مازالَ العديد من روّاد الصحافة والكتّاب، لاسيّما في العراق، يترددون في الكتابة عن سوريا ما بعد حقبة نظام الأسد الإجرامية المطوية إلى مجاهل النسيان بلا رجعة. فالخشية من المجهول الذي ينتظر مستقبلها في الأفق القريب والمتوسط والبعيد كادَ أن يكون الهاجس المشترك لدى هؤلاء وغيرهم ممّن استغفلتهم الشعارات الطنّانة والتحليلات الرنّانة والتكهنات غير الدقيقة عن مجمل التحديات التي شهدتها هذه البلاد ومن تورّط في مصيرها.
فما جرى في هذه التحويلة الاستراتيجية الجغرافية والسياسية وفق المخطَّط له دوليًا عند أصحاب القرار باتجاه رسم خارطة شرق أوسط جديدة قد خيّب، كما يبدو، آمالَ العديد من العراقيين من ساسة وزعامات أحزاب ومَن والاهم من أتباع ومطيعين ومدافعين حثيثين بعيدًا عن قراءة واقعية لحقيقة نبض الشارع المتهيّب الذي لم يدرْ في خُلده أن تزول هذه الصخرة العاثرة بسرعة البرق خلال ايامٍ معدودات بعد انهيار المنظومة العسكرية وشخوصها وتراجع وسائل إسنادها الدولية التي تخلّت عن النظام وفق المخطَّط الدولي واتفاق الحلفاء والغرماء معًا.
فسياسة الدول العقلانية تقوم اليوم على أسس براغماتية تضع في حساباتها مصالحَ بلدانها وتطلعات شعوبها في الدرجة الأولى. "بلدي أولى"! هكذا هي لغة السياسة وفنونها عندما تُستهلك الأنظمة، لاسيّما الشمولية منها، لتسقطَ متدحرجةً الواحدة بعد الأخرى مثل أحجار الدومينو. أليس هذا ما حصل لبلدان المنطقة منذ بدء الربيع العربي لحين اتضاح الصورة واستكمال المخطَّط؟
سوريا اليوم بعد تحرّرها تقف أمام تحديات عديدة، أولها وأساسُها كيفية إعادة بناء الثقة بين الشعب والدولة ومَن يقودها الآن أو في مرحلة لاحقة بعد كشف الستار عن فظائع وجرائم النظام السابق بحق شعبه وأبناء بلده وزجّ مئات الآلاف ليموتوا أو يُغَيّبوا في غياهب السجون، وصيدنايا في مقدمتها. وبناء الثقة هذه لا يمكن لها أن تستديم أو تتحقّق من دون إعادة بناء الإنسان وإعمار الحجر وتنمية الشجر بسبب هول الدمار الذي شهدته معظم المدن والبلدات والقصبات والقرى السورية منذ بدء الانتفاضة الثورية الشعبية في 2011 ولغاية يوم تحرير البلاد من براثن النظام الإجرامي يوم 8 كانون أول 2024.
كما أن مسألة إعادة البناء، هذا لو حصلت هذه بسلاسة ومن دون قهر أو انزلاق وراء المسمّيات الأيديولوجية والعقائدية للفصائل التي ساهمت بإسقاط النظام السابق والمتهمة بخلفية عقائدية متشددة صعدت إلى السلطة بفعل تسارع الأحداث وتساقط الرموزوالشواخص، تتطلب في مرحلتها الأولى والحاسمة فرضَ الهدوء وأدوات الاستقرار المطلوبة لبناء الدولة وتنشيط السلم الأهلي بشتى الوسائل المتاحة من أجل استيعاب كفاءات ومساهمات جميع المكوّنات وعدم استبعاد أيّ مكوّن أو فصيل أو انتماء ديني بغية البدء بالخطوات الأولى للبناء والإعمار، والأكثر في جذب رؤوس الأموال والمتبرعين الدوليين والإقليميين والمحليّين لبلوغ هذه الغاية الوطنية في بناء الدولة على أسس جديدة وعقد وطني.
