صباحا.. كانت اتجول في سوق باب المعظم للاغراض المنزلية المستعملة (البالة), بحثا عن شيء ما, حيث هناك يتجمع منذ الصباح الموظفين والموظفات, والطلاب الجامعيين, والمارين مصادفة, بحثت وسط التزاحم عن شي ينفعهم, وباسعار زهيدة جدا, وتتوزع الاغراض على منضدات (جنابر) وتتجمع حولها الزبائن, وأين ما تقف تجد تسابق كبير نحو الاشياء المعروضة, وانا اراقب ما يجري وما معروض من بضائع غريبة, واعترف ان خلال سنوات عملي في منطقة باب المعظم تعلمت اشياء كثيرة, لم اعرفها سابقا, ومنها الأفكار العميقة حول هذا السوق, فالأفكار مثل الطيور، لا يمكنك منعها من التحليق فوق رأسك, هذا السوق ضارب في التاريخ, فهو ليس وليد اليوم, وله أثر سحري بطريقة ما.
عندها شاهدت لوحة صغيرة مرسومة بقلم الرصاص, الحقيقة اعجبتني جدا, فقررت شرائها, وما ان مددت اليها يدي حتى سبقتني يد فتاة لها, اخذتها قبلي وهي تبتسم لأنها سبقتني وغنمت بها, كانت ترتدي قميصا ابيض وبيدها حقيبة كبيرة, بقيت عيني على اللوحة, اما الفتاة فقد دفعت ثمنها وكان فقط ألف دينار, ثم التفت نحوي وقالت بضحكة المنتصر: يا استاذ السابقون هم الفائزون, لكن اطمئن هناك الكثير, وستجد ما تبحث عنه, فقد كن اسرع, فكما قيل سابقا الفرص كالغيوم تمر مسرعة.
كنت غاضب جدا لحظتها, لكن ادرك جيدا ان مشاعر الإنسان هشة جدا، لدرجة أن يومه الكامل قادر أن يتعكر بسبب كلمة، أو نبرة صوت حادة أو حتى نظرة.. لذلك تنفست بعمق لأمتص غضبي.. ثم قلت لها: "نعم انتِ كنتِ سريعة لاغتنام الفرصة, قد لاحظت ذلك, وهذه اللوحة هي من الاقدار, وكانت قدركِ لا يفوز بها غيركِ... ثم باركت لها غنيمتها وشكرتها على دعمها.
هذه هي طبيعة الإنسان في كل زمان ومكان، فهو يطلب العدل كل حين, وكان علي ان اقبل بهزيمتي أمام سرعتها في خطف اللوحة, واقبل بالعدل في ان تفوز هي بها.
استمريت بالبحث بين المنضدات (الجنابر), كان صاحب احد المنضدات يصيح: "على عناد الحكومة نبيع المستورد الثمين بألف دينار فقط", كانت هنالك الكثير من التحفيات, والاواني, والاكسسوارت, ولوحات صغيرة, والعاب الاطفال, وفجأة وجدت بينها لوحة الموناليزا (تقليد) بقطع صغير, وقد تعلمت من تلك الفتاة اهمية اقتناص الفرصة, فان أيُّ شخص يتوقّف عن التَّعلم هُوَ عجُوز سواء كان في العِشرين أو الثّمانين, أسرعت نحو موناليزا وخطفتها قبل ان تخطفها يد اخرى, كانت هنالك مجموعة ايادي تسعى نحوها, لكن عملت بنصيحة تلك الفتاة الغريبة, وفزت بالفرصة, دفعت ثمنها فورا, كان فقط ألف دينار, وضعتها في الكيس, وفكرت هل ابحث عن فرصة اخرى اغتنمها, ام اكتفي بفرصة واحدة اليوم.. واخيرا وجدت في داخلي صوت يدفعني للخروج من السوق.
عند ممر الخروج من السوق صادفتني نفس تلك الفتاة.. وقد جلب الكيس الذي في يدي انتباهها.. عندما اقتربت منها قالت لي: يبدو انك نجحت في اصطياد شيء مهم؟ يا ترى ما هو؟ فأخرجت اللوحة من الكيس.. وقلت لها: "انظري ماذا وجدت؟".. دهشت الفتاة عندما شاهدت لوحتي.. ثم قالت لي: "انظر كيف انصفك الله سبحانه, يا استاذ انظر لحكمة الباري, انت غضبت وتحسرت على لوحة بسيطة, لكن كان ما أخفاه الله عنك عظيما, انها جميلة جدا, مبارك لك هذه الغنيمة".
كانت تنظر بانبهار شديد للوحة الموناليزا, ارجعت غنيمتي للكيس خوفا من الحسد المحبين للفن, وقلت لها: نعم ان المديح الزائد يصبح نفاقًا، لكن الحقيقة في ان ما تقولين هو فلسفة كبيرة عن العيش بطمأنينة مع انتظار عطاء السماء, او هي تفسير منطقي لقانون الجذب, انتِ جعلتني افكر بشكل ايجابي, فكان الناتج هذه اللوحة".
سكتت قليلا.. ثم كأنها تستجمع قوتها لتقول شيئا مهما.. فقالت: الحوار يكشف سر العقول والغضب يكشف الأخلاق, وفي الحالتين كنت جميلا, نعم اقول لك شكرا على هذا الكلام الذي يطيب الخاطر, اني على يقين سيكون يومي مختلفا عن ما سبقه, بسبب ..بسبب هذه المصادفة العجيبة.. ثم سكتت كأنها تنتظر ما اقول.
كانت لحظة زمنية من الصمت... رغم سهولة الصمت إلا أنه أشد ثقلاً من الكلام، حيث الغرق في التفكير.. فإن أسوأ ما قد يواجه الأنسان في حياته هو كثرة التفكير, لكن تذكرت حديثها عن الغيمة والفرصة, واهمية الاقدام.. وقد يكون كل هذا قدرا لنا.. فقلت لها: اذن بهذه المناسبة وبما كسبنا من غنائم مهمة, اعزمك على عصير من دكان حجي زبالة, احتفالا بما وجدنا...
انتظرت ردها.. مرة برهة من الزمن.. ابتسمت لتعلن تلك الابتسامة عن موافقتها, وقالت: بشرط ان نذهب الى تمثال المتنبي, فقد مر زمن طويل لم اذهب هناك.
فأشرت بيدي لعجلة التكتوك.. وقلت له: الى شارع الرشيد.
فقال: ألفان دينار.... وطارت بنا عجلة التكتوك نحو شارع الرشيد...