لم يكن ظهور رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في برنامج دينار مجرد لقاء إعلامي اعتيادي، بل جاء بوصفه محاولة محسوبة لإعادة صياغة الخطاب الحكومي حول الاقتصاد، في لحظة يتقاطع فيها القلق الشعبي مع ضغوط الإدارة المالية، فالاقتصاد في العراق لم يعد ملفاً تقنياً، بل أصبح ساحة اختبار مباشرة لثقة المواطن بالدولة، وكل حديث رسمي عنه يُقرأ سياسياً قبل أن يُفهم مالياً.
السوداني بدا في اللقاء حريصاً على تقديم صورة حكومة تدرك تعقيد المشهد ولا تعد بما لا تستطيع تحقيقه، حديثه عن الموازنة الثلاثية عكس هذا التوجه، إذ قدمها كخيار اضطراري لتأمين الاستقرار واستمرار المشاريع، لا كحل نهائي للاختلالات المتراكمة، غير أن هذا الطرح، رغم واقعيته، يثير تساؤلاً مشروعاً حول ما إذا كانت الموازنة أداة لإدارة الأزمة أم لتأجيلها، في ظل اقتصاد لا يزال رهيناً لعائدات النفط، وبنية إنفاق يصعب الدفاع عن استدامتها على المدى المتوسط.
في ملف سعر الصرف، غلبت لغة الطمأنة على الخطاب، مع التأكيد على الميل نحو الاستقرار وتجنب المفاجآت، هذه اللغة مفهومة في سياق القلق العام، لكنها بدت أقرب إلى إدارة المزاج الشعبي منها إلى تقديم تصور شفاف عن حدود قدرة الحكومة على التحكم بالسياسة النقدية، فالحديث عن التثبيت لا يجيب بالكامل عن الأسئلة المتعلقة ببنية السوق والقيود الخارجية، وهو صمت قد يُقرأ على أنه حذر، لكنه يحمل أيضا كلفة سياسية إذا طال أمده.
الأكثر حساسية في اللقاء كان الاقتراب من ملف سلم الرواتب، حيث اعترف السوداني بوجود خلل واضح في العدالة الوظيفية وبثقل المخصصات في هيكل الأجور، هذا الاعتراف يُحسب له، لكنه جاء دون ملامح واضحة لمسار إصلاحي محدد، وكأن الحكومة تفضل توصيف المشكلة على خوض مغامرة حلها، إدارة هذا الملف بمنطق التأجيل قد تحمي الاستقرار السياسي مؤقتاً، لكنها تُبقي شعوراً متراكماً بالغبن، يصعب احتواؤه بالخطاب وحده.
وعند التطرق إلى أرقام الإنفاق العام، حاول رئيس الوزراء نقل النقاش من منطق الاتهام إلى منطق الفهم، مبرزا حجم الدولة وتعقيد التزاماتها، غير أن هذه المقاربة تصطدم بواقع اجتماعي فقد ثقته بالأرقام المجردة، وبات يقيس الأداء بما يلمسه في حياته اليومية، لا بما يسمعه في التصريحات.
في المحصلة، عكس لقاء دينار حكومة تميل إلى إدارة الأزمة أكثر من إحداث قطيعة معها، وتفضل الواقعية الحذرة على الوعود الكبيرة، هو خطاب متزن، لكنه غير حاسم، يشرح أكثر مما يغير، ويؤجل أكثر مما يحسم، وبين هذا وذاك، يبقى المواطن منتظراً ترجمة الكلام إلى أثر، في بلد لم تعد فيه اللغة وحدها كافية لشراء الصبر.