وهذا يتطلب أيضًا جهودًا حثيثة في مسألة فرض القانون على الجميع بعيدًا عن أيّ تطرّف في الفكر والعقيدة والدين والمذهب. فهذه من جملة الأسس التي تستوجب اهتمام الحكومة الانتقالية المعهودة اليوم لشخصية مؤدلجة تنتمي لأكبر التنظيمات المسلحة على الساحة السياسية الجديدة والتي عليها ملاحظات كثيرة مثار الشكوك بخصوص تطبيق لوائح حقوق الإنسان المعمول بها دوليًا. إضافةً إلى قيامها بتغيير خطابها السياسي المتشدّد المنتظَر منها دوليًا وفق المعطيات الجديدة كي تنال ثقة المجتمع الدولي.
فبناء أية دولة حضارية يتطلب اليوم وعيًا وإدراكًا ومعرفةً بحقوق الغير المختلف عن دين ورأي وفكر الطرف الحاكم الذي انتصر في جهاده ليجيدَ كيفية التحكم المتوازن والعقلاني بالسلطة وليس لاحتكارها كما فعلها النظام البائد الذي حكمَ بالحديد والنار. كما أنّ العيون كلها تترقب تعريفًا وتحديدًا للأسس والمعايير والبرامج المختلفة التي سيسير عليها الحكام الجدد وفق دستور جديد أو تعديل القائم منه ليتماشى مع الوضع القائم والتحديات العديدة التي تواجهها البلاد منذ عقود.
وحبذا لو تمّ الاستعانة باستشارات دولية نزيهة معروفة بخبرتها في سنّ الدساتير ووضع القوانين التي تجيد كيفية وضع ما يسهّل ويساهم في حفظ حقوق جميع أبناء المكوّنات كي لا تخسر هذه الثورة الشعبية الدعم الدولي والإقليمي والمحلّي الذي نالته. وبالتالي تكون "يا ابو زيد كأنك ما غزيت"!
لغة صريحة للحوار
لعلّ من الأصول والأسس التي يمكن أن تبدأ بها الحكومة الانتقالية ومجلس الفصائل المنتصرة على الظلم والطغيان، أن تبدأ بحوار وطنيّ موسّع ومفتوح من أجل ضمان حقوق الجميع وعدم نسيان أو تجاهل أيّ طرفٍ وطنيّ أو مكوّناتي أو ديني أو مذهبي. وهذا يتطلب تشكيل نواة للجنة وطنية للحوار تتبنى مقضيات المرحلة الراهنة بكلّ تحدياتها، وذلك بالاستعانة بأدوات الصفح من منطلق "الصفح عند المقدرة" ونسيان الماضي والجلوس على مائدة المفاوضات مع جميع الأطراف الوطنية في الداخل والخارج وفق منهج وطنيّ شامل تتعهد بموجبه الحكومة الانتقالية وقيادتها الموحدة بعدم تغييب أيّ طرف وبمحاسبة مَن تلطخت اياديهم بدماء الشعب السوري المظلوم.
وطالما كان التحدّي ببناء البلاد وفق أسس حضارية ومدنية ووطنية قائمًا، فلا بدّ من احترام جميع الخيارات العقائدية والفكرية باختلاف أديانها وقومياتها ووجهات نظرها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وما سواها كي يشعر المواطن من أي دين او قومية أو مذهب أنه مشمولٌ بها وله فيها رأي ونظرة سواءً في التطابق أو في الاختلاف.
فالاختلاف أيضًا قد يكون عاملاً في تقوية الوعي وتعزيز روح الانتماء وكسب رهان وحدة الوطن. كما يترتب على مَن خانه تحليل الأحداث وأخطأ في الوقائع والتوقعات والتوقيتات أن يتقبل التغيير السريع الحاصل ويتماهى مع مدخلاته ومخرجاته وفق سياسة الحكومة الانتقالية الحالية أو الإدارة القادمة إقرارًا لواقع حال مع نظرة إيجابية لمستقبل البلاد.
هذا في حالة ترقب تغييرٍ صادقٍ في منهج الفصائل المنتصرة وابتعادها عن أي تطرّف عُرفت به في سابق السنين حين تفاعلها وعملها ضمن ومع التنظيمات الإرهابية والجهادية المرفوضة دوليًا. فالوضع الدولي الراهن يتطلب تغييرًا في الفكر والإرادة والنوايا والتطبيق من منطلق النأي بالنفس عن أية جرائم إضافية أو مشاريع إجرامية بحق الشعوب.
