إن سعي إدارة ترامب للتوصل إلى اتفاق تفاوضي بشأن البرنامج النووي الإيراني هو السياسة السليمة الوحيدة التي يمكن أن تمنع اندلاع حرب إقليمية. علاوة على ذلك، فهو يوفر فرصة فريدة من نوعها يمكن أن تغيّر مسار الأمن الإقليمي، وربما تُمهّد الطريق لسلام واستقرار طويلي الأمد.
لا تزال المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني محفوفة بالخلافات العميقة. ومع ذلك، يتمتع ترامب، أكثر من أي من أسلافه، بفرصة فريدة للتوصل إلى اتفاق يخدم مصالحهما الوطنية ويمنع انزلاق المنطقة إلى حرب مروعة، وإن كان على كلا الجانبين تقديم تنازلات كبيرة. ومع ذلك، فإن رغبتهما في التوصل إلى اتفاق قوية بما يكفي لتجاوز خلافاتهما الرئيسية.
ومع ذلك، لن يكون مثل هذا الإتفاق كافياً لتحقيق الأمن والإستقرار الإقليميين على المدى الطويل اللذين ترغب إيران ودول الخليج العربي والولايات المتحدة في تحقيقهما. ومع ذلك، فإن التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، بالتزامن مع تطبيع العلاقات الأمريكية الإيرانية، لن يُسهّل التوصل إلى مثل هذا الإتفاق فحسب، بل سيُبدّد أيضًا العداء الإسرائيلي – الإيراني المُتجذّر، ويُعزّز السلام والإستقرار الإقليميين.
الموقف الإيراني
تُصرّ إيران على أن حقها في تخصيب اليورانيوم على أراضيها “غير قابل للتفاوض” و”خط أحمر واضح”، مُدّعيةً أن التخصيب للإستخدام المدني السلمي. ورغم استعداد إيران لوضع حدّ مؤقت للتخصيب، إلا أنها ترفض القيود غير المُحدّدة، وتُعارض المراقبة المُكثّفة، مُعتبرةً ذلك انتهاكًا لسيادتها، وترفض رفضًا قاطعًا تفكيك بنيتها التحتية النووية. كما تسعى طهران جاهدةً لرفع العقوبات الأمريكية المُرهقة لتخفيف حدة السخط الشعبي المُتزايد، والذي قد ينفجر في حال عدم وجود إغاثة اقتصادية. تُريد إيران تجنّب الحرب مع الولايات المتحدة و/أو إسرائيل التي قد تُهدّد بشكل خطير بقاء الحكومة التي يسعى النظام إلى حمايتها بأي ثمن.
الموقف الأمريكي
تُبقي الولايات المتحدة على خط أحمر يُسمى “منع التخصيب”، مُطالبةً بإزالة جميع منشآت التخصيب المحلية في نطنز وفوردو وأصفهان، وتُصرّ على تفكيك البنية التحتية النووية، وترفض التجميد المؤقت. تسعى الولايات المتحدة إلى فرض قيود دائمة وقابلة للتحقق تتجاوز شروط خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 التي انسحب منها ترامب، وستمنح تخفيفًا للعقوبات مشروطًا بتراجع إيران عن برنامجها النووي بشكل قابل للتحقق وتعزيز عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ورقابة أكثر صرامة. من شأن الإتفاق مع إيران من وجهة نظر ترامب أن يُسهم في استقرار المنطقة ويُوسّع نطاق التبادل التجاري ويمنع الصين وروسيا من تحقيق المزيد من النفوذ.
الإطار المُحتمل للإتفاق
على الرغم من الإختلافات بين الولايات المتحدة وإيران، أعتقد أنهما لا يزالان قادرين على التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا الجوهرية والفنية، بما في ذلك عدد أجهزة الطرد المركزي اللازمة للعمل وشحن مخزون إيران من اليورانيوم المُخصّب بنسبة 60% لربما إلى روسيا وتراجع نووي قابل للتحقق، مع تعزيز عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ورقابة أكثر صرامة.
المسألة العالقة هي إصرار إيران على حقها في تخصيب اليورانيوم، وهو ما تعترض عليه الولايات المتحدة بشدة. ومع ذلك، هناك عدة خيارات قد يتفق الطرفان على أحدها مع ادعائهما بتحقيق هدفهما. الإحتمالات هي: 1) أن تُجمّد إيران التخصيب عند مستوياته الحالية وتُفكّك أجهزة الطرد المركزي المتطورة؛ 2) أن يُسمح لإيران بالإحتفاظ بحقوق التخصيب قصيرة الأجل حتى 3.67% مع الإلتزام بأهداف الولايات المتحدة طويلة الأجل في مجال منع الانتشار؛ أو 3) أن يُسمح لإيران بالإحتفاظ بمنشآت تجريبية رمزية تحت إشراف صارم من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يُحاكي اتفاق عام 2015.
