حاوره : مروان ياسين الدليمي
ليس ثمة
طريق يؤدي الى اكتشاف الحقيقة سوى البحث عنها . . هذا ماأشترطه على نفسه المخرج
السينمائي عبد الخالق الجواري عندما اختار أن يذهب بعيدا بعدسة كامرته في رحلة لاتخلو
من المتعة والتعب في آن واحد بين المسافات
والازمنة بصحبة الفلم الوثائقي . . متوغلا في مناطق وموضوعات عبث الغبار فيها ..
باحثا عن الضوء،والالم،والمعرفة،خلف اكوام من الحجارة وبين الملامح أو في شقوق
الجدران . . ومن اجل ان نقتسم معه متعة العشق للصورة والفكرة والرؤية اجرينا معه
هذا الحوار .
*الفلم الوثائقي في العراق لم يشهد اهتماما ملحوظا خلال العقود التي مضت سواء من قبل الفنانين أومن الدوائر الفنية المعنية ،الى ماذا يعود ذلك،هل يعود الى قصورفي الفهم للعمل السينمائي واختصاره بالفلم السينمائي الدرامي ام ان ذلك يعود الى صعوبة العمل في الفلم الوثائقي او قد يعود ذلك الى اسباب اخرى؟
- لم يحظ صناع الفيلم الوثائقي أوالروائي على مر الازمان المتعاقبة في العراق بما حظي عليه زملائهم في اوربا والأمريكتين من اهتمام ودعم علما ان بلاد مابين النهرين تمثل إرثا غنيا وشهيا لانتاج عشرات الافلام الوثائقية المتميزة ولا يمكن حصر القصص والاحداث التي يمكن تحويلها الى انتاج فني . ان العراق بيئة بكر لم تستثمر . فهنالك الكثير من الازمنة والاحداث التي مازالت مدفونة في ذاكرة الناس والمكان تحتاج الى من يقترب منها . يقول ايرول موريسوهو من افضل مخرجي الوثائقيات في العالم الان :-ان الشرق يمتلك ثلثي سحر العالم وغموضه.
*انت عملت في القنوات الفضائية معدا ومخرجا للبرامج ذات الهوية الوثائقية كيف تقيم تجربة انتاج مادة وثائقية للقنوات الفضائية . هل وجدت القائمين عليها يخضعون ماتفكر فيه وفقا لمقتضيات وخصوصيات البث التلفزيوني الذي يراعي الكثير من الضوابط والاشتراطات الاجتماعية. والاخلاقية على حساب الحقيقة والجرأة والموضوعية التي هي شروط اساسية لنجاح الفلم الوثائقي ؟
- تنوعت القنوات الفضائية العراقية إلى عدة أنواع ، منها قنوات خاص هدفها الربح ومنها حكومية والتي عادة ماتكون خاضعة لقوالب واشتراطات وضعتها الدولة ومازالت تلعب نفس الدور التقليدي الذي عفا عليه الزمن ،اما بقية القنوات الاخرى المطروحةعلى الساحة الفضائية ليست سوى قنوات حزبية فئوية ذات نظرة محدودة وضيقة لاتتجاوز مكانها وزمانها وبيئة نشئتها ، ولا يمكن طبعا مع ماتحمله هذه القنوات من توجهات اسيرة ايدلوجيات لاترى الواقع الاّ بعين واحدة لايمكن لها ان تنشر الوعي الوثائقي من اجل صناعة أفلام تؤرشف ذاكرة بلد غني وحافل بالأحداث والحروب والتغيرات السياسية في ظل عالم يلهث وراء الاقتصاد وجني الأرباح. ذلك لان هذا النمط من الافلام يحتاج الى هواء الحرية في التفكير والتعبير والمعالجة وهذا مالايتسع له صدر اي مسؤول في هذه القنوات التي لاتسعى الاّ لتنفيذ ايدلوجياتها السياسية ولو على حساب التضحية بالحقيقة . يقول جيمس كارتن وهو أحد أهم صناع الوثائقيات الاميركان: - ان الامة التي بلا وثائقيات هي امة بلا ذاكرة.
*نلاحظ في الاعوام الاخيرة ظاهرة الاحتفاء بالفلم العراقي في المهرجانات الاقليمية ، لماذا برأيك هذا الاهتمام ، هل يعود ذلك الى اسباب فنية يحتويها الفن السينمائي في العراق؟ ام ان ذلك ينسحب من خصوصية الواقع العراقي فقط .؟
-الاحتفاء الذي اشرت اليه بالفلم العراقي جاء اولا لاهمية مايجري على ارض العراق من احداث وثانيا لوجود محاولات جادة لعدد من الشباب السينمائيين لاثبات وجودهم وقدراتهم رغم أن الكثير من تلك التجارب مازالت تفتقر الى الموضوعية والاحتراف ،وهذان امران جوهريان يقف عليهما بناء ونجاح الفلم الوثائقي ، وعليه فيما لو لم يتوفر هذين العنصرين في الفلم فمن الطبيعي ان ينتهي تأثيره مع انتهاء المهرجان ، وليصبح بالتالي رقما يضاف في سجل قائمة الافلام العراقية المنتجة ، اي يصبح جزاً من الكم المنتج لايستدعي العودة اليه لقراءته وتأمله من جديد بين فترة واخرى من قبل الدارسين والاكاديميين . لعدم احتوائه على الجرأة في الطرح شكلا ومضمونا . فما فائدة ان تقدم عملا فنيا دون ان تحرك المياه الراكدة دون ان تثير القلق لدى المتلقين الفن لاينبغي له ان يبعث التخدير في حواس ومشاعر المتلقين كما لو كان شيئا مخدرا نحتسيه . بل ينبغي له ان يكون ممتعا في فيما يثيره من اسئلة لها صلة بحياة ومصير الانسان والبشر وينبغي ايضا ان تتوفر في العمل الفني مستويات متعددة من الافكار .
*هنالك الكثير من النتاجات السينمائية العراقية منها :ماهو وثائقي ومنها ماهو روائي قصير ،هل استوقفتك تجارب معينة ؟
- في الحقيقة استوقفتني أعمال وثائقية كثيرة منها
فيلم لمخرج عراقي مغترب هو باز شمعون البازي، يسجل المخرج في هذا الفيلم عبر اسلوب
واقعي قصصاً لمجموعة من الاطفال العراقيين
ومن شتى المكونات ، يذهبون في رحلة علاج الى اوربا بعد ان كانوا قد تعرضوا الى
اصابات وتشوهات جسدية بسبب التفجيرات التي تعرضوا لها من قبل عصابات الإرهاب ، في
هذا الفلم نجد اولئك الاطفال في رحلة علاجهم يضطرون للعيش والسفر معا وهم ينتمون اصلا الى قوميات
واديان وطوائف مختلفة ،وهنا يعيد الفلم اكتشاف الشخصية العراقية وتناغمها فيما
بينها رغم ما يحدث على الأرض المشتعلة من تقاطعات وتشنجات يقف وراءها السياسيون
وتجار الحروب الذين يلبسون ازياء مختلفة . ومن الفرص الجميلة انني كنت ضمن المجموعة
التي اشرفت على مرحلة مابعد الإنتاج لهذا الفيلم الروائي
الطويل . ايضا أعجبتني كثيرا التقنيات في
بعض مفاصل فيلم ابن بابل للمخرج محمد الدراجي رغم تحفظي على جوانب من الفلم خصوصا مايتعلق بالسرد
الوثائقي .
*بعد عشرين عاما من العمل في انتاج البرامج الوثائقية كتابة واخراجا كيف تنظر الى تجربتك انت ، هل تجد نفسك قد توصلت الى شيىء ما في هذا المضمار ،يمكن ان نجد له صورة واضحة في الايام القادمة ؟
- منذ عدة سنوات وأنا أحاول مطاردة بعض القصص بالبحث والتقصي المتكرر فالأساس لأي فيلم هي المقولة التي أؤمن بها كثيرا (ابحث ثم ابحث وفي كل مرة ستجد شيئا) ومن اجل ذلك سعيت لمخاطبة مؤسسات عربية وغير عربية لإنتاج فيلمي الذي اعمل عليه منذ مدة طويلة ، حتى استقر المشروع على مؤسسة ألمانية كبرى jena bild التي رحبت بإنتاج هذا الفيلم بمشاركة شركة kic film الكندية وبرعاية مؤسسة الفيلم القومي الكندي وقد شرعنا فعلا بكتابة السيناريو معا انأ والأستاذ قيس الزبيدي السينمائي العراقي المعروف والفيلم من إخراجي , يتناول الفيلم رحلة عالم الآثار ماكس مالوان وزوجته الكاتبة أجاثا كريستي في العراق في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي . كما أنهيت عمل مائة حلقة من برنامج وثائقي عنوانه (حكاية صورة) بواقع عشردقائق لكل حلقة وهو من إنتاج شركة عراقية ، وسوف يعرض قريبا على أكثر من قناة فضائية والبرنامج يتناول 100 حدث من خلال صور الشخصيات نفسها، في محاولة منّا لارشفة الوثيقة العراقية التي داستها سنابك خيول المحتل واوشكت على طمر الكثير والثمين منها.
شرعنا في ذات الوقت ايضا في كتابة وانتاج فيلم وثائقي لصالح احدى القنوات العربية وهي تجربة جميلة في الكتابة والاخراج المشترك بيني وبين المخرج السينمائي الاستاذ قيس الزبيدي الذي سيكون لي الشرف وللمرة الاولى ان اوقع باسمي الى جانب اسمه العالمي الكبير، كما اني وبعد دورة مكثفة عالية التخصص تمكنت من الحصول على شهادة اول مخرج عربي على كاميرات Redcinama)) Arri alexa) )وهذا النوع من الكاميرات جديد تماما على المنطقة برمتها وهو الذي سيجعل العمل السينمائي اكثر سهولة بدون استخدام الفيلم 35ملم ، وبعد نهاية الدورة اعمل الان على تدريب مخرجين ومصورين في اكاديميتين خاصتين هما:
Focus
Academy)) و Drama Academy))
*عندما تبدأ في التفكير في انتاج عمل ما ،هل هنالك موضوعات معينة دائما ماتدور في وجدانك ، ام انك تلتقط الموضوعات مما قد يدفعه الواقع الى السطح ، ام انك تسعى لاكتشاف الموضوعات ؟
- لقد استفدت كثيرا من التجوال في كردستان العراق من أقصاها لأقصاها خلال أكثر من 3 سنوات أنتجت فيها بالتعاون مع قناة عشتارالفضائية أكثر من سبعين برنامج وثائقي له خصوصية وشكل معين يمكن مقارنته بادب الرحلات، وبواقع نصف ساعة للحلقة الواحدة ، حاولت في هذه التجربة ان أسرّع في عملية الإنتاج التفيذي والضغط في كلفة الانتاج حتى تتلاءم مع الميزانية المتواضعة لقناة محلية ، فأنا أؤمن تماما بقضية اساسية وهي : لكي تكون مخرجا وثائقيا ناجحا عليك ان تكون خلاقا حتى في تقنين النفقات الإنتاجية!
*هنالك العديد من التجارب العالمية في الفلم الوثائقي ، هل تعتقد ان الفنان العراقي قريب من تلك التجارب ، هل قرأها بشكل جيد ، هل حاول ان يكتشف مافيها من عناصر فنية . ؟
- لاتزال التجارب العراقية محلية وضيقة ،ولا تتجاوز خارطة ولادتها ، لكني لا اعتقد ان هذا الواقع سيطول ، لأننا اليوم نراهن على الطاقات الشابة النخبوية الجديدة التي تسعى لاستخدام الثقافة استخدام أمثل من أجل خلق صناعة سينمائية ووثائقية. مازلنا بحاجة لرؤية تجارب الاخرين الذين سبقونا في هذا المضمار . لان رؤية هذه التجارب على تنوعها في الرؤية والمعالجة والاساليب سيفتح افاقا كبيرة في نمط تفكيرنا ويجعلنا نسعى لان لانستسهل البدء في اي مشروع فني وثائقي . فهذا العمل يحتاج الى وقت طويل من التحضير والاستعداد على الورق قبل البدء في التنفيذ . وهذا فرق جوهري بيننا نحن في العراق وبين التجارب المتقدمة في العديد من دول العالم .
*نود ان تعطينا فكرة عن طبيعة التجارب والاعمال المهمة التي انجزتها ؟
- ابتدأت العمل في الفلم الوثائقي منذ نهاية التسعينات عندما رافقت المخرج
الايطالي القس(Director: Jan-Marie Benjamin) اثناء انتاجه فيلم في
العراق تحت اسم Iraqi solidarity أثناء تلك التجربة سحرني الموضوع كثيرا وتعلمت
منه ان الصبر هو حقا مفتاح الحل في الفلم الوثائقي وان خلق مجابهة واستهلال وخاتمة امر نتركه للحدث نفسه وينبغي
علينا ان لانظيف ولانتطفل عليه.
*بماذا تفكر الان . . ماهي المشاريع التي تسعى لتحقيقها ؟
- أسعى منذ فترة لخلق بيئة عمل وثائقية جديدة وذلك عن طريق تأسيس مدرسة لتطوير الشباب الراغبين في العمل بهذا المجال ، ولدي أيضا قيد الانجاز كتاب وصل الى مراحله النهائية يتحدث عن أسس بناء الفيلم الوثائقي وهو بعنوان(الإعداد المسبق . . إكسير النجاح).
*نشر في صحيفة الزمان اللندنية يوم الخميس 23/6/2011