لم تكن الزيارة الأخيرة للبابا لاون الرابع عشر إلى لبنان وتركيا، في 30 تشرين الثاني 2025، حدثًا بروتوكوليًا عابرًا. فقد حملت الزيارة رسالة واضحة أشبه ما تكون إلى إعلان أخلاقي وسياسي عن أهمية موقع المسيحيين في الشرق وبدوره.
البابا، الذي التقى قادة دينيين وسياسيين في البلدين، دعا المسيحيين في المنطقة إلى البقاء “شهودًا للإيمان” مشدداً على أن هجرة المسيحيين ليست حلًا، بل تفريغ للشرق من أحد أعمدته الروحية والتاريخية، وأن واجب المجتمع الدولي هو ضمان حقوقهم وتمكينهم من البقاء في أرضهم.
وفي ضوء الاعتداءات المتكررة على الكنائس في سوريا خلال السنوات الأخيرة، كان البابا حاسمًا في تأكيده أن الكنيسة لا تُشيّد جدرانًا، بل “تبني جسورًا نحو السلام”، وأن حماية دور العبادة ليست مطلبًا دينيًا فحسب، بل ضرورة للحفاظ على التعايش والنسيج الاجتماعي في المنطقة.
البابا أعاد تكرار النداء الذي تحمله الكنيسة منذ أعوام: “فلتصمت الأسلحة”، داعيًا إلى مصالحة حقيقية تؤسس لمستقبل مشترك بين مكوّنات الشرق، على قاعدة احترام الإنسان وكرامته وحرياته.
لطالما كانت سورية موطنًا لفسيفساء حضارية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، وفي قلبها يشكّل المسيحيون السوريون أحد أقدم وأرسخ مكوّناتها. حضورهم الممتد منذ القرون الأولى للميلاد، وارتباطهم الوثيق باللغة والثقافة والعمران والنهضة التعليمية، جعل منهم ركنًا أصيلًا من الهوية السورية لا يمكن اقتلاعه أو تعويضه. لكن منذ عام 2011، دخلت البلاد مرحلة تفكك خطيرة، وتحوّل جزء من الصراع إلى محاولات تهدد هذا الوجود العريق، فدُفع المسيحيون السوريون، كغيرهم من شرائح المجتمع، إلى النزوح والهجرة بحثًا عن الأمان.
نزيف ديموغرافي
ما بعد 2011 شكّل نقطة تحول قاسية، إذ شهدت البلاد واحدة من أوسع موجات الهجرة في تاريخها الحديث بين المسيحيين السوريين. تقارير منظمات دولية، بينها Open Doors، تشير إلى أن ما بين 50% و80% من المسيحيين السوريين غادروا وطنهم منذ اندلاع الحرب.
قبل عام 2011، كان المسيحيون يشكّلون نحو 8–10٪ من سكان سورية، أي ما يقارب 1.7 إلى 2.2 مليون شخص. أمّا اليوم، فتقدّر بعض المصادر أن عددهم انخفض إلى ما بين 300,000 و800,000 فقط.
تقرير وكالة الاتحاد الأوروبي للاجئين (EUAA) يذهب أبعد من ذلك، مشيرًا إلى تراجع نسبتهم إلى نحو 2٪ من مجموع السكان، أي حوالى 300,000 شخص. هذه المعطيات تؤكد أن ما يحدث ليس مجرد حركة نزوح مؤقتة، بل استنزاف حقيقي للوجود المسيحي داخل النسيج الوطني السوري.
دور الكنيسة: حماية روحية وهوية مهددة
ظلّت الكنيسة، عبر تاريخ المسيحيين السوريين الطويل، أكثر من مؤسسة دينية؛ كانت فضاءً للحماية الروحية والإنسانية، ومنبرًا للتعليم والعمل الاجتماعي، وبيتًا يلمّ الجماعة في لحظات الخوف والاضطراب. وفي فترات التوتر والحروب، لعبت دور الملاذ المعنوي لأتباعها عبر الدعم الروحي والنفسي.
لكن، ومع تصاعد الانهيار الأمني بعد سقوط النظام السابق وتسلم جماعات سلفية جهادية للحكم بدمشق وأخرى باتت قريبة منه، تعرّض المسيحيون السوريون لسلسلة انتهاكات ممنهجة، بدأت بعد أيام قليلة من تغيّر السلطة بحرق شجرة الميلاد في السقيلبية بريف حماة، وبلغت ذروتها بتفجير كنيسة مار إلياس في ريف دمشق، الذي خلّف أكثر من 120 شهيدًا وجريحًا أثناء تأدية الصلاة.
وتسجّل بعض المصادر ملاحظات على دور الكنيسة، معتبرة أنها رغم دورها الحاضن قد شجّعت ضمنيًا على الهجرة حفاظًا على سلامة أبنائها في ظل التدهور الاقتصادي، واهتزاز التعليم، والتحولات التي فرضتها السلطة القائمة على المناهج. ومع توافر شبكات واسعة من العائلات المهاجرة في أوروبا وأميركا اللاتينية، أصبحت أبواب الرحيل أكثر سهولة لمن اتخذ القرار الصعب.
تحوّل ثقافي وذاكرة مهدّدة
خروج المسيحيين السوريين من مدن مثل حمص وحلب ودمشق والجزيرة السورية لا يعني فقط مغادرة سكان لمنازلهم؛ بل مغادرة جزء من ذاكرة البلاد وعمقها الحضاري. هذا الغياب يحمل تبعات اجتماعية واقتصادية وثقافية، ويهدد أحد أعمدة الغنى الذي ميّز النسيج السوري عبر قرون طويلة. فالهجرة هنا ليست حركة بشر، بل تحوّل في هوية وطن.
العودة: احتمال معقّد
رغم سوداوية المشهد، يبقى الأمل حاضرًا. تاريخ المسيحيين السوريين يبرهن قدرتهم على إعادة التشكل وإحياء وجودهم متى توفرت الظروف. لكن العودة اليوم ليست مجرد قرار، بل مشروع وطني مواطني يضع حدا لقرارات التمييز الديني والطائفي في مؤسسات الدولة ويعيد اللحمة بين أبناء الوطن الواحد في تشاركية حقيقية لكل السوريات والسوريين في بناء البيئة الآمنة وروح العيش المشترك، أي وجود ضمانات حقيقية لمشاركة جميع السوريين والسوريات في مستقبل مشترك. بدون هذه العناصر، قد تبقى العودة حلمًا مؤجلًا.
مسؤولية وطنية
قصة هجرة المسيحيين السوريين ليست قصة فئة واحدة، بل مرآة لما عاشه السوريون عمومًا: تشظٍ وألم وفقدان، يقابله بحث مشروع عن الكرامة والحياة. وفي انتظار تعافي البلاد، يبقى الحفاظ على التنوّع السوري مسؤولية وطنية وأخلاقية، لأن سورية التي يعرفها أبناؤها بكل مكوّناتها لا يمكن أن تُستعاد إلا بفسيفسائها الكامل .
دارين الشامي




