لا ينبغي لترامب أن يُصرّ على مهلة 60 يومًا ويُهدّد بالخيارات العسكرية الأمريكية بعد انقضاء المهلة. ستُقاوم إيران التفاوض تحت التهديد العسكري لأنها تجده مُهينًا، مما يُؤدّي إلى انعدام الثقة المتبادل بشأن النوايا والإلتزام. ومع ذلك، ينبغي أن يتوافق الجدول الزمني للتوصل إلى اتفاق مع التقدّم المُحرز في المفاوضات، ولكن لا يُمكن أن يكون مفتوحًا.
وفي حين أن مثل هذا الإتفاق من شأنه أن يقلل من التوترات الإقليمية، إلا أنه لن ينهي الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني أو العداء الإسرائيلي الإيراني الشديد أو التنافس الإقليمي العدواني لإيران، ولا دعمها لحلفائها في المقاومة وهي وصفة لاستمرار الصراع وعدم الاستقرار الإقليمي.
فرصة فريدة لنظام إقليمي جديد
إنّ التفاوض المتزامن على تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران لن يُسهم في التوصل إلى اتفاق بشأن قضية التخصيب فحسب، بل قد يُفضي إلى سلام واستقرار إقليميين طويلي الأمد. ونظرًا لنهج ترامب غير التقليدي وغير القابل للتنبؤ، فهو في وضع فريد يُتيح لإيران فرصةً للتحول من مصدرٍ لعدم الإستقرار والصراع الإقليمي إلى لاعبٍ بنّاء. قد تكون إيران منفتحةً على تغيير مسارها طالما بقي نظامها قائمًا ونما اقتصادها ولم تتدخل أي قوة أجنبية في شؤونها الداخلية. كما أن التوقيت مُلائمٌ للغاية لترامب لاتخاذ مثل هذه الخطوة، إذ تجد إيران نفسها في أضعف حالاتها خلال العقدين الماضيين.
لقد انهار محور المقاومة الإيراني – فقد قُضي على حماس وتراجع حزب الله بشكلٍ كبير وأصبح الحوثيون أقل فعاليةً بشكلٍ متزايد – في حين فقدت موطئ قدمها في سوريا الذي كان محوريًا لإبراز قوتها الإقليمية. علاوة على ذلك، سحقت إسرائيل إلى حدّ كبير منظومة الدفاع الجوي الإيرانية ودمرت كمية كبيرة من مخزونها من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، وهو أمرٌ سيكون في جميع الأحوال غير فعّال على الإطلاق بالنظر إلى قوة الدفاع الجوي لإسرائيل وحلفائها.
ونظرًا لضعفها، تواجه إيران ثلاثة خيارات. أولًا، تجديد محور المقاومة، وهو أمر سيستغرق سنوات وبتكلفة باهظة. لقد نجحت إسرائيل في سحقها سابقًا، ويمكنها فعل ذلك مجددًا، مما يجعل هذا الخيار غير مرغوب فيه للغاية.
ثانيًا، قد تلجأ إيران إلى تطوير أسلحة نووية لردع الهجمات المستقبلية على أراضيها مع تحييد القدرة النووية الإسرائيلية. هذا الخيار محفوف بمخاطر جمة، إذ من المرجّح أن تهاجم الولايات المتحدة و/أو إسرائيل بنيتها التحتية النووية، وهو ما ترغب إيران بشدة في منعه.
ثالثًا، قد تختار طهران تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، كما أشار ترامب، شريطة ألا تسعى الولايات المتحدة إلى تغيير النظام في أي وقت وأن تُترك إيران وحدها لمعالجة شؤونها الداخلية كما تشاء. هذا هو الخيار الأكثر ترجيحًا، إذ يفضل ترامب مناقشة التطبيع والسلام، شريطة أن تستوفي إيران عدة شروط.
يجب على إيران الإلتزام الكامل بالإتفاق الجديد وإيقاف مجمعها الصناعي النووي الضخم بشكل يمكن التحقق منه والتركيز حصريًا على الإستخدام السلمي لبرنامجها النووي؛ ووقف دعمها لأي جماعات متطرفة تهدد أيًا من دول المنطقة؛ ووقف التهديدات الوجودية لإسرائيل؛ وعدم التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في الشؤون الداخلية لأي دولة في المنطقة؛ وأخيرًا، إظهار استعدادها لأن تصبح لاعبًا إقليميًا بنّاءً.
الخلاف بين ترامب ونتنياهو
في حين أن ترامب منفتح بلا شك على تطبيع العلاقات مع إيران، إلا أنه لا يتفق مع نتنياهو الذي يعارض أي اتفاق أمريكي- إيراني. يُصر نتنياهو على صفقة “على غرار ليبيا” تتطلب التنازل الكامل عن الأصول النووية ولم يستبعد العمل العسكري الأحادي الجانب. وبخلاف نتنياهو، فإن اللاعبين الإقليميين، وخاصة دول الخليج العربي، وكذلك ترامب، يريدون تجنب المواجهة العسكرية مع إيران لعلمهم أن مجرد التفكير في مهاجمة المجمعات النووية الