المسيحية منذ ولادتها في يوم العنصرة بدأت تنتشر في كل أصقاع العالم فوصلت إلى الشرق والغرب ، وإلى القطب الشمالي وكذلك إلى جنوب القارة الأفريقية . إذاً المسيحية وصلت أيضاً إلى الشمال الأفريقي الذي أنجب قديسين عظام ولاهوتيين نبغاء أمثال ( ترتليانس وقبريانس وأوغسطينس ) . نقصد بالشمال الأفريقي كل البلدان الواقعة على البحر المتوسط لكننا نستثني مصر التي ما تزال تحتضن ملائين المسيحيين . لنسأل ونقول :
ما هي أسباب إنكفاء المسيحية في الشمال الأفريقي وبقائها في كل بلدان شرق البحر المتوسط رغم الإضطهاد الروماني والفارسي والعربي ؟
لنبحث أولاً عن جذور المسيحية في تلك البلدان منذ القرون الأولى .
إنتشرت المسيحية في الشمال الأفريقي والمقصود هنا ( ليبيا ، تونس ، جزائر ، مغرب ، موريتانيا ) . أخبار بداية نشر الرسالة غير واضحة لأن المصادر التاريخية غير كافية ، فلا جواب دقيق لهذا السؤال لحد اللّحظة ، كما لا نعلم بأسماء المبشرين الأوائل اللذين دخلوا تلك البلدان . لكننا نطالع أخبار إستشهاد أعداد من المسيحيين في ( 17 تموز من عام 180 م ) والذين يُعرفون ب ( السكلِّتيين ) نسبة إلى سكلّتا ، البلدة المغمورة التي لم يستطيع الأثريين تحديد موقعها ، وذكر بعض من أسماء الشهداء وهم ( سبيراتس ، نرتسالس ، دوناتس ، فليلكس ، بانوريا ) . أما عن أول مجمع كنسي أفريقي فقد ضّمَ ( 70 ) أسقفاً بين سنة ( 218 -222م ) .
أول الكُتّاب العِظام كان ترتليَنس ( 155-222 م ) ، والقديس قبريانوس أسقف قرطاجة الذي استشهد بقطع رأسه سنة 258م .
في مطلع القرن الرابع أُحصي في البلاد الأفريقي ( 150 ) أبرشية ، بين عام ( 303 – 306 م ) شن الطاغية الروماني الشهير ديوقلتيانس إضهاده العنيف والشهير على المسيحية .
بين عام ( 354- 430 م ) ظهر القديس أوغسطينس الفيلسوف واللاهوتي الكبير، إستفادة الكنيسة الأفريقية خاصة والكنيسة الجامعة من مؤلفاته .
حدث إنشقاق الدوناتيين في تلك البقاع فولدت أعمال العنف والقمع ، حاول القديس أوغسطينس بشتى الطرق مواجهة المنشقين بطرق عدة ككتابة مقالات لهم وَساهمَ في عدد كبير من لقاءات الحوارمعهم ولكنه لم يفلح ، فلجأ إلى سلطة الدولة مختاراً أهون الشّرين .
في عام (411م ) إنعقد مجمع قرطاجة ، حضره ( 270 ) أسقفاً دوناتياً و( 277) أسقفاً كاثوليكياً ، وكان عدد الأساقفة في تلك المنطقة ( 700 ) فالمسيحية وصلت في تلك الفترة إلى أوِجها في الشمال الأفريقي .
في القرن الخامس دخل الفانداليون ، وهم من أتباع أريوس فإضطهَدَ الكاثوليكية وجحد الكثيرون . وزال عهد الفندال بعد مضيّ نحو قرن . في القرن السادس حل البيزنطيّون في البلاد ، فإحتلوا شمال أفريقيا سنة (533) ولما كان البيزنطيّون مسيحيين عادت إلى الكنيسة جزءً من عافيتها ، إلا أن الإضطهاد والقمع عاد في القرن السابع بعد زحف الجحافل العربية الغازية بالسيف وذلك في سنة ( 643) فإحتلوا ليبيا أولاً وأنكسر البيزنطينيون سنة ( 649) وسقطت قرطاجة عام ( 710 ) ومن بعدها تم إجتياح الأندلس .
اللغات التي كانت متداولة لدى المسيحيين هناك كانت ( الفونيقية والبربرية واللاتينية ) .
بدأت المسيحية بالزوال السريع بعد دخول المسلمين ، فلم يعد للمسيحيين وأساقفتهم من ذكر إلى القرن العاشر فقد تلقى البابا بندكتس السابع رسالة من إكليروس قرطاجة يسألون تعيين أسقف عليهم ، وسرعان ما بدأ مؤشر المسيحية بالهبوط نحو الزوال ، ففي سنة ( 1053 ) شَكا البابا لاون التاسع من أنه لم يكد يجد في أفريقيا إلا خمسة أساقفة فقط . وفي عام ( 1076) لم يجد البابا القديس غريغوريوس السابع ثلاث أساقفة لكي منهم يتم رسامة الأسقفية القانونية . فبعث برسالة إلى الناصر سلطان ، والأخير طلب منه أسقفاً لرعاية المسحيين الباقين ، لم تستطيع الكنيسة أن تحدد هوية هؤلاء المسيحيين الباقين ، هل كانوا من أهل البلاد ، أم أتوا من الأندلس ، أم هم من أسرى الحروب الإسلامية ؟
في القرن الثاني عشر ذكر بعض الأساقفة في تونس . وفي القرن الثالث عشر في المغرب ، لكنهم كانوا من الأجانب وفِدوا لمرافقة المسيحيين القادمين من أوربا ، وكانوا يتكلمون اللاتينية . الزحف الإسلامي لم يقف أمامه لدى إستتاب الأمور سوى أربعين أبرشية ، وذلك من سنة (641) إلى سنة إجتياح إسبانيا سنة ( 711 ) أي لمدة خمسون سنة فقط ، وزال معالم الأبرشيات الباقية مع مجىء الموحدين في القرن الثاني عشروالذين كانوا من المسلمين المتعصبين الذين إحتلوا بجابة سنة (1153) وتونس عام (1159) فإضطر المسيحيون أن يختاروا إعتناق الإسلام أو الموت . تدهورت أحوال المسيحيين في شمال أفريقيا بعد الغزو الإسلامي ، فسلطة المسلمين أغرقت هذه البلدان بنظام ضريبي ومالي ظالم لم يتحمله تلك الشعوب المستضعفة المسمات بأهل الذمة . فكانت المسيحية في تلك الحقبة بين كفي كماشة يضغط عليها من الشمال الغزاة القندال ، ومن الجنوب المد البدوي فباتت المسيحية ضحية الإضطرابات الداخلية وعنف الدوناتيين فكانوا يعيشون في حالة يرثى لها والكنيسة في حالة تفكك الأوصال ، مُعدمة التنظيم .
إذا قارَنا الكنيسة الأفريقية بشقيقتها في شرق البحر المتوسط ، وما هو سبب بقائهم إلى يومنا هذا لرأينا أن المسيحيين في العراق والشام وبلاد فارس وتركيا وقفوا مع الغزوات الإسلامية موقفاً مشرفاً لصالح المسلمين من أجل بقائهم ، لهذا رأوا الغازين القادمين من جزيرة العرب ضرورة بقائهم لكي يقدموا لهم خدمات كثيرة لكون المسيحيين أصحاب المعارف وملّمين بالطب والعلوم والفلسفة والترجمة ... إلخ فكان للمسيحيين الفضل الأكبر في ترجمة الكتب ونقل علوم اليونان إلى غزاة القادمين من صحراء جزيرة العرب . كما كانوا المسيحيين بارعين في الإدارة والسياسة والدبلوماسية . فالبطريرك طيماثاوس الأول (727- 823م) غير مثال في مهارته وحكمته للدفاع عن المسيحيين أمام الخلفاء الأربعة الذين عاصرهم وهم (المهدي وهارون الرشيد والأمين والمأمون ) فالحوار الذي جرى بينه وبين الخليفة المهدي كان شهادة ثمينة تبين ما وصل إليه علم الدفاع عن العقائد المسيحية في البلاد الإسلامية في مطلع القرن التاسع . للمزيد طالع كتاب ( دفاعات مسيحية في العصر العباسي الأول ) للبطريرك طيموثاوس الأول .
أجل كان للمسيحيين قادة يسيسون الغازين لكي يحافظوا على قطيعهم من غضب وقوانين العرب القادمين من الجزيرة العربية .
كل هذه الأسباب أدت إلى ضعف وزوال المسيحية في شمال أفريقيا . كل الجماعات المسيحية لم تستأصل بين عشية وضحاها ، بل إستمرت مدة خمس قرون كحالة سائر الأقليات في البلدان الإسلامية ، لكن اليهودية صمدت في بعض بلدان الشمال الأفريقي لحد اليوم وخاصةً في المغرب رغم عداء العرب والمسلمين لليهود بسبب القضية الفلسطينية . المسيحية ماتت بسبب ضعفها الناتج عن العداء الفكري والإيماني فأحتُقرت وأبيدت بسبب جوعها إلى الحرية . ومن أسباب زوال المسيحية في تلك البلدان هو قلة عدد السكان الأصليين المنتمين إلى المسيحية ، كذلك بسبب قلة المسيحية بين البربر والذي يعود أيضاً إلى الليتورجية اللاتينية فلم يستطيعوا السكّان الفونيقيّين السريع إلى التحول إلى نمط عيش الرومان ، ومن جهة أخرى لأن البربر المسيحيين الذين ظلوا على تقاليدهم كانوا قلّة لا يعتمد عليها. كتب القديس أوغسطين في مؤلفاته بأنه كان بحاجة إلى مترجمين ليتوجه إلى بعض مؤمنيه الناطقين بالفونيقيّة . كما في زمن البيزنطينيين مست الحاجة إلى كهنة يتكلمون بتلك اللغة . فكل
هذه الأسباب وغيرها إدت إلى زوال المسيحية في تلك البلدان .
ملاحظة : في مقال آخر عنوانه ( دور المسيحيين في تثقيف العرب ) وذلك في بلدان شرق المتوسط ومصر والخدمات التي قدموها للعرب والتي كانت سبب بقائهم لحد اليوم .
توقيع الكاتب ( لأني لا أستحي بالبشارة ، فهي قدرة الله لخلاص كل من آمن ) " رو 16:1"