Jun 20, 2025
إنّ المقولة الخالدة للفيلسوف اليوناني فيدروس التي تدعو إلى عدم السماح للنجاح بالتأثير على النفس وتضخيم غرورها والذي قد يؤدي إلى فشل ذريع، تُمثّل تحذيرًا خالدًا لترامب ونتنياهو.
بعد أن اختبر نتنياهو حلاوة نجاح إسرائيل الباهر في تدمير العديد من المواقع الحساسة في إيران وقتل كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين، رفع الرهان الآن بالسعي إلى تغيير النظام بموافقة ضمنية من ترامب. والتهديد بقتل المرشد الأعلى خامنئي والمطالبة بـ”استسلام غير مشروط”، وتلميح ترامب بالإنضمام إلى المعركة، قد يؤديان إلى حريق إقليمي ذي عواقب وخيمة. يمكن التوصل إلى حل سلمي أفضل بكثير بشأن البرنامج النووي الإيراني إذا تضمن أيضًا حلًا سياسيًا طويل الأمد بين إيران والولايات المتحدة، وبالتالي إسرائيل. ومن شأن المفاوضات السياسية المتزامنة أن تُخفف من حدة انعدام الثقة المتبادل الذي عصف بالمحادثات حول البرنامج النووي الإيراني وأدى إلى الحرب الإسرائيلية الإيرانية المروعة.
استسلام غير مشروط
من الصعب المبالغة في سخافة مطالبة ترامب لإيران بالاستسلام غير المشروط، مهددًا إياها إن لم تفعل ذلك فإن الولايات المتحدة ستنضم إلى المعركة وتدمّر ما تبقى من منشآت إيران النووية والعسكرية. كثيرًا ما يُثرثر ترامب دون تفكير عميق فيما يقوله وتداعيات ما يقول. للأسف، لا يوجد مستشار عاقل يُخبره أن إيران ليست دولةً يُمكنه التسلط عليها.
يمكن لإيران أن تُقدم تنازلات كبيرة، بل وحتى أن تخسر الحرب، لكنها لن تستسلم أبدًا ولن تُهان ولن تفقد كرامتها. ويعكس رد فعل خامنئي على تهديد ترامب آراء كل من يعرف إيران. فقد صرّح بأن “الأشخاص الأذكياء الذين يعرفون إيران والشعب وتاريخ إيران لن يُخاطبوا هذه الأمة بلغة التهديدات، لأن الأمة الإيرانية لا تُقهر”.
التهديد بقتل خامنئي
ثمة تهديد أخطر، يحمل في طياته دلالاتٍ مشؤومة، يتمثل في إشارة ترامب إلى إمكانية قتل آية الله خامنئي: “لن نقضي عليه (نقتله!)، على الأقل ليس في الوقت الحالي”. فأي نظام عالمي سنعيش فيه إذا كان بإمكان كل ّ رئيس دولة أن يقتل رئيس دولة أخرى لمجرد وجود خلاف جدي بينهما ؟ ألم نتعلم شيئًا من غزو العراق وقتل صدام حسين؟ في الأول من مايو/أيار 2003 أعلن الرئيس جورج دبليو بوش من على متن حاملة الطائرات الأمريكية أبراهام لنكولن: “المهمة أنجزت”، آملًا أن تؤدي إزاحة صدام حسين إلى عراق أكثر ديمقراطية واستقرارًا.
لكننا الآن نعرف ما حدث. لم نحرّر العراق، بل سلمناه لإيران، مما دفع العراق والمنطقة إلى مزيد من الإضطرابات وكانت طهران المستفيد الأكبر من حماقة الولايات المتحدة. قُتل أكثر من 4400 جندي أمريكي وجُرح 32 ألفًا بتكلفة باهظة بلغت 1.6 تريليون دولار. إذا نفّذ ترامب تهديده الأحمق، فإن إيران قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بالمنشآت العسكرية الأمريكية في المنطقة وإيقاف شحنات النفط بإغلاق مضيق هرمز، مما يُحدث دمارًا اقتصاديًا عالميًا.
مفاوضاتٌ يخيم عليها انعدام الثقة
سادت المفاوضات الأمريكية الإيرانية حالةٌ من انعدام الثقة وركّزت على الصراع النووي، وتحديدًا على رفض إيران القاطع التنازل عن حقها في تخصيب اليورانيوم. وقد جعل انعدام الثقة المُبرر المتبادل بين الطرفين احتمال التوصل إلى اتفاق أمرًا بالغ الصعوبة. وبينما دأبت إيران على الإدعاء بأنها لا تسعى إلى امتلاك سلاح نووي، وأن برنامجها النووي مُخصص للأغراض الطبية والطاقة، إلا أنها كذّبت مرارًا وتكرارًا بتخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 60% وبكمية كافية لإنتاج 10 قنابل نووية بمجرد تخصيبه إلى درجة نقاء 90%. وفي المقابل، لدى إيران كل الأسباب لعدم ثقتها بالولايات المتحدة، وخاصةً ترامب، ليس فقط بسبب تردده بين استعداده للتفاوض وتهديداته بالإنضمام إلى حرب إسرائيل، بل لأن ترامب نفسه هو من ألغى خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015. والآن يسعى ترامب إلى الحصول على صفقة أفضل ليتفاخر بتفوقه على الرئيس أوباما.
دبلوماسية المسار المتوازي
إن التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني لا يكفي، في حد ذاته لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الإيراني وتحقيق الإستقرار في المنطقة بالضرورة. ونظرًا لانعدام الثقة بين الولايات المتحدة وإيران، فإن اتباع مسار موازٍ لمناقشة العلاقات طويلة الأمد بين البلدين بما يُفضي إلى تطبيع العلاقات، من شأنه أن يحقق ثلاثة أهداف: أولًا، سيخفف بمرور الوقت من حدة انعدام الثقة ويجعل المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني ليست مستقلة، بل جزءًا لا يتجزأ من تطبيع العلاقات بكل ما يحمله من مزايا وفوائد. ثانيًا، سيخفف المسار المتوازي بشكل كبير من خوف رجال الدين الإيرانيين من تغيير النظام قسرًا، وهو ما يخشونه أكثر من غيره ويضغط عليهم لإظهار مرونة أكبر.
وبعد أن دمرت إسرائيل جزءًا كبيرًا من المجمعات النووية والعسكرية الإيرانية، يمكن للولايات المتحدة التفاوض مع إيران من موقع قوة، ولكن يجب عليها تمكين إيران من الرضوخ دون أن تُهان لمنع الإنطباع بأنها تستسلم للمطالب الأمريكية. وبفضل تاريخها العريق وثقافتها الغنية ومواردها البشرية والطبيعية الهائلة، فإن الفخر الوطني الإيراني متأصل ليس فقط في وجدان رجال الدين، بل في عقول جميع الإيرانيين. و لا يزال العديد من الإيرانيين حتى يومنا هذا يستنكرون الولايات المتحدة لتدبيرها الإطاحة بحكومة مصدّق عام 1953 والتي بررتها الولايات المتحدة بمخاوفها من تنامي النفوذ الشيوعي والحاجة إلى حماية المصالح الغربية.
معالم الإتفاق
لم يفت الأوان بعد للإستجابة لدعوات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لوقف إطلاق النار حيث أعرب عن استعداده لاستئناف المفاوضات فورًا، مشيرًا إلى أن إيران ستوقف هجومها الإنتقامي بمجرد أن توقف إسرائيل هجومها الجوي. هناك ثلاثة احتمالات مختلفة لحلّ مطلب إيران بممارسة “حقها” في تخصيب اليورانيوم .1) السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء ٤-٥٪ تحت أشد رقابة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتي ستشمل مراقبين أمريكيين .2) السماح لإيران بالإحتفاظ بحقوق التخصيب قصيرة الأجل بنسبة تتراوح بين3 و5 % وبكمية محدودة للأغراض السلمية، هذا مع التوافق مع أهداف الولايات المتحدة طويلة الأجل لمنع الإنتشار.3) السماح لإيران بالإحتفاظ بمنشآت تجريبية رمزية تحت إشراف صارم من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يعكس اتفاق عام 2015. وبموجب أي اتفاق، سيُطلب من إيران نقل كامل مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60٪ إلى أي دولة تقبلها الولايات المتحدة.
وإلى جانب الإتفاق على كيفية التصرف في البرنامج النووي الإيراني، يجب على الولايات المتحدة دمج ثلاثة عناصر سياسية أساسية أخرى من شأنها تعزيز أي اتفاق يتم التوصل إليه بشأن البرنامج النووي، ولكن أيضًا التوصل إلى تفاهم مع إيران والتزامها بإظهار حسن النية والإهتمام الشديد من خلال الموافقة على ما يلي:
1) يجب على إيران التوقف عن تهديد إسرائيل وجوديًا، لأنه طالما أن إسرائيل مهددة، فلها كل الحق في الدفاع عن نفسها، بما في ذلك مهاجمة إيران استباقيًا، ومنع اندلاع صراع مستقبلي وضمان الإستقرار الإقليمي.
2) يجب على إيران إنهاء أي مساعدة مالية ودعم عسكري لما يسمى “محور المقاومة”. لقد قُضي على وكلاء إيران الرئيسيين حماس وحزب الله إلى حد كبير على يد إسرائيل، وباتت إيران تدرك الآن عدم جدوى دعم هذه الجماعات. وبدلاً من ذلك، تستطيع إيران ممارسة نفوذ إقليمي من خلال مواردها البشرية والطبيعية الهائلة وموقعها الجيوستراتيجي.
3) أخيرًا، يجب على إيران التوقف عن التدخل في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني واستغلاله لمصلحتها الخاصة. يجب أن تترك للسعودية والولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين إمكانية إيجاد حل دائم يلبي تطلعات الشعبين، الإسرائيلي والفلسطيني.
وترامب، الذي لا يريد حربًا في عهده، لديه الآن فرصة ذهبية للإستفادة من نجاح إسرائيل ونسب الفضل لنفسه في مساعدتها على خفض قدرات إيران العسكرية وبرنامجها النووي بشكل كبير. عليه أن يقبل دعوة بيزيشكيان لوقف إطلاق النار والإستعداد لإستئناف المفاوضات النووية. سيجد ترامب أن الإيرانيين أكثر مرونة بكثير من الماضي لأنهم يرغبون بشدة في إنهاء الحرب ومنع الولايات المتحدة من التدخل والحفاظ على النظام.
على ترامب أن يصغي لنصيحة الفيلسوف اليوناني فيدروس: “النجاح يُضلّ الكثيرين إلى هلاكهم”. من الصعب تضخيم غرور ترامب ونتنياهو أكثر، ثم خسارة ما كسباه بالفعل. يجب على كليهما أن يضعا في اعتبارهما أن الحرب قد وصلت الآن إلى مفترق طرق خطير وقد تُغرق المنطقة في حرب شاملة. وسيكون خطأً فادحًا أن يقرر ترامب الإنضمام إلى نتنياهو الذي يتوق إلى جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب على أمل أن يؤدي ذلك إلى انهيار النظام دون مراعاة العواقب الوخيمة.
لا ينبغي أن يُقنع نتنياهو ترامب بجرّ أمريكا إلى حرب لا يريدها أحد سوى نتنياهو. سيُخدم غرور ترامب على أفضل وجه إذا ظهر كصانع سلام لم يكتفِ بحل الصراع حول البرنامج النووي الإيراني، بل دشّن أيضًا حقبة جديدة من الإستقرار والسلام الإقليميين.
أجل، قد يكون هذا الأمر مُفرطًا في الأمل والتفاؤل، ولكن في النهاية يجب علينا ألا نتخلى عن المحاولة أبداً.