هذا إضافةً لاستشراف ما يتطلبُه التقرّب من صيغة الاسفادة من التعاون الدولي في بناء السلم الأهلي كي يتسنى لدول العالم قبول هذه التنظيمات "الثورية" أو "الجهادية" كما كانت توصف حتى الأمس القريب، ضمن المسار المعتدل المقبول للدول المتزنة والمتوازنة في سيرتها وإدارتها وتعاونها مع شعوب ودول العالم من دون منغصات أو تهديدات أو فرض أجندات عقائدية متطرفة لم تعدْ تصلح في عالم اليوم. أي باختصار، استبدال مظاهرها المسلحة المتشددة ونزع الشرنقة الجهادية بأخرى حضارية خالصة تنبض بالحياة المدنية وترفع شعار العدل والمساواة والاعتدال سبيلاً للبناء والإعمار والتفاهم بالحوار الصادق وغير المبطن أو المشكوك فيه. فأية حكومة أو سلطة متشددة في العقيدة والتطبيق قد تبعثُ برسالة سلبية للمنطقة والعالم. وهذا ليس في صالحها إن نوت الحكمَ الرشيد ضمن آفاق الوطن وطموحات الشعب.
من كلّ ما سبق وممّا لم نأتي على ذكره، من المستحسن أن تتولى هيأة وطنية عليا متأسّسة من مختلف المكوّنات الوطنية والقومية والدينية والمذهبية لإدارة المرحلة الانتقالية وأن لا تقتصر على ممثلي الفصائل المسلحة المنتصرة في نضالها وجهادها ضدّ المنظومة السياسية البائدة. فهذا من شأنه أن يمنح قادة هذه الفصائل وزعاماتها سموّ الروح والإيثار وحب الوطن ويقرّبها أكثر من طموحات الشعب الذي عانى عقودًا من الظلم والاستبداد والقهر.
بل من شأن هذه الخطوة أن يحسّن من نظرة الشعب تجاه سموّ هدفها بتحرير البلاد وإنقاذ الشعب من جبروت وطاغوت جثم على الصدور وقمعَ النفوس وقهرَ القلوبَ والإرادات وليس بالتباهي في إسقاطِه فحسب. وهذا ما ينصح به العقلاء وأصحاب التحليلات والأقلام الوطنية الحرّة بضرورة مشاركة ممثلي جميع المكونات في هذه الهيأة الحوارية وإبعاد الشكوك حول نوايا مبطنة للفصائل العقائدية التي حاربت النظام السابق أو تلك التي تنوي الاحتفاظ بامتيازات حسبُها مثل سائر الثورات التي شهدتها بلدان المنطقة طيلة الحقب السابقة.
فمهما يكن من أمرٍ، فإنّ الفصائل المسلحة في حالة عدم التعاطي مع سياسة الاعتدال وأدوات الفهم الصحيح لموجبات الحكم الرشيد ضمن وطن واحد ولأجل مصالح الشعب، فإنها لن تكون قادرة بالإتيان والسير بمنهج وطني محايد جامع للكلّ في حالة استمرار ارتباطها سياسيًا وعسكريًا وتسليحيًا بدول داعمة وبحكّام لا يهمّهم سوى ما يتوافق مع سياسات بلدانهم.
وفي الحقيقة مثل هذه النظرة الضيقة وهذا المفهوم الناقص لن يساهم في تبديد الشكوك حول نوايا التنظيمات المسلحة صاحبة الأجندات الخاصة التي شاركت في إسقاط النظام كلّ من موقعها وبجهودها. فالشعب بعمومه وبخاصة مجتمعات الأقليات فيه، لن يهدأ لها بالٌ طالما بقيت النبرة العقائدية المتشددة قائمة ومرتفعة الصوت.
بل سيظل المجتمع بعمومه يذوقُ مرارة قدَرِه مادامت المظاهر المسلحة وأدواتُها المظهرية المتشددة سائدة في الشارع وطالما بقيت المؤسسات العامة خارجًا عن سلطة الدولة المدنية المرجوّة وبعيدة عن تطبيق القانون. فهل يقبل "الثوار" بإبقاء بلدهم تائهًا في انتظار المجهول، أمْ سيستقلّون مركبًا معتدلاً متزنًا يعرف اتجاهَه في حسن الإدارة وتقرير الإرادة بدلَ ترك بلدهم في مفترق طرقٍ مريرة ومجهولة الهوية والاتجاه والهدف في مواجهة مصيرِه الغامض؟