يعتقد عالم النفس الأميركي غوردون ألبورت أن النبوءة الذاتية التحقق قد تكون سبباً للحرب (أن سبلاش)
عشتارتيفي كوم- اندبندنت/
قالها الفيلسوف الصيني لاوتسو منذ القرن الخامس قبل الميلاد: "راقب أفكارك لأنها ستصبح كلمات، راقب كلماتك لأنها ستصبح أفعالاً، راقب أفعالك لأنها ستتحول إلى عادات، راقب عاداتك لأنها تكوّن شخصيتك، وراقب شخصيتك لأنها ستحدد مصيرك"، قد تبدو هذه العبارة واحدة من العبارات المتداولة بين أتباع حركة "العصر الجديد"، إلا أنها في العمق تشكل نقطة وصل وامتداد مع مفهوم شائع في العلوم الاجتماعية الحديثة، يطلق عليه "النبوءة التي تحقق ذاتها".
النبوءة التي تحقق ذاتها
"النبوءة التي تحقق ذاتها" (SFP) مفهوم يستخدم في العلوم الاجتماعية والسلوكية للإشارة إلى العملية التي تُفضي بها توقعات شخص أو كيان تجاه شخص أو كيان آخر إلى تصرف الثاني من دون قصد بطرق تؤكد توقعات الأول وتسهم في تحقيق السلوك المتوقع من قبله.
ويعرف قاموس كامبريدج النبوءة التي تحقق ذاتها بأنها حالة يحدث فيها أمر ما لأنك توقعته أو قلت إنه سيحدث، فمثلاً تحدد توقعات المبيعات كيفية نشر الكتاب ونتائجه، وغالباً ما يكون التنبؤ بضعف المبيعات نبوءة متحققة بذاتها.
والعملية تتلخص بأن الاعتقاد بحدث مستقبلي، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، يؤدي إلى مجموعة من الأفعال، وهذه الأفعال التي تحركها المعتقدات يمكن أن تغير الوضع بصورة خفية أو واضحة، مما يجعل التوقع الأصلي أكثر احتمالاً للحدوث، لتصبح النتيجة المتوقعة حقيقة واقعة تثبت الاعتقاد الأولي، حتى لو كان غير دقيق في البداية.
والفكرة الأساسية في النبوءات الذاتية التحقق هي أن فكرة غير مدعومة أو خاطئة تُحفز سلوكاً يدفع بدوره الشخص إلى التصرف كما لو كانت هذه الفكرة حقيقة، أي قد يتحول الواقع الزائف إلى حقيقة نتيجة الاستجابات النفسية البشرية للتنبؤات والمخاوف والقلق المرتبطة بالمستقبل.
الاستقراء الذاتي
وأسهم عالم الاجتماع روبرت ميرتون في إدخال هذا المفهوم في صلب العلوم الاجتماعية عام 1948، وقدّمه في كتابه "النظرية الاجتماعية والبنية الاجتماعية" بحسب ميرتون، النبوءة الذاتية التحقق عنصر أساس في النظرية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحديثة، وعرفها بأنها تعريف خاطئ لوضع يستدعي سلوكاً جديداً يجعل المفهوم الأصلي الزائف حقيقة، وقد أعيدت تسمية المفهوم لاحقاً بـ"تأثير أوديب" أو "الاستقراء الذاتي".
وضرب ميرتون لنا مثالاً كلاسيكياً من علم الاقتصاد، بأنه يمكن لبنك ما أن يفلس بسبب إشاعات، إذا اقتنع لسبب ما غالب المستثمرين والذين أودعوا أموالهم بأن البنك سينهار قريباً، وأنهم قد لا يتمكنون من سحب أموالهم إلا إذا فعلوا ذلك في أسرع وقت ممكن، قد يُسارعون إلى سحب أموالهم منه، إلى أن يصبح ذلك الإفلاس واقعاً، أي ستؤدي توقعاتهم التي لم تكن صحيحة أصلاً إلى سلوك جديد سيؤدي بدوره إلى ما توقعوه.
وفي مجال العلاقات الدولية، يعتقد عالم النفس الأميركي غوردون ألبورت أن النبوءة الذاتية التحقق قد تكون سبباً للحرب، مجادلاً أنه في حال اعتقدت دولة ما أن دولة أخرى تُسلّح نفسها تحسباً لحرب ضدها، فإن الدولة الأولى (صاحبة الاعتقاد) ستُسلّح نفسها بنية الدفاع عن النفس من قبل الدولة الثانية، مما سيدفع الدولة الثانية بدورها إلى التسلح أيضاً دفاعاً عن النفس، وهكذا دواليك حتى تندلع حرب على أرض الواقع بناءً على أفكار أولية لا أساس لها من الصحة.
