبخشيش موجود ايضاً عند عمال الاتصالات والبدالات فالهاتف الارضي
يعمل حالما تدفع البخشيش وتطول فترة صلاحيته للعمل كلما كانت
قيمة البخشيش مرتفعة. لقد زادت قيمة البخشيش
لدينا لتصل الى مبالغ تحتوي على اكثر من خمسة ارقام وربما ستة ارقام يدفعها المقاولون والمجهزون لبعض المسؤولين كباراً وصغاراً لغرض ضمان
الحصول على الصفقات والمقاولات، وزادت حفلات الغداء والعشاء وزادت
حفلات اعياد الميلاد وزادت هدايا هذه الاعياد
لتصل في بعض الاحيان الى منزل اوفيلا في الداخل او في الخارج او قطع مجوهرات غالية للابنة او للزوجة او الحصول على مبلغ بصفة عمولة يوضع
في حسابات
مصرفية خاصة لقد تغيرت وجوه كثيرة كانت حتى الامس القريب صفراء
ذابلة لتتورد وتمتلئ وتغيرت الاملاك من سكن مؤجر او منزل متواضع الى
قصور كبيرة وتصاعدت الارصدة في البنوك الى ارقام خيالية لاناس كانت
جيوبهم خاوية اتخمت بالاحمر والاخضر وكل هذا بفعل
المسمى الذي يدعى البخشيش.
لقد تعددت اوجه البخشيش وتباينت معانيه منذ ايام الدولة الرومانية الى ايام الدولة العثمانية والى حاضرنا الراهن،
وبلغ الينا بهذا التنوع في التسميات ما بين الاكرامية او الهدية
او الهبة او الرشوة او العمولة... الخ وسيبقى وسيكتسب اسماء اخرى اذا بقي دون وضع
حد لهذه الافة التي تجهض خطط وعمليات البناء والتقنية وتحبطها
وتفشلها، دون التاكيد على محاربة الفساد الاداري وتطبيق
القوانين الصارمة ضده واخيراً دون توجيه السؤال المهم جداً (من اين لك هذا؟). والضمير يبقى هو الحكَم الاول والاخير.
|