تحت ضوء النيون الباهت، أجلس بين الجدران الصامتة، وسط الناس الذين يتدفقون حولي كأشباح بلا وجوه. الجميع يعبرون، يتحدثون، يضحكون، وأنا أذوب في الفراغ. الزمن يمضي عليّ كأنما لا وجود لي، مجرد كائن يتنفس دون أن يشعر به أحد. لا أحد يتوقف ليسأل عن صوتي الذي تلاشى، أو عن تلك النظرة التي كانت تبحث بلا جدوى عن عيون تلتقي بها. كأنني شبح غريب في عالم مألوف، ضائع بين كل هذه الحياة، ورغم كل هذا الصخب، أظل وحدي تماماً، مختبئاً خلف قناع اللامبالاة.
في زوايا المدينة الباردة، أمشي بينهم بلا أثر، كأنما خطواتي محتها الريح. لا أحد يلتفت لوجودي، لا أحد يلاحظ غيابي. أحمل في صدري ثقل أيام لم أعشها، أحلام ذاب لونها مع مرور الوقت. وجهي مزيج من الذكرى والنسيان، وصوتي بات همساً في زحمة الضجيج. أحياناً أتمنى أن يسألني أحدهم عن حالي، عن ألمي الصامت، عن غربتي وسط هذا الجمع. لكنني أعرف أن السؤال لن يأتي، وأن وحدتي ستظل ترافقني، كظل ممدد على رصيف العمر، مهمل بين زحمة الأرواح.
في قلب المدينة التي لا تنام، أنا الغائب الحاضر، أتنفس بين الحشود كأنني شبح منسي. كل يوم يمر عليّ كصفحة فارغة، مليئة بصمت لا ينكسر، لا صوت فيه سوى صدى أنفاسي المتعبة. العيون تلتقي حولي، تتجاوز وجودي دون أن تراني، وكأنني شق في النسيج الأزلي للحياة. لم أعد أنتظر شيئاً، لا كلمات ولا لمسة، فقط أمضي كسفينة فقدت وجهتها في بحر بلا نهاية. في داخلي هاوية لا قرار لها، وذكريات باهتة كأنها أضغاث حلم. الوحدة ليست محيطاً حولي، بل هي نسيج جلدي، تحكم قبضتها عليّ، تجعلني أذبل بصمت، بلا شهود، بلا وداع.
تحت شحوب النيون الهزيل، أجلس بين جدران متحجرة، في زخم أرواح تتسرب حولي كأشباح مسلوبة الوجوه. الجميع يمرون، يتحدثون، يتقاسمون ضحكاتهم، وأنا أذوب في بؤرة الفراغ اللامرئي. الزمن يمضي فوقي كظل غريب لا يعترف بوجودي، كائن أتنفس بين غمامة عابرة، دون أن تحس بي العيون العمياء. لا أحد يلتفت لصوتي الذي اختفى في أقبية الصمت، أو تلك النظرة التي كانت تسعى عبثاً وراء عيون تصطدم بها. كأنني طيف تائه في عالم مألوف، أترنح بين ألوان الحياة المشتعلة، لكنني رغم كل هذا الصخب، أظل نكرةً تماماً، مختبئاً خلف قناع اللامبالاة المتقشرة.
في زوايا المدينة المتجمدة، أسير كريشة منسية، كأنما محقت الريح خطواتي. لا أثر لوجودي، لا صدى لغيابي. في صدري حُطام أيام لم تكتمل، وأحلام ذابت ألوانها مع عقارب الزمن. وجهي خليط من بقايا ذاكرة وندوب النسيان، وصوتي صار تمتمة ضائعة بين جدران الضجيج. أحياناً أرنو إلى سؤال عابر يكسر جدار صمتي، عن آلامي المدفونة، عن غربتي المتجلدة وسط هذا الزخم. لكنني أدرك أن السؤال لن يطرق بابي، وأن وحدتي ستظل تحاصرني، كظل يتطاول على رصيف الحياة، مهمل بين زحمة أرواح لا تلقي بالاً.
في قلب المدينة الساهرة، أنا الحاضر الغائب، أتنفس بين الحشود كأنني طيف منسي. تمر الأيام عليّ كصفحات بيضاء، مشبعة بصمت متجمد، لا صوت فيها إلا همس أنفاسي المجهدة. العيون تتقاطع حولي، تتخطى وجودي بلا مبالاة، وكأنني شرخ في نسيج الحياة السرمدي. لم أعد أترقب شيئاً، لا كلمة، لا لمسة، فقط أمضي كسفينة ضلت مسارها في محيط لا نهائي. في أعماقي هاوية بلا قاع، وذكريات باهتة كأنها بقايا حلم تلاشى. الوحدة ليست محيطاً يطوقني، بل هي جلد يلفني، تخنقني بقبضتها، تجعلني أذبل بصمت، بلا شهود، بلا وداع.