هذه السنة تحديدًا، يصادف يوم الأحد 20 نيسان 2025 عيد "القيامة"، لدى جميع الكنائس في المعمورة كافة بمختلف انتمائاتها الطقوسية ومللها الطائفية، شرقية كانت أم غربية، كاثوليكية أم أرثوذكسية أو أنكليكانية وما سواها. فبعد فترة صومٍ دامت خمسين يومًا والمعروفة بفترة الصوم الكبير، وما يعقبها بما يُعرف بفترة أسبوع الآلام التي تسبق قيامة الرب يسوع المسيح، حيث ذكرى صلبه على أيدي الشعب اليهودي بتحريضٍ من مشايخهم ورؤساء كهنتهم بحسب التقليد الذي خلّدَه لنا التاريخ الموثوق في يوم الجمعة العظيمة، تأتي تباشيرُ القيامة فجر يوم الأحد لتبتهج البشرية بهذا النبأ العجائبي الذي فيه تنقلب موازين هذا التاريخ لصالح ديانة جديدة أرست لمبادئ جديدة، فاعلة، متمدنة، مختلفة في السيرة والفكر والرؤية والأخلاق والإنسانية. هكذا تفاعل العالم تاريخيًا مع حدث القيامة الذي أصبح علامةً مضيئة للبشرية في تواصل نقل بشرى المحبة والسلام والوئام والتعايش بين الشعوب والأمم.
من "أورشليم – القدس"، حيث حادثة صلبِ المسيح وآلامُه وقيامتُه في اليوم الثالث، انطلقت الشرارة الأولى لحياة بشرية جديدة أرادها خالقُ الكون أن تتعشّقَ بشخص المسيح مخلِّصًا لها، وليس لشعب "إسرائيل الضالّ" فحسب، الذي قسى قلبَه على بعضه البعض حين اختلفوا على رسالة وشخصية ملِكِهم المتواضع المسالم السماوي وليس الدنيوي حاكمًا قاسيًا مثل قيصر ومَن في مستواه الدنيوي الباطل. ومن المؤسف، ما زال نفرٌ من هؤلاء اليهود يعيش في ذات الضلالة الدينية والدنيوية لغاية يومنا هذا في جولات الظلم والجور والقتل والتهديد الذي يُمارس على شعبٍ بريء متبرّئٍ هو الآخر من حاكميه الذين لا يجيدون التفاعل والتعامل مع غيرهم إلاّ بحمل السيف والبندقية شعارًا للتحرّر من أشكال الظلم الذي وقعوا ومازالوا قابعين تحت نيره. لقد أضاع بعضُ هؤلاء أو جلُّهم من المغرَّر بهم من الفلسطينيين، مساراتِ التفاهم والتفاعل والتواصل بالأدب والمحبة وحسن الأخلاق والسلوك الراقي الذي يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرّق، يغفر ويسامح ويتعايش ولا يحقد ويقتل ويخاصم لمجرّد الخصام والاعتراض وادّعاء النصر الفارغ. عسى الأيام القريبة القادمة، تنير دروب قادة وزعامات الطرفين المتخاصمَين والمختلفَين في الحياة والمنهج والسيرة والفكر بوساطات أكثر إيجابية تنبع منها روائح عطرية طافحة بالمحبة والتسامح والتآخي والسلام.
راية السلام والتعايش رسالة المسيح والمسيحية
تاريخيًا وفي جانبٍ آخر، لا أريد الدخول في محاجّة شرقية أو غربية، إغريقية أو رومانية في مسألة احتساب عيد القيامة أو غيره من المواسم العيدية المسيحية هنا وهناك بسبب اختلاف الروزنامات السنوية لكلٍّ منها. لأنّ ما يهمّ هو اليقين الثابت بوقوع أحداثٍ قبل أكثر من ألفي عامٍ على أرض "فلسطين- إسرائيل"، حيث عاش اليهود مع شعوب هذه البلاد التي كانت ترزحُ تحت حكم الرومان. ومن الجدير بالذكر، أن يهود إسرائيل، الذين كانوا يتصورون أنهم "شعب الله المختار" في ذلك الزمان، كانوا في انتظار شخصٍ عظيمٍ ينقذهم من حكم الرومان ويخلّصهم من قياصرتهم الذين جثموا لسنواتٍ على صدورهم من دون رحمة. وما ذكرى دخول المسيح يوم الأحد السابق لعيد القيامة والمعروف بعيد "السعانين" إلى أورشليم "راكبًا على جحشٍ ابن أتان" بحسب أقوال الأنبياء وكما يذكره المؤرخون الثقاة، سوى تذكير بتلك الأمنية الكبيرة لدى معظم الشعب اليهودي في انتظار المخلّص. لكنّهم، كانوا يريدون المسيح ملكًا دنيويًا وسياسيًا عظيمًا حاملاً السيف وأدوات الحرب الجبارة من أجل مقارعة الحكم الإمبراطوري القيصري الجائر. أمّا هو، فقد جاءهم متواضعًا لإكمال شهادة شكل ولادته الوضيعة حين حلّ ملكًا في مغارة حقيرة في بيت لحم، ولم يعرف قدرَه حينذاك سوى رعاة فقراء وملوكٌ من الشرق رأوا نجمَه فأتوا سجّدًا له لكونهم عرفوه ملكًا بحسب علوم الفلك.
في عيد السعانين، حمل اليهود الذين ملؤوا الطرقات سعف النخل ورفعوا أغصان الزيتون وفرشوا الأرض بأرديتهم تحيةً ل"ملكهم" الذي دخل مدينتهم أورشليم حاملاً لهم وللعالم بشارة الخلاص والنصر، ليس من عبودية القيصر فحسب، بل من ظلم الإنسانية الذي لم ينفكّ يغدرُ بشعوب العالم والأمم. كانت هذه الأدوات التي حملها مستقبلو المسيح في الأحد السابق لعيد القيامة أي يوم دخوله إلى أورشليم، إشاراتٍ وأدواتٍ أخرى للسلام والمحبة والتفاهم والنصر حاسبين أن هذا الدخول سيكون بدايةً لخلاصهم من ظلم الرومان ونصرهم على مَن عَدّوهُم أعداءً لهم ولدينهم اليهودي. صاحوا بأعلى أصواتهم " هوشعنا لابن داود" أي خلّصنا يا ابنَ داود (باعتبار المسيح من نسل الملوك وتحديدًا من نسل داود الملك). لكن المسيح أراد في دخوله مدينةَ أورشليم "الملوكي" المتواضع غير ذلك، رغم أن استخدام الحمير كان مقتصرًا على ملوك وعظماء وكهنة ذلك الزمن، بعكس استخدام الأحصنة في الحروب من قبل قادة الجيوش والجنود عادةً.
أراد المسيح يوم دخوله إلى أورشليم كي يكون يومًا للنصر على الظلم في كلّ توريداته وتفاصيله. ومن الملفت للنظر، احتفالُ العالم باسره في هذه المناسبة الكبيرة هذه الأيام على أشكال مسيراتٍ شعبية حاشدة وتطوافاتٍ كبيرة مقترنةً بذكرى انتصار المسيح على الشرّ. ومنها مسيرات تقليدية تشهدها جميع البلدات المسيحية في عراقنا الجميل، ولاسيّما في سهل نينوى، وذلك تعزيزًا لأصالة هذا المكوّن وتذكيرًا بإيمانهم القويم. من الجدير ذكرُه، أنّه في هذه المسيرات أيضًا يرفعُ المحتفلون أغصانَ الزيتون وسعف النخيل ويتزينون بملابس تراثية تقليدية زاهية تجديدًا لهويتهم الدينية والروحية وتعزيزًا لأصالتهم وافتخارًا بجذورهم وتمسكًا بإيمانهم وتذكيرًا بتراحمهم وتفاهمهم وعيشهم المسالم مع باقي ابناء وطنهم مسلوب الإرادة والإدارة منذ أكثر من عقدين، بسبب غرق ساسته والمتحكمين بسياسته في متاهات الفساد وسطوة جماعات دخيلة انتهازية ومنتفعة لا يحكمُها أيُّ ولاءٍ وطني ولا تهمّها مصالح الوطن والشعب. وهذه الأخيرة مع جلّ الأسف والحزن، في أغلبها خاوية وفارغة من أية مسحة وطنية وإنسانية وعلمية لفقدان معظمها الجدارة والكفاءة والاستحقاق إلاّ بدافع المحسوبية والمنسوبية والانتماء للعشيرة والحزب والكتلة والمذهب.
دعاؤُنا من الرب القادر على كلّ شيء ومن خالق السماء والأرض والبشر والحجر، أن يكفَّ عنّا شرّ الأعداء التقليديين المتربصين بنا من بلدان الجيرة الطامعين ومن سواهم من الأغراب المتملّقين والمنافقين والغادرين، بجاه المسيح ابن مريم التي تبجلُها شعوب الأرض جميعًا. وليكن عيد "القيامة" المجيد هذا العام الذي تزامنَ قبل ايام مع حلول عيد الفطر المبارك وعيد رأس السنة الإيزيدية لإخوتنا شركاء الوطن في هذه الأيام المباركة، مناسبة لتجديد الثقة برب الأكوان القادر على إحداث التغيير المرتقب في إدارة الدولة بطريقة ديناميكية لا تخلو من المسؤولية الوطنية والإنسانية في اتجاه إصلاح ما افسدته المنظومة الحاكمة منذ غزو البلاد على ايدي التتر الأمريكي المشاكس، متعهدين جميعًا وقاصدين السير في طريق تعزيز روح التعايش السلمي وإعادة اللحمة الوطنية وتقوية قدرات الجيش الوطني حصرًا ونبذ كلّ سلاح خارج نطاق الدولة كي يعلو شأنُ العراق من جديد وترفرفَ على سارياته راياتُ الوطن والمواطنة والعدالة والمساواة ويعود إلى الواجهة الوطنية إنصافُ المظلومين من شعبه ولاسيّما من مكوّناته الدينية والعرقية الآيلة إلى الانقراض للأسباب المعروفة داخليًا وخارجيًا.
عيد قيامة مجيد، وأيامًا دافئة بالتراحم والسلام والمحبة والتآخي وأيضًا بالإنصاف الوطني المأمول!