هذا المشهد المعقّد، الذي تداخلت فيه شعارات احتجاجية ذات طابع معيشي مع هتافات سياسية ودعوات فئوية، فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات حول طبيعة ما يجري، وحدود التهديدات الأمنية، وقدرة الدولة السورية الجديدة على احتواء الأزمة ومنع تمددها.
في هذا السياق، قدّم كل من مدير مؤسسة غنوسوس للأبحاث عمار وقاف، والكاتب والباحث السياسي حسن الدغيم، قراءتين تحليليتين خلال حديثهما إلى غرفة الأخبار على سكاي نيوز عربية، عكستا مقاربتين متقاطعتين تضعان العامل الاقتصادي في صلب الأزمة، مع اختلاف في تقييم الأداء الأمني وطبيعة المعالجة المطلوبة.
من الاعتصام إلى الشارع.. سياق متراكم للاحتقان
يقدّم عمّار وقاف قراءة نقدية لمسار الاحتجاجات الأخيرة، واضعاً إياها في سياق تراكمي من الإخفاقات في المعالجة، ومشدداً على أن ما جرى يمثّل "انتكاسة" ناتجة عن غياب حلول ملموسة، وافتقار الناس إلى رؤية واضحة تُظهر "ضوءاً في نهاية النفق".
ويؤكد وقاف أن الاحتجاجات ليست حدثاً معزولاً، بل حلقة ضمن سلسلة مطالب اجتماعية واقتصادية وأمنية لم تُعالَج منذ سقوط النظام السابق.
يربط وقاف بين الدعوات للاعتصام وما سبقها من أحداث، مشيراً إلى أن الهجوم الذي طال أحياء العلويين في حمص الشرقية شكّل لحظة مفصلية دفعت الناس إلى الشعور بأن الاستباحة بلغت حداً لا يُحتمل.
ويرى أن الاعتصام الذي جرى لاحقاً أسهم في تخفيف الاحتقان، إلا أن محطات تالية، من بينها احتجاجات اليوم، جاءت في ظل استمرار القضايا ذاتها دون حلول.
فشل المعالجة وارتداداتها الأمنية
ينتقد وقاف أسلوب التعامل مع الاحتجاجات، معتبرا أن ما جرى من اقتحامات وتخريب وإطلاق نار وسقوط قتلى لا يمكن أن يشكل معالجة سليمة.
ويؤكد أن غياب استراتيجية معلنة يترك الناس فريسة للتحريض، ويدفع البلاد تدريجياً إلى دوامة عنف وعدم استقرار، بما يهدد الأرزاق والأرواح معاً.
الاقتصاد في صدارة المطالب
يضع وقاف العامل الاقتصادي في صلب الأزمة، موضحا أن تسريح مئات آلاف الموظفين منذ سقوط النظام السابق حرم المنطقة الساحلية من موردها الأساسي، إذ يقوم اقتصادها على الرواتب.
ويشير إلى أن تسريح نسب كبيرة من العمال، بمن فيهم معلمون وعمال مرافئ، أصاب الاقتصاد المحلي بالشلل، ودفع الناس إلى الجوع والاحتقان.
ويرى أن تجاهل خبرات هؤلاء وعدم إعادة توظيف جزء منهم على الأقل فاقم الأزمة بدل أن يحرّك عجلة الاقتصاد.
المعتقلون والمختطفون واستمرار القتل
يعد وقاف ملف المعتقلين من القضايا الملحة، مطالبا إما بإحالتهم إلى المحاكمة أو الإفراج عنهم بانتظارها، رافضا إبقاء الآلاف رهن الاحتجاز.
ويقر بوجود تحسن محدود في ملف المختطفين، لكنه يؤكد أن القتل ما زال مستمراً، ما يعمّق شعور اليأس لدى الناس.
القادة المجتمعيون وخلل التعاطي الرسمي
يشدد وقاف على أهمية القادة المجتمعيين النزيهين بوصفهم جسورا للحوار، منتقداً اعتقال شخصيات تحظى بثقة الناس بدل التعاون معها.
ويرى أن هذا النهج يكرس القطيعة ويُضعف فرص الحل، إذ لا يمكن فرض قيادات لا يثق بها المجتمع.
الفيدرالية وعدم الاستقرار.. تحذير من الوهم
يحذر وقاف من "آلة كذب" تروّج لوعود سريعة وحلول سحرية، مؤكداً أن استمرار عدم الاستقرار سيمنع دخول الأموال إلى البلاد.
ويختم بالتشديد على أن جوهر المشكلة اقتصادي، وأن تأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة كفيل بإحداث تحوّل، محذراً من أن استمرار النهج الحالي يقود إلى "مصيبة" لا تخدم أحداً.
الأزمة الاقتصادية كمصدر للتوتر
من جهته قال الكاتب والباحث السياسي حسن الدغيم إن تفكيك بنية عسكرية وأمنية مرتبطة بنظام بائد دام 60 عاما لا يتم بين ليلة وضحاها، موضحا أن جزءاً من المجتمع لم ينسَ وهج السلطة من رؤوسه.
وأكد أن هذا التفكيك يجري في وسط اجتماعي تأثر بتسريح عدد كبير من العاملين في الجيش السابق وأجهزة المخابرات والحواجز والشبيحة، ما أفرز أزمة اقتصادية حادة في الساحل السوري، حيث تجد دعوات الفئوية والجهوية والطائفية التي يطلقها غزال غزال وغياث دلا وفليحة استجابة من بعض المفصولين الذين يسعون لنقل مطالبهم الاقتصادية عبر هذه الدعوات.
يشير الدغيم إلى أن نحو 300–400 ألف أسرة فقدت أبناءها العاملين في المؤسسة العسكرية والأمنية، إضافة إلى فقدانهم مساكنهم العسكرية ورواتبهم، ما جعلها عرضة للاستغلال من قبل أطراف مثل غزال غزال ومرشد الخزنة وفليحة وغياث دلا.
وأضاف أن التظاهر، رغم كونه حقاً مكفولاً، يصبح معقداً في ظل مناخ تحريضي، وانتشار قطع السلاح، واستغلال قوات سوريا الديمقراطية "قسد" للفوضى لتحقيق مصالحها وتأخير اندماجها بالدولة.
الإنجاز الأمني للدولة
أكد الدغيم أن الدولة لم تفشل أمنيا، بل حققت إنجازات مهمة، مشيرا إلى زياراته للمناطق السورية المختلفة، من الساحل إلى الجبال والبادية وصولاً إلى حدود العراق.
وأشاد بوزارة الداخلية وسياساتها في ضبط النفس وحماية المتظاهرين السلميين، وإشعار المواطنين لأول مرة بوجود دولة قادرة على إدارة الاحتجاجات دون الانجرار إلى العنف، رغم تعرض بعض الضباط للرشق بالحجارة.
العقوبات وغياب الموارد
أوضح الدغيم أن رفع العقوبات جاء شكلياً، إذ لم يصل أي دولار فعلي إلى البنك المركزي، في حين يسيطر الريع النفطي والغازي على قوات سوريا الديمقراطية، ما يعوق قدرة الدولة على صرف الرواتب وتلبية الاحتياجات الاقتصادية العاجلة للأسر المتضررة.
مهددات الوحدة الوطنية
حذر الدغيم خلال مداخلته من مهددات الوحدة الوطنية، متطرقا لضباط النظام البائد الهاربين إلى لبنان، وعصابات الحرس الوطني التي ترفع صور بنيامين نتنياهو بجانب صور حكمت الهجري في السويداء، إضافة إلى قسد التي تحتجز جزءاً من الريع النفطي وتواصل الاشتباك مع الجيش السوري، مستغلة خطاب حماية الأقليات لإدامة الفوضى وإثارة أوهام الفيدرالية والتقسيم.
استراتيجية الدولة والصبر المطلوب
قال الدغيم إن تفويت الفرصة على المحرضين يتطلب التزام الدولة برؤيتها الاستراتيجية وعدم الانجرار إلى الفعل ورد الفعل، مشيراً إلى توجيهات المستشار للشؤون الدينية للرئيس السوري حول ضبط النفس.
وأكد أن غالبية أبناء الطائفة العلوية (80–90%) ملتزمون بالدولة ويرفضون الفيدرالية واللامركزية، ويحتاجون إلى الصبر حتى وصول الاستثمارات وتدفق الموارد المالية.
العدالة الانتقالية والحلول الاقتصادية
يميز الدغيم بين المسلحين المحرضين، الذين يكون التعامل معهم أمنياً وعسكرياً، وبين المواطنين ذوي المطالب الاقتصادية المشروعة، مؤكداً ضرورة حفظ كرامتهم وصرف رواتب عاجلة للأسر الأكثر حاجة، خصوصاً أولئك الذين فقدوا دخلهم منذ أكثر من 14 عاماً نتيجة الصراعات.
كما شدد على أن العدالة الانتقالية تشمل مساراً اقتصادياً لدعم النساء والأطفال والمجتمعات المتضررة، بما يضمن السلم الأهلي وعدم تكرار المأساة.
أوضح الدغيم أن انضباط الأجهزة الأمنية، والاجتماعات مع وجهاء الساحل، وإطلاق سراح الموقوفين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء، كفيل بقطع الذرائع أمام دعاة الفوضى، وفتح أفق إيجابي لاستقرار سوريا، مع تلبية المطالب الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.




















