قصة قصيرة
خريف 2024
لم يكن النهر يهمس تلك الليلة كما كان يفعل في سائر الليالي، بل كان يغني.
جلست على ضفافه، كما كنت أفعل منذ أن كنت صبياً، أراقب المياه المتدفقة من الشمال إلى الجنوب، كأنها روح الزمن نفسه. لا يهم من أين جاءت، ولا أين تذهب، كانت دائمًا هنا، وكانت دائمًا تذهب إلى حيث لا نعرف.
كان الهواء مفعمًا برائحة الأرض الطينية التي بللتها أمطار الليلة الماضية، وصوت الضفادع يتناغم مع الأغنية التي ينشدها النهر. الليل غارق في السكون، إلا أنني كنت أسمع ما لا يسمعه الآخرون؛ كانت هناك أصوات خفية، همسات تتسلل مع نسائم الليل، أصواتٌ تحمل قصصًا قديمة منسية.
على ضوء القمر الخافت، رأيت شبحًا في الأفق، لم يكن إنسانًا ولا حيوانًا، بل ذكرى. ذكرى "مصطفى". كان ذلك الرجل، الذي أتى إلى قريتنا قبل ثلاثين عامًا، وما زال اسمه يتردد في أحاديث الناس. كان رجلاً غريبًا، قدم من مدينة بعيدة ، قال إنه يريد أن يستقر هنا، على ضفاف النهر، بعيدًا عن ضوضاء المدينة. لم نعرف من أين جاء، ولم نسأله، فنحن في القرية لا نسأل الغرباء عن ماضيهم، نترك لهم حرية حمل أسرارهم كما يشاؤون.
لكن مصطفى لم يكن مثل بقية الغرباء الذين مروا من هنا. كان يحمل في عينيه ظلالًا من حزن دفين، كأنما كان قد عاش ألف حياة قبل أن يصل إلى هذه الأرض الطينية. استأجر غرفة صغيرة في بيت الحاج "عبد القادر"، وأخذ يعمل في الحقول مع أهل القرية، صامتًا أغلب الأوقات، لكنه دائمًا يجيب بابتسامة خفيفة عندما يسأله أحدهم عن شيء.
النساء كنَّ يتهامسن حوله، يتحدثن عن وسامته وعن مظهره الغامض. أما الرجال، فكانوا يراقبونه بحذر، فهو رغم كل شيء كان مختلفًا. لكن مصطفى لم يكن يهتم بتلك النظرات، كان يعيش بيننا، وفي الوقت نفسه، يعيش بعيدًا عنا.
مرَّت السنوات، ومصطفى أصبح جزءًا من القرية، حتى تزوج "زينب"، ابنة الحاج عبد القادر. كان زواجًا بسيطًا، لكننا شعرنا بشيء غير عادي في تلك الليلة. العريس لم يبدُ سعيدًا كما يجب أن يكون العريس، والعرس لم يكن مليئًا بالأغاني والرقص كما كنا نعتاد. بدا مصطفى وكأنه يحمل على كتفيه عبء العالم كله، لكن لم يقل شيئًا.
ومع مرور الأيام، بدأ الناس يلاحظون شيئًا غريبًا. كان مصطفى يختفي كل ليلة عند منتصف الليل، يذهب إلى النهر ويجلس هناك حتى الفجر. البعض قال إنه كان يتحدث مع الجن، وآخرون قالوا إنه كان يصلي صلاة غريبة لا يعرفها أحد. لكن زينب، التي كانت تحب زوجها بعمق، لم تقل شيئًا. كانت تراقبه بصمت، تعودت على غموضه كما تعودت على هدوء النهر.
وفي إحدى الليالي، اختفى مصطفى نهائيًا. ذهب إلى النهر كما كان يفعل دائمًا، لكنه لم يعد هذه المرة. بحثنا عنه في كل مكان، في الغابات، وفي الحقول، حتى ذهب بعض الرجال إلى المدينة ليسألوا عنه، لكن لا أثر له. كأن الأرض انشقت وابتلعته.
زينب بقيت في بيتها، شاردة الذهن، لا تبكي ولا تتكلم. كان من الواضح أن مصطفى قد ترك شيئًا وراءه، شيئًا لا يمكن لأي منا أن يفهمه. وبعد شهور قليلة، رحلت زينب هي الأخرى، ودفنَّاها بجوار النهر الذي أحبَّته بقدر ما أحبَّت زوجها.
القرية عادت إلى هدوئها المعتاد بعد ذلك، لكن قصة مصطفى وزينب بقيت حية، ترويها الأمهات لأطفالهن ليلاً. كان الناس يقولون إن روح مصطفى ما زالت تجوب على ضفاف النهر، تبحث عن شيء لم تجده في حياته.
واليوم، وأنا جالس هنا، في نفس المكان الذي كان يجلس فيه مصطفى، أستمع إلى أغنية النهر. ربما كان النهر هو الوحيد الذي يعرف الحقيقة، لكنه، كما البشر، لا يحب أن يتحدث كثيرًا.