عشتار تيفي كوم - أسي مينا/
بقلم: سهيل لاوند
تستعد الكنيسة الكاثوليكية للاحتفال بإعلان قداسة الطوباوي إغناطيوس مالويان، ابن مدينة ماردين-تركيا ورئيس أساقفتها للأرمن الكاثوليك في 19 الجاري. ومع اقتراب المناسبة وبعد تثبيت الفاتيكان زيارة البابا لاوون الرابع عشر تركيا نهاية الشهر المقبل، تبرز أسئلة عن أهمية ماردين والوجود المسيحي فيها ماضيًا وحاضرًا.
رغم عدم وقوع ولاية ماردين في منطقة الهلال الخصيب، أُلحقت نهائيًّا بالدولة التركية بموجب معاهدة لوزان عام 1923. وتضم عددًا من أهم المدن التاريخية في التراث المسيحي، منها ماردين المدينة، وكلّ من نصيبين ومديات الواقعتَين ضمن ما يُعرف باسم طور عبدين. وتُعدّ هذه المنطقة، إلى جانب ديار بكر وأورفا (الرها القديمة)، مهد السريان ومركز إشعاعهم الروحي والعلمي والحضاري عبر القرون.
يُشتق اسم ماردين من الكلمة السريانية «مردو» التي تعني «القلعة المنيعة». أما طور عبدين، فتعني بالسريانية «جبل المتعبدين»، وقد لُقّبت بـ«جبل آثوس الشرق» لشهرتها في الزهد والرهبنة. وازدهرت المسيحية فيها منذ القرن الرابع الميلادي، حيث لمع القديس أفرام السرياني ومعلمه يعقوب النصيبي، رئيس أساقفة نصيبين، الذي شارك في مجمع نيقيا الأول عام 325. وتحلّ هذا العام الذكرى الـ1700 لانعقاد المجمع.
ماردين بين اليوم والأمس
عرفت ماردين نهضة مسيحية عبر العصور، ولم يخفت وهجها إلا في فترات الاضطراب أبرزها زمن غزو تيمورلنك المغولي في أواخر القرن الرابع عشر. كما كانت فترة طويلة مقرًّا بطريركيًّا للكنيسة السريانية. وفي العام 1870 بلغ عدد السريان الأرثوذكس في الولاية نحو 100 ألف نسمة، عدا المسيحيين من الطوائف الأخرى. إلّا أنّ عوامل الاضطهاد والمضايقات والأزمات الاقتصادية التي عصفت بالمنطقة منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين (أبرزها مجازر سيفو التي سقط فيها مالويان نفسه) أدت إلى تناقص عدد مسيحييها إلى نحو خمسة آلاف فقط اليوم.
لكن منذ العام 2002، ومع تولي حزب العدالة والتنمية السلطة، يختبر المشهد الديني في ماردين تحولات تدريجية. فعلى الرغم من إقدام الحزب على تحويل متاحف كانت كنائس إلى مساجد، تمكن مسيحيو ماردين من استعادة بعض حقوقهم، ونالوا تمثيلًا برلمانيًّا للمرة الأولى.
وفي العقد الأخير، أعيدت عشرات الممتلكات الكنسية إلى أصحابها، وافتتحت جامعة «ماردين آرتوكلو» قسمًا لتعليم اللغة السريانية وآدابها، فيما أطلق «مركز مديات للتعليم العام» أول دورة رسمية لتعليم السريانية بعد عقود من المنع.
كذلك، شهد العام 2022 إعادة تكريس كنيسة مار أفرام السريانية الكاثوليكية في ماردين المدينة. وأعلن مركز حماية التراث الثقافي في تركيا عن مشروع واسع لتوثيق المباني التاريخية والنقوش السريانية في الولاية. وفي العام التالي افتُتحت أول مكتبة سريانية رسمية في قرية حاح-طور عبدين. أما العام الماضي، فشهد ترميم سوق آشوري أثري في المدينة عمره 400 عام، في خطوة عكست عودة الاهتمام الرسمي بالتراث المسيحي في المنطقة.
ومن أبرز مظاهر الانتعاش المسيحي هذا العام الاحتفال قبل أيام بالقداس الإلهي الأول في كنيسة يعقوب النصيبي-نصيبين، بعد غياب أكثر من قرن. كما تُختتم اليوم أعمال المؤتمر الخامس للاتحاد العالمي للأطباء السريان في مدينة مديات. إلا أنّ الحدث الأبرز كان الرحلة الرسولية لبطريرك السريان الأرثوذكس إغناطيوس أفرام الثاني إلى أبرشية طور عبدين وتوابعها آواخر أغسطس/آب الماضي. وشملت الزيارة أهم الأديار التاريخية في المنطقة (مثل دير مار أوكين، ومار كبرئيل، والزعفران، وكنيسة يعقوب النصيبي)، إضافة إلى زيارة كنائس أكثر من عشرين قرية مسيحية أقيمت فيها القداديس الإلهية. والتقى أفرام عددًا من المسؤولين الأتراك، مشيدًا بالتطور في البنية التحتية وتحسُّن الخدمات في القرى المسيحية، ما يشجّع على عودة أبنائها وإعادة إعمار منازلهم.
وتشير تقارير حديثة إلى بوادر هجرة مسيحية عكسية محدودة نحو ماردين. فمن جهة، استقر فيها عدد من المسيحيين السوريين الفارين من الحرب في خلال العقد الماضي؛ ومن جهة أخرى بدأ أبناء ماردين المهاجرون إلى أوروبا يعودون لترميم بيوتهم أو بناء منازل جديدة، سواء للإقامة الدائمة أم لقضاء فترات الصيف، في مشهد يعكس إحياءً بطيئًا للذاكرة المسيحية في المنطقة.