في صيف عام 1960 كنت اتعلم لغتي السريانية في الكنيسة وفي نهاية الدورة نظمت رحلة لنا الى بستان الدير العلوي( كرمه دّيرا) وقد قادها القس هرمز صنا وأذكر كان معنا: فرنسيس صنا، سعيد رئيس، حبيب منصور ديزا، سلام ابرم عما، حبيب شمعون حنينا، الياس ونجيب رزقو ككو وغيرهم، غادرنا القوش فجراً الى دير الربان هرمزد اولاً ثم ارتقينا طريقاً وعراً، وواجهنا اصعب مكان فوق الوادي التالي( نيره دأيوه) الخطير ثم عبرنا( برگاره ܒܪܓܪܐ) هناك في ذلك المكان، قال القس هرمز بان اربعة من رجال بيت الشيخ نوري، قتلوا في كمين نصبه جماعة الحاج ملو، وذلك في نهاية الأربعينات من القرن المضي، ويذكر ان جثثهم جلبت على الحيوانات الى مركز القوش، جاءت بعض النسوة من اقرائهم وهن ينتفن شعرهن حزناً، وفيما بعد كنت اسمع اغنية بلحن حزين تؤديها نسري شيروان، في مقتل هؤلاء الرجال ومطلع الأغنية كان( وري دلال وري دلال لكليا ديري وبداره ) بالكردية ومعناها أسف على الاعزاء الذين ماتو في وادي الدير. ثم سرحنا الى الاسفل خلف الجبل، فبان امامنا بيتا من طابقين يسمى( ܒܪܓܼܐ) جلسنا حوله لنستريح، وقد جهز لنا الرهبان الشاي اللذيذ. بعدها تجولنا في البستان العلوي والسفلي وعلى انواع العنب: زرك، طائيفي، سليماني وغير ذلك ثم شاهدنا صهريجاً مسمى باسم احد الرهبان( صهريج الأخ سمعان) الذي لوحده اجهد سنوات بلغت العشرين في حفره في الصخر! ثم عدنا قرب البرج وتناولنا غذائنا الذي كان عبارة عن الخبز والجبن، ورأينا قوافل الفلاحين الأكراد( كروان) تمر من امامنا، جلب انتباهي رجل من القوش كهل كان قد لف احدى يديه بالضماد، وعرفت بعدها انه اصيب في انفجار بارود، كونه يعمل في تعبئة طلقات بندقية الصيد(ܓܼܦܿܬܐ) ، ذلك الشخص قريبي وجاري اسمه ياقو قيا وللأسف قتله الحرس القومي يوم 9/7/1963 في بيته، لا انسى عندما رايته كان قد اصطاد أرنباً بواسطة فخ خاص( ܐܩܘܠܐ) اخفاه في طريقها. اذكر ايضا عندما كنا نأكل العنب الطيب قال احد الصغار ما ألذّه( ܒܣܝܡܐ) فناله الضرب من القس هرمز لان التكلم اثناء الأكل غير مسموح به!! كانت امي دائما تقول عندما نتشاجر او نضحك اثناء الاكل" السفرة يحملها الملائكة".
في ذلك الصيف ايضاً اخذني عمي كامل معه في سفرة مع اصدقائه الى قرية بهندوايا المجاورة بالسيارة، اعجبت بجمال تلك القرية حيث يجري بجانبها نهر صغير ينبع من عيون في الجبل عند قرية تلخش ليتجمع قليلا في مكان يسمى( تنطر ܬܢܛܪ) ويتجمع ثانية في مكان اسمه(گرَّه دسِتّاثا- ܓܪܐ ܕܣܬܬܼܐ) ثم يتجمع في مكان اسمه(گرّه دأنشي- ܓܪܐ ܕܐܢܫܝ) اي مجرى خاص بالنساء يقع محاذياً للبستان السفلي ثم يتجمع مكانين متقاربين احدهما اسمه( سكرا علايه) والثاني (سكره ختايه) وكل تلك التجمعات هي بمثابة مسابح للناس. كما يوجد في بهندوايا بستانين كبيرين للفواكه بمختلف انواعها وقد اكلنا المشمش، والخوخ والعنب، وهناك طواحين مائية عددها اثنتان تعمل ليل نهار في طحن الحبوب لاهالي المنطقة، كل تلك الاملاك ملك لدير الرهبان، وقد استمتعنا بالسباحة ثم رموا قنابل او اصابع ديناميت وفجروها في مجرى النهر في مكان جنوب بستان المتعهد رزقو بوتاني، فتصاعد حتى الطين من اسفل المجرى وصارت الاسماك بمختلف الاحجام تطفو على السطح وصارت الناس تجمعها.
في بداية الصيف اقتحم الجراد مزارعنا بآلاف من الحشرات الطائرة، فإلتهم الحبوب الطرية، وكان من الكثرة بحيث حجب نور الشمس، وقد نزلنا الى ارضنا لنرى الكثير من السنابل تخلوا من تاجها( غلتها) فاحزننا المنظر واعطت الارض مردود ضعيف جدا، علما بان اعتماد الناس كان بالدرجة الأولى عليه في حياتهم المعاشية، وفي ذلك الصيف ايضاً كانت لنا مزرعة للبطيخ( ورزا ܘܪܙܐ) في موقع يبعد حوالي 2 كيلومتر جنوب البلدة وكان يجاورنا اسطيفو اسماعيلو، وقد كنت اشتغل مع والدي في العناية بها، علما بان القوش تشتهر بارقى انواع البطيخ في العراق، ويزرع صيفاً، وبعد ان نمى بشكل جيد بنى والدي كوخ صغير على شكل مثلث( كولكثه ܟܘܠܟܬܼܐ) لها بابان تنحني عند الدخول اليها ومغطات بالنباتات والتراب وتكون مشرعة للهواء وفيها بعض المستلزمات مثل جرة ماء، صحن وجدر صغير، ثم قوري الشاي، وتتم الحراسة في هذا المكان، اضافة الى انشاء عرزاله( قپرانه ܩܦܪܢܐ) تهب عليها انسام الهواء من كل الجهات. وقد ازعجنا فيما بعد نوع من الجرذان( خلده كورا) حيث كان ينتقي افضل النباتات ليقطعها من تحت سطح الأرض ويأكل جذورها، وقد حاربه والدي بمختلف السبل دون فائدة، والمزرعة تتلاشى كل يوم امام انظارنا وفيها نبتات البطيخ والترعوز والشمام والنوع الطويل( شلنكا ܫܠܢܓܐ) ، في آخر المطاف عالجناه بوضع سموم في طريقه فإختفى ، كانت التجربة جديدة علي، وكان لنا حمار ينقلني من والى المزرعة، وأذكر كيف كان يتسارع عندما يكون بين الحمير، ويتباطأ عندما يكون وحده!. اشتهرت في تلك الفترة اغنية من إذاعة بغداد، كنت اغنيها لأمضي وقتي الطويل في حراسة المزرعة، وما بقي منها في الذاكرة: " يا شفير( السائق) عجّل عجّل.. امانين.. اماني.. خذني معك ع بلادي.. بس انا حيرانه.. واقعد جنبك واغنيلك.. بس انا حيرانه. واذا تخاف عن الاجرة.. امانين .. اماني.. رهن عندك قبوطي( معطفي)..... الخ". في احد الايام ونحن راجعين من المزرعة الى البيت، اغرانا بعض الصبية للسباحة في حوض ماء تابع الى ماكنة الطحين( لصاحبها الياس الصفار) ونحن في( المسبح) فجأة ظهر عامل الماكنة المدعو حبيب ممو قلو، فاخذ ملابسنا ورجع الى البيت، فلحقناه ونحن نبكي ونتوسل، الى ان قطعنا مسافة غير قصيرة، فسلمها لنا بعد ان اصبحنا مسخرة للناس في ملابسنا الداخلية!!..
