قال يوحنا الرائي ( وفي يوم الرب . صرت في الروح ، فسمعت من ورائي صوتاً عالياً كصوت البوق يقول : دَوِّن ما تراه في كتاب .. )
" رؤ 10:1"
في البدء نسأل ونقول ما هي الرؤية ؟ الرؤية هي كشف الله لأشخاص يختارهم لينقل إليهم أمور وأسرار مخفية لا يعلمها سواه تتعلق بأمور مستقبلية ، قال دانيال النبي للملك نبوخذنصر الذي طلب تفسير حلمه ( هناك إله في السماء يعلن الخفايا ) " 28:2 " وهناك فرق بين الرؤيا والنبوة ، فالنبؤة كانت تحدث لنبي يسمع كلام الوحي الإلهي سماعاً ويبلغه للناس . أما أصحاب الرؤى فيشاهدون ما يكشفه الله لهم ويسمعونه ومن ثم يدونون ما يسمح لهم بتدوينه أو نقله . قد يشاهدون رموزاً ، كالعيون التي ترمز إلى المعرفة ، والأجنحة إلى الحركة ، والأيدي إلى القدرة ، والإكليل إلى الملك ، والثوب الطويل إلى الكهنوت ، وسعف النخل إلى النصر ، والسيف إلى الهلاك ، وعن الألوان ، فالأبيض يرمز إلى الفرح والطهارة ، والأحمر إلى القتل والإستشهاد . والأرقام ( 7) يرمز إلى الكمال . و(12 ) إلى إسرائيل الجديد إي الكنيسة . والرقم (1000) إلى الكثرة .. إلخ . ليس يوحنا لوحده شاهد ورأى ، بل عدد من ألأنبياء كدانيال وحزقيال من العهد القديم وبولس من العهد الجديد الذي خطف إلى السماء الثالثة وتحدث عن بعض الأسرار التي شاهدها في الفردوس ، وبعضها لن يسمح له بالتحدث عنها ( طالع 2 قور 12: 1-4 ) .
قال الرب يسوع لنيقوديمس : ( وليس أحد صعِدُ إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ، إبن الإنسان الذي هو في السماء ) " يو 13:3 " .
إذاً لنسأل ونقول كيف صعد يوحنا غرائي إلى السماء ؟
نقل يوحنا إلى السماء ، لكن لا نعلم هل كان بالجسد أم بدونه ، وكما لم يعلم ذلك بولس عن نفسه عندما خطف إلى السماء الثالثة . وما هي السماء : السماء هي العالم العلوي الذي يتكون من عدة طبقات ، وزيادة الطبقات يعني إزدياد السرية والقداسة والعمق ، والسماء الأعلى يحتوي على عرش الله . فعطية رؤية أسرار السماء لا تعطى للذين هم على قيد الحياة إلا للقليلين فقط ، هم الذين رأوا مجد الله وعرشه .
إختطف يوحنا إلى السماء ففتح له الباب لأنه مدعو من قبل صاحب الصوت الذي خاطبه لكي يدون ما يسمح له لما يراه ويسمعه ( 10:1 ) .
الصوت الذي كان يسمعه كان لإبن الإنسان الذي أمرهُ قائلاً ( إصعد إلى هنا ) وقال له ( سأريك ما سيحصل قريباً ) أي ما سيحصل لاحقاً ( أريك ما سيكون بعد ذلك ) . يوحنا شدَّدَ على التقارب العميق بين الإيحاءات المتعلقة بالكنائس ورؤية العرش . يقول يوحنا ( في الحال إختطفني الروح ) إنه أمر للصعود إلى السماء ، جاء من لدن الله بقوة الروح ، فرأى عرشاً يجلس عليه واحد تبعث منه أنوار ( 2:4-3 ) .
هناك يختلف نوع الإختطاف لأنه بدون جسد ، أي عكس إختطاف أخنوخ وإيليا بالجسد ، سفر أخنوخ المنحول يذكر في ( 8:14 ) إنه عبور إيماني وإمتداد لإدراك الإنسان المحدود بفضل قوة الروح الذي يساعد الإنسان أن يرى ويدرك ويتكلم بحكمة الله ما ليست بمستوى عقله ( طالع 1 قور 2: 7-16 ) . يوحنا مدعو إلى السماء لكي يقف على بابها ليرى أسرار الله المخفية على البشر ومن تلك البقعة القريبة من الله سيرى مستقبل الأحداث التي ستحدث في العالم ، وهذه الأحداث لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى تفاصيلها بعقله المحدود ، لهذا نجد بأن يوحنا وصل إلى شرح وقائع سماوية ترتبط أخبار رؤيته بأخبار رؤوية في العهد القديم . ويعبّر عنها برموز التي هي مرتكز توجه فكرنا إلى ما لا يدرك . تقرأ في أسفار العهد القديم كتابات تتصور هيكل الله وعرشه . فميخا بن يملة رأى الملك ومجلسه ( 1 مل 19:22 ) . أما في ( أش 6: 1-6 ) فرأى النبي الملك أي ( الله ) القدير في هيكله السماوي مع العبادة التي يقدمها له السرافيم . وفي ( حز 1: 1-28 ) يرى النبي إله العاصفة يختفي في السحاب ، ويأتي إلى النبي في أرض المنفى ، وفي سفر أخنوخ أيضاً يرى الرائي الإله السماوي مختفياً وراء الغيوم . وفي ( دا 7: 9-14 ) يرى الرائي الله الأزلي جالساً على عرش من نار ( والنار تدل على حضور الله ) كنار العليقة التي رآها موسى . أما يوحنا فرأى عرش الله فإنحنى رأسهُ ، والجالس على العرش هو الرب . وهنا نسأل ونقول : الرب هل هو الإبن أم هو الآب الذي لا يستطيع الإنسان أن يتصورهُ ؟ رأى ألوان عديدة كألوان القوس قزح التي كانت علامة عهد من الله للبشر ( تك 9: 12-17 ) ويوحنا يرى ( الله يسكن في نور لا يدرك ! ) أو بحسب المزمور ( يلتحف بالنور كرداء ) " 2:104 ) . إذاً يوحنا لا يصوّر الله الذي لا يمكن أن يتصوره ، بل إلى معنى أعمق من الصوَّر .
ينظر الرائي إلى أمام العرش ، وعليه ، وحوله ، ومن ثم يجمع بنظراته التي تنطلق من الخارج إلى المركز ، وإلى المحوَر ليبدأ في الدائرة الخارجية فيرى 24 عرشاً و24 شيخاً . ليسوا ملائكة ، بل بشر يرتدون أكاليل ( 10:2 ، 11:3 ) ولباساً أبيضاً ( راجع 4:3 ، 5 ، 18 , 11:6 ) . المسيحيون يوعدهم الرب في إنجيله بعروش سماوية ( مت 28:19 . رؤ 21:3 ) . المقصود بالشيخ في هذه النصوص هو الكاهن الذي يقود جماعة المؤمنين إلى الرب . حين يكشف الله للرائي مجده يرى هؤلاء الآباء الذين كانوا أداة الوحي النبوي والذين يشاركون في السماء في شعائر العبادة السماوية . قال يسوع ( إن إبراهيم رأى يومه وفرح ) " يو 56:8 " . وكتب الرسول يوحنا في إنجيله ( 41:12 ) بأن إشعيا شاهد المسيح وتحدث معه ، إشارة إلى الرؤيا التي رآها النبي إشعيا في الهيكل ( طالع إش 6: 1-4 ) .
من العرش خرجت بروق ، وأصوات ، ورعود ، ونار وضجيج في المدى الواقع بين عرش الله وعروش الشيوخ ، والتي تدل على عمل الله المخيف وإتصاله بنا . أجل الله هو السر المخيف ( مز 14:18 ) .
كما نجد في سفر الرؤيا سباعيات ، كأرواح الله السبعة ، أي الروح القدس المرتبط بنار العنصرة ( أع 2 ) . وهناك الملائكة السبعة البارزين وواجباتهم . كما رأى يوحنا سبع مشاعل من نار مشتعلة ، إنها تختلف عن المنائر التي تدل على الكنائس ( رؤ 2:1 ) وهي تخص في الأصل الأدوات العبادية في الهيكل بشكل شمعدان بسبعة سرِج ( خر 25:31-40 ) هذه المشاعل هي أَعيُن الله السبع ( 6:5 ) وترمز إلى حضور الروح المسبع في كل مكان وحتى في الأرض .
كما رأى أمام العرش مثل بحر من زجاج يشبه البلور ( 6:4 ) . كذلك رأى حزقيال أن الجلد الذي يرتكز على رأس الأحياء الأربعة يشبه البلور ( حز 22:1 ) . أما في سفر التكوين ( 7:1-8 ) فالله فصل بين مياه ومياه وعرش الله الكائن فوق الجلد ،
سمع يوحنا نشيد ( قدوس ) الذي يتحشد في الهيكل السماوي ( 8:4 ) في وسط العرش وحولهُ رأى أربعة أحياء ممتلئة عيوناً من الأمام ، ومن الوراء . وهذا ما وجدهُ حزقيال في وسط النور ( حز 5:1 ) وكل حي يقف تحت العرش ، وتلك الخلائق تشبه البشر ( طالع حز 1: 6-12 ) .
أما واجبات تلك الخلائق السماوية فهو عبادة الله وتمجيده المستمر ، لا يرتاحون ليلاً ونهاراً ، وتلك الصلاة الليتورجية تدور حول الساكن على العرش ، والأحياء الأربعة تنشد له ، وبسبب فعل العبادة تلك ، الشيوخ ال (14 ) ( الذين يمثلون كل العالم المخلوق ) يطرحون أكاليلهم أمام العرش ، والصلاة مستمرة ليلاً ونهاراً علماً بأن لا ليل هناك لأن نور الله يضىء المكان ، لكن لكي نعبّر عنه بحسب فهمنا في هذا العالم .
أما أخنوخ ( 7:71 ) أن حراس العرش لا ينامون أبداً ، لهذا يسمّونهم ب ( الساهرين ) . أما عن العيون المتعددة المنتشرة في كل مكان تدل على سهر دائم والتسبيح لله ولخالق الكّون . فبيّنَ الله والحمل ( يسوع ) رباط سري يسميه اللاهوت ( المساوات في الجوهر ) وطبيعة واحدة .
الله مبارك لأنه خالق . فالرؤية لها علاقة بالله الخالق الذي خلق بمشيئته الواقع الأرضي الذي هو صورة عن الواقع السماوي . فالله الحق على خلائقه لكي يمجدوه ويكرموه بسبب قدرته ومحبته لبني البشر .
توقيع الكاتب ( لأني لا أستحي بالبشارة ، فهي قدرة الله لخلاص كل من آمن ) " رو 16:1"