وفي العلوم الطبية، قارن هنري بيتشر تأثيرات المورفين بتأثيرات الدواء الوهمي، والدواء الوهمي (البلاسيبو) أحد الأمثلة على النبوءات الذاتية التحقق، في هذا المثال، قسم المرضى إلى مجموعتين، مجموعة تتلقى علاجاً جديداً ومجموعة تلقت بلاسيبو، وأظهر أولئك الذين تلقوا البلاسيبو تحسناً في حالتهم على رغم عدم وجود عامل فعال يُسبب التعافي، أدى إيمانهم بهذا المعتقد إلى تحققه.
في التربية والتعليم والأداء الأكاديمي تحدث هذه النبوءة في الفصل الدراسي عندما يُعلق المعلم توقعات على طلاب محددين، تدفعهم إلى التصرف بطريقة تؤكد التوقع، ليتحول من توقع خاطئ إلى واقع صحيح.
التهديد النمطي
والتهديد النمطي من الأمثلة على النبوءات الذاتية التحقق وهو عبارة عن مأزق ظرفي يشعر أو يتعرض فيه الأشخاص لخطر التوافق مع صور نمطية سلبية مرتبطة بفئتهم الاجتماعية، ومن المفارقات أن هذه المخاوف قد تؤدي إلى تحقيق هذه الصور النمطية.
ويعد تهديد الصورة النمطية عاملاً مسهماً في الفجوات العرقية والجنسانية الطويلة الأمد في الأداء الأكاديمي، إذ وفقاً للنظرية، إذا وُجدت صور نمطية سلبية تتعلق بمجموعة معينة، فمن المرجح أن يشعر أعضاء المجموعة بالقلق في شأن أدائهم، مما قد يعوق قدرتهم على الأداء بكامل إمكاناتهم.
ومن الأمثلة على تهديد الصورة النمطية اعتقاد الباحثين بأن الأميركيين من أصل أفريقي أقل ذكاء من الأعراق الأخرى بسبب انخفاض درجاتهم المسجلة في الاختبارات المعيارية، ويعتقد أن الصورة النمطية السلبية للأميركيين من أصل أفريقي دفعتهم إلى القلق في شأن أداء اختباراتهم، مما أدى إلى نتائج أسوأ.
التحدث أمام الجمهور وتأثير "بيجماليون"
وهناك نوعان من النبوءات الذاتية التحقق، كلاهما يؤدي إلى النتيجة نفسها، إلا أنهما يختلفان في طريقتهما للوصول إليها، إذ يمكن أن تكون النبوءات الذاتية التحقق (مفروضة ذاتياً) بناءً على معتقدات الشخص نفسه أو (مفروضة من قبل الآخرين) بناءً على توقعات الآخر، تحدث النبوءات المفروضة ذاتياً عندما تؤثر توقعات الفرد الخاصة في أفعاله، مثال على ذلك سيناريو التحدث أمام الجمهور، إذا كانت لدى الشخص خبرة سابقة فاشلة سيكون متوتراً للغاية وسيعتقد أنه سيفشل، ولهذا السبب عندما يصعد على المنبر يبدأ في التلعثم والنسيان ويفشل بذلك في إيصال رسالة واضحة متماسكة، وهنا يبدو أن الاعتقاد بالفشل قد أوصل إلى الفشل.
أما النبوءات المفروضة من الآخرين تحدث عندما تؤثر توقعات الآخرين تجاه شخص آخر في تصرفاته، إذ يمكن لجميع الآراء التي يقدرها المرء أن تحقق هذه النبوءة، ومن الأمثلة الشائعة تأثير "بيجماليون" الذي ينص على أن طريقة معاملتك لشخص ما تؤثر بصورة مباشرة في سلوكه، أي إذا ظنّ شخص آخر أن شيئاً ما سيحدث فقد يُحققه، بوعي أو بغير وعي، من خلال قيامه بفعل ما أو تقاعسه عنه. ويعود أصل المصطلح إلى القصيدة السردية اللاتينية للشاعر اليوناني أوفيد بعنوان "التحولات"، التي تتحدث عن نحات "بيجماليون" وقع في حب واحدة من تماثيله، وتوسل إلى الآلهة أن تهبه زوجة تشبه التمثال الذي وقع في غرامه، وكما تروي القصة حققت الآلهة أمنيته.