مطلع عام 1961 ابتدأ القسيس هرمز صنا بتدريبنا على التراتيل والاناشيد لتناولنا المقبل، اتذكر وزع علينا كراس بالگرشوني عن تلك الاناشيد التي تعلق بذهني منها( ثيلي أث يوما دهويلي طالن مخلصانا....... بَذي يوما مَپصْخانا مزمرخ كلّن بخه ليشانا) وغيرها. بدأ تدريبنا في هيكل مريم العذراء بكنيسة مار كوركيس، وكان القسيس المذكور يبذل قصارى جهده في تعليمنا بحركات يديه وبصوته الخفيض الجميل، في تلك الايام اتصل بي صديق الطفولة وجاري العزيز باسل ابراهيم جنو قائلا: لقد حجزت لأقرأ رسالة( صلوثا) فليذهب احدكم ويحجز مبكراً البِندْيرَه( العلم او الأيقونة) هكذا ذهبت جدتي الى القس هرمز وسجلت اسمي لحمل البنديره، بعد اشهر اي عند اقتراب موعد التناول الاول في حدود شهر نيسان احتدم الجدل والضغط على الكنيسة عن الأولى بحمل البنديرا، هكذا ضغطت الاسر على القس هرمز ومن تلك الأسر بيت حنا رزوقي بحجة انهم وكلاء الدير والكنيسة وبأحقية ابنائهم المتناولين لحملها، وكذلك اسرة المدير الراحل حنا بتي الصفار ليحملها ابنهم عوني، واسرة مدير مدرستنا ياقو اسحق شكوانا ليحملها ابنهم لؤي، واسرة منصور ياقو قيا ليحملها ابنهم خالد، واسرة الاخير القادمة حديثا من الموصل قالت سندفع مبلغا خياليا في وقتها( عشرة دنانير) حتى إحتار القس بما يفعله، تشاء الصدف ان يصل الى القوش في تلك الفترة المطران عبدالاحد صنا( 19 اذار 1961) فخلص القس الى عرضها برمتها امام المطران، والذي اصدر قراره الفاصل والعادل، بأن من سجل أسمه او حجز اولاً يحق له حمل تلك الراية، في الصباح الباكر قرأ باسل جنو بإحكام الترتيلة، فيما تناولت القربان المقدس(ﭙرشنتا) من يد المطران وكنت في الصف الأول من البنين، و كانت ليلى بحو ﮔردي في الصف الاول من البنات، حملت البنديرا متباهياً يوم التناول في الصباح الباكر، لأدور في حوش الكنيسة وخلفي طابور المتناولين. في عصر ذلك اليوم تجمعنا في باحة كنيسة مار ميخا فوزعت علينا الهدايا( مسبحة الصلاة، وقطعة كيك) هناك تنازلت طوعاً عن حمل الراية الى الثلاثي الذي حملها من باحة مار ميخا الى باحة مار كوركيس وهم كل من: صباح حنا رزوقي، مازن يونس رزوقي و نشأت يوسف توسا.
في ذلك العام جرى اختيار فارس الصف لكل اسبوع فأختير بعض التلاميذ لإاجتهادهم، او لقدرتهم السيطرة على الفوضى في الصف، لكن معلمنا جوزيف اقدم في احد الأيام على إختيار فارس الصف بالطريقة التالية: سأل سؤالاً عاماً لمن يرغب ان يكون فارساً فضج الصف بالصياح كلٌ يقول: انا يا أستاذ، كنت جالسا في المقاعد الاخيرة، قررت ان لا ارفع يدي في ذلك الجو الصاخب، في تلك اللحظة لمحني المعلم وانا جالس في هدوء، فاشار علي بالقول" نوئيل يكون فارس الصف" ، فأصبحت في الأيام التالية اقف امام السبورة ادعوا الطلبة للوقوف احتراماً للمعلم.
في الرابع الابتدائي كان مرشدنا المعلم حبيب ابلحد عوديش الذي يأت في وقت الحصة تماما، ما ان نلمحه عابرا امام الشباك، حتى نستعد .. نقف ... فيذرع الصف محدقاً بوجوه التلاميذ وليقل في النهاية بحزم " اجلسوا" . كان مكاني في الاخير قريب الشباك المطل على الشارع الذي يربط بيتنا بالسوق، ومعلمي حبيب بات معجباً بمطالعتي درس العربية، فما ان ينتهي من شرح الموضوع حتى يقول" اقرأ نويل !!" وانا أنتشي في القراءة، فيحمر وجهي، ويعلو صوتي، حتى يصل الى الشارع، فتسمعه أمي وزوجة عمي، وهن في الطريق كل يوم لجلب الماء عبر السوق من عين محلة سينا. في النصف الثاني من العام درّسنا ايضا المعلم متي حبيب سورو، اتذكر كيف كان يقف مستعدا وكأنه يؤدي تحية العلم لينشد( حياة العز) بحماس، وهو اول عهدي بالنصوص واول الغيث.....
لي غاية ابتغيها.... وقد يوفق مثلي
ان لم تصل بي اليها.... فلا مشت بي رجلي
فيا رجاء تعزز ... ويا مصاعب ذلّي
وانت يا راية الموطن اخفقي واظلي
يا ارض اهلي ومالي... فداك مالي واهلي
ليس الحياة بعز ... مثل الحياة بذلِّ
لقد استمر اسلوب فارس الصف مع تعليق نموذج بجانب السبورة، مؤطر وبزجاج، في كل اسبوع يتغير الاسم والصورة، هكذا تناوب المجتهدين من الطلبة، ولكن في أحد الاسابيع اختير داود سليمان ﮔولا لسبب اخر هو نظافة أيديه، وبالمناسبة كان يجري تفتيش صارم على نظافة اليدين والأظافر وحتى الملابس من قبل المعلمين في كل عرض صباحي، بعدها يوعز معلم الرياضة حبيب صادق شدّا بإجراء تمارين صباحية لكل المدرسة. في اسبوع اخر اختير سعيد سليمان بطة فارساً للصف، نظراً لهدوئه واحترام الطلبة له.
في ربيع ذلك العام وبمناسبة عيد القيامة المجيد، قامت اسرتي بسفرة الى قرية شيزي التابعة الى ناحية سميل- قضاء دهوك، أجرنا سيارة ميناس شمو توماس، كان مديرها عمي كامل وقد تعرفت في تلك السفرات على بيت المختار ابراهيم ورينا، والخوري حنا، وبيت كوكا، وبيت خاتون( ام عبد) وعلى معلم من شقلاوا اسمه جلال خوشناو، اتذكر عندما زرنا القرية لم يكن كامل في البيت فخرجنا لاستقباله مع صديق تعرفت عليه اسمه بولص كوكا، فلمحنا كامل مقبلاً مع المعلم جلال وبيدهم بنادق الصيد وقد اصطادوا بعض الطيور، كان خزانة العم مليئة بالبيض الملون، وعند رجوعنا تأخرت السيارة بعض الوقت بسبب اوحال طريق( ترباسپي- القوش) وكان دوامنا في المدرسة يبدأ بعد الظهر لتناوب مدرستين في المبنى، تأخرت درساً واحدا فأخذت جدتي بيدي الى المدرسة، وكلمت المستخدم جبو كادو عن سبب تأخري، فاخذني بكياسته المعهودة الى الصف، طرق باب الصف فتوقف الاستاذ حبيب عن مواصلة الدرس، فقال جبو " يا استاذ للتو جاءت به جدته تعتذر عن تأخره بسبب ألم لازم بطنه!! " فوقف على رجليه في الحال زميلي وجاري باسل جنو ليقول" لا تصدق يا استاذ، لقد كان نوئيل يتمتع برحلة الى شيزي" فأحرجني كثيراً، ولكن الاستاذ تدارك الموقف مبتسماً، وسمح لي بمواصلة ما تبقى من الدوام.
************
*****
**
*