عَلامَ الغُرُورُ يَاصَاحبي عَلامَ ! وَما مِن فَاعِلٍ إلّا وَضَمِنَ مِن حِبالِ خَلّاقِ المَوَاهِبِ من حَبالِها حَبله! أفَما عَلِمتَ أنُّ الغُرور حَالِقٌ وغَالِقٌ إن أَسدَلَ دُجَى سَدلَه ؟ وَإنَّما نحنُ نرمي من مِنحٍ أكتَالَها لَنا الوَهَّابُ بِكَيلِه .
نحنُ لَن نَقرَبَهُ, وَأنّى لَنا أَن نَطرقَ سُبُلَ غُرورٍ فَنغرقَ في جُبِّ جَهلِه . ومَا كُنّا لِنَدنوَ من وَحلِ غُرُورٍ في رَبِيعِ عُمُرٍ , أَفَنَحنو عليه في وَدِيعِ كَهلِهِ ؟
لا فَخرَ لِآدَميّ يا صاح إِن رَمَى مِن نِبَالِ الإبدَاعِ مَا شَاءَ مِن نَبلِه , فَذا لَبِيبٌ جُعِلَ مَجدُهُ في قِيادَةِ شَعبٍ بِحِنكَتِهِ وَ قَولِهِ , وذا نَجيبٌ حَظُّهُ في إبتِكارٍ رَصينٍ وكانَ كِفلَه , وَذاكَ فَاعِلٌ جُعِلَ عَيشُهُ في عَضُدٍ يَحرِثُ فَيَقطِفَ ثِمَارَ شَتلِه , وَذاكَ شَيخٌ أُركِسَ في مَنجَمِ فَحمٍ فأورَثَ ضّيمَهُ شِبلَه , وَآخَرُ في فُسحَةٍ بينَ سبَابَةٍ وَإبهَامٍ ومِن رَسمِ لَوحَةٍ كَانَ دَخلَه , وَآخَرُ رِزقُهُ كَمَنَ في مُدَاعَبَةِ كُرَةٍ بِيَدِهِ , أو بِرِجلِه , بَل و يَكمَنُ في حُنجُرَةٍ فَتارَةً ينشِدُ بِها مِن شَدَا التُّراثِ وَأَصلِه , وتارَةً يحشِدُ بِها آهَاتِ الغَرامِ في جَفوَتِهِ ووَصلِه .
وَلو أَنَّ إبنَ آدَم نَقَّبَ في تِرحَالٍ وَحِلِّهِ , في البِلادِ لِيَأتيَنا بِغُلامٍ كَغلامِ (سِينا) في عِلمِهِ وَ بَذلِه , أو بِفَتىً كأبن (آينشتاين) في إلهامِهِ وَفَتلِه , أو بِحُنجُرَةٍ لإمٍّ (لِكَلثومَ) تُجَذِّرُ في آهاتِ النَّوى شَجَاهُ ووَجلَه , وتُحَذِّرُ مِن (كَأسِ الفراقِ المُرِّ ) وثَملِه , أو بِلاعِبِ كرَةٍ جَعَلَ إسوَارَهُ لؤلؤَاً ومن الماسِ حجلَه , لَمَا إسطَاعُوا سَبيلاً ولَو أُلهِمُوا جدَّ السَّعي قُرُوناً وَغَادَرُوا هَزلَه .
كُلٌّ مُسَيَّرٌ في رفضِ شَائِكَةٍ وفي نَفضِ فِعلِهِ , وكُلٌّ مُخَيَّرٌ في حِفظِ حِياكَةٍ وفي نَقضِ غَزلِهِ .
كُلٌّ رَفسَةٍ وكُلُّ فَطسَةٍ ما هي إلّا عَطسَةٌ من عطسَاتِ القدَرِ تَتَفَيَّأ أنوَارَ (كُن) وظِلَّه.
رُفِعَ القَلَمُ!
فَعَلامَ غُرُوركَ عَلامَ؟
وَعَلامَ تَبجيلُ جدٍّ رَمِيمٍ تَفَاخراً , وبأثارَتِهِ على ظَهرِها تَتَبَختَر !
وعَلامَ تَدميرُ ضِدٍّ بِدرهَم تستَملِكُه لأجَلٍّ مُسَمىً ومِن كَثرَتِه تَتجَبَّر !
وعَلامَ تَحقِيرُ نِدٍّ بِرِداءٍ تَستَهلِكُه مَا كُنتَ مُبدِعَ نَسجِهِ بَل بِهِ سوفَ تُقبَر !
وعَلامَ تَصعِيرُ خَدٍّ بِمَركَبَة تَستَقِلُّها ما كُنتَ مُهَندِسَ مُحَرِّكها وبِها تَتَحَبَر!
إنَّ الذي نَسَجَ وَهَندَسَ لَن يَفعَلها أنَّ سُنبُلَتَهُ مَلأى فَانحَنَت بِتَواضِعٍ أكثَر ، وَسُنبُلَتَكَ جَوفَا فَشَمَخَت كَعِجلٍ أعوَرٍ أبتَر!
هَلّا إغتَرَرتَ عَلينا بِشَهِيقِكَ والزَّفير وبِهما تَتَكَبَر؟
وإعلم أنَّ أشَدّ الغَرورِ نَكَالاً ذَاكَ الّذِي تَسلّقَ كَتفَ ذِي عمَامَةٍ فَظَنَّ أنَّ سِدرَةَ المُنتَهى هيَ المَوضِعُ الذي أولَدَهُ , وأنَّ القدُّوسَ خَصَّهُ بِوِسامٍ فَأقلَدَهُ , وألّا مَنجَأ ولا مَلجَأ إلّا بِوجهَةٍ شَطرَ مُعتَقَدِه , وأنَّ بِيَدِهِ صُكوك مَغفِرَةٍ وَأنَّهُ مُنِحَ مَفاتِح الفِردَوس وَحدُه , فَمَا أَحمَقَه وَماأغفَلَ مَن إتَّبَعَهُ وَما أَبلَدَه ! ولكن..
إن لَقِيَكَ مَغرُورٌ يَا صَاحبي , فَلا تَقسُ عَليِهِ لأنَّ الرِفقَ بالحَيوَانِ كانَ أمراً من الرَّحمنِ مَقضِيَّاً أنزَلَهُ فَأخلَدَه .
فسَلامُ لِذِي جاهٍ تَهَلّلَ بَشَاشَةَ وَ سَلامُ على التّوَاضِعِ وأَهلِهِ , فَلولاهُ لَمَا تَكَلّلَ إِرثُ عِلمٍ وَنَهَلَ النَّاهِلونَ مِن نَهلَهِ , وَلَما تَذَلّلَ صَهيلُ فَهمٍ ويَا لِبَهيجِ صَهلِه , وَلولاهُ لَمَا تَظَلّلَ أَفيَاءَهُ تِلمِيذٌ وتَدَلّلَ مُستَطعِمَاً ثِمَارَ سَهلِه!
***************
(كُتِبَ النَصُّ إثرَ حُضُور مؤتَمَرٍ مُمِلّ)
بغداد – علي الجنابي