

في ليلة باردة في بيت لحم اليهودية، انبلج نورٌ لم يكن مصدره الشمس ولا القمر، بل كان نور الإعلان الإلهي عن تحقيق وعد قديم. وسط رعاية غنم عادية، دوى صوت سماوي لملاك الرب مُعلناً بشارة هي الأهم في تاريخ البشرية: "لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ" (لوقا 2: 10-11). هذه الكلمات الثلاث – "وُلِدَ لَكُم مُخَلِّص" – هي خلاصة الخطة الإلهية وسرّ الميلاد المجيد.
لماذا "وُلِدَ"؟ التجسد الإلهي
إن أهمية هذا الحدث تكمن في الفعل "وُلِدَ". لم يأتِ المسيح كرسول عابر، أو كـ "نبي" جديد فحسب، بل هو "الله الكلمة" الذي "صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يوحنا 1: 14). إنه الميلاد الفريد من نوعه؛ ميلاد ناسوته (طبيعته البشرية) من العذراء مريم بقوة الروح القدس، مع بقاء لاهوته (طبيعته الإلهية) الأزلي. التجسد هو الجسر الوحيد الذي يربط الأرض بالسماء، والمسافة التي لا يمكن للإنسان أن يقطعها مهما حاول. لقد اختار الله أن يأخذ صورتنا الضعيفة لكي نُمنح نحن صورته المُمَجَّدة.
لماذا "لَكُم"؟ العلاقة الشخصية والرحمة
كلمة "لَكُم" لا تعني مجرد ولادة تاريخية، بل تؤكد على الطبيعة الشخصية والدافئة لهذا الخلاص. فالله لم يرسل ابنه للعالم بصفة عامة، بل أرسله من أجل كل نفس بشرية، من أجل "أنتَ" و "أنا". لقد جاء ليفتدي كل شخص من عبودية الخطيئة، ويفتح لكل واحد باب التوبة والعودة إلى الأبوة الإلهية.
لقد تجسد "لَكُم" لكي:
لماذا "مُخَلِّص"؟ الهدف الأسمى للميلاد
المخلص (يسوع) هو الاسم الذي أعلنه الملاك ليوسف: "فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (متى 1: 21). هذه هي الغاية القصوى من الميلاد. كان الإنسان بحاجة إلى مخلص يُعيد له الحياة الأبدية التي فقدها بالخطية الأولى. فجاء المسيح ليُكمل الناموس ويُعلن العهد الجديد القائم على النعمة.
إن الخلاص الذي جلبه الميلاد المجيد هو خلاص شامل يشمل:
التواضع في المغارة: الدرس الأعظم
لم يكن اختيار مكان ميلاده مجرد صدفة؛ فقد أراد الله أن يقدّم للبشرية أعظم درس في التواضع ونبذ الذات. المذود، وهو مأوى بسيط للحيوانات، يُعلن رفضه للمظاهر البراقة والجاه البشري. إن ميلاد ملك الملوك في هذا الوضع المتواضع هو إدانة لكل كبرياء، وهو دعوة لكل إنسان ليُخلي قلبه من العظمة الزائفة ليُولد المسيح فيه. وبينما كان الرعاة البسطاء أول من سمع البشارة السماوية، تبعهم المجوس الحكماء حاملي الهدايا الثمينة (الذهب واللبان والمُرّ)، ليؤكد الوحي الإلهي أن الخلاص متاح للجميع: للفقير والغني، البسيط والمتعلم، وأن التواضع هو الطريق الوحيد للقاء الله المتجسد.
الغرض من وجودنا: السلام مع الله
إن الهدف الأعمق الذي حققه الميلاد هو استعادة السلام بين الإنسان والخالق. لقد فُقد هذا السلام بالخطية، لكن مجيء المسيح، الذي أعلنت الملائكة عنه كـ "رئيس السلام"، كان بمثابة مبادرة إلهية للمصالحة. إن التجسد يفتح أمامنا فرصة فريدة لا ليمنحنا السلام مع الآخرين فحسب، بل ليُؤسس السلام الداخلي والأبدي مع الله نفسه. ولهذا، فكل من يقبل هذا المخلص لا يكتفي بالاحتفال بالميلاد مرة في العام، بل يحيا في حالة مصالحة دائمة، ويصبح هو نفسه سفيراً للسلام الذي نزل به المسيح إلى الأرض.
رسالة شخصية: دعوة لاستقبال النور وعِشْ روح الميلاد
في خضم زحام الحياة وضجيجها، حيث تتراكم المخاوف وتتجدد التحديات، يبقى ميلاد المخلّص هو نقطة الارتكاز الثابتة. إن رسالة الميلاد موجهة إليك شخصياً: إن كنتَ تبحث عن معنى لحياتك، أو عن طمأنينة لقلبك، أو عن مغفرة لأخطائك، فاعلم أن المسيح وُلد "لك" لهذا السبب بالذات. لا تدع هذا الحدث العظيم يمر كذكرى تاريخية؛ بل افتح باب حياتك لتدخل إليه المحبة المتجسدة. إن استقباله في القلب يعني أن نور بيت لحم سيضيء حياتك، لتجد في داخلك السلام الذي أعلنته الملائكة ليلة الميلاد. تذكر النشيد الخالد: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ". والميلاد ليس مجرد حدث نحتفل به بالزينة والهدايا ؛ ولكن هو دعوة لـ التجسد في حياتنا اليومية؛ إذا كان المسيح قد تجسد في تواضع، علينا أن نتواضع نحن أيضاً لخدمة الآخرين لا تكتفِ بالتأمل في المغارة، بل اخرج من ذاتك لتنقل فرحة الخلاص إلى من هم حولنا، فتكون بذلك شاهداً حياً على ميلاد المسيح في هذا العالم.
أنتَ قيمة الميلاد الحقيقية
تذكّر أن المسيح لم يأتِ إلى الأقوياء أو الأغنياء ليحصل على المجد، بل جاء إليك، إلى ضعفنا واحتياجنا. رسالة المغارة هي أن قيمتك الحقيقية لا تكمن فيما تملكه أو فيما تحققه من شهرة، بل في كونك محبوباً بلا شروط من قِبَل الخالق. لقد دخل المسيح إلى أبسط وأفقر مكان ليؤكد أنَّ لا أحد بعيدٌ عن محبته. إذا شعرت يوماً بالتهميش أو الوحدة، تذكّر المشهد: السماء بأسرها أعلنت، والملائكة سبّحت، لأن طفلاً وُلد ليقول لك: أنتَ لستَ منسياً، وأنتَ سبب كل هذا الاحتفال السماوي.
خاتمة: ميلاد يستمر في القلب
إن الميلاد ليس حدثاً احتفالياً سنوياً فحسب، بل هو حدث داخلي مستمر. فبعد أن سجد الرعاة والمجوس، وغنى الملائكة نشيدهم، ينبغي أن يبقى السؤال المطروح علينا :هل وُلِدَ المسيح، المخلص، في قلوبنا؟ لأن الميلاد الحقيقي هو قبول هذا المخلص ليكون سيداً على حياتنا.
إن استقباله يفتح الباب لـ "مِلْءِ الزَّمَانِ" في حياة كل إنسان، مُحوّلاً المغارة المظلمة إلى سماء مُنيرة بالنعمة والمجد، ورافعاً شعار السماء الأبدي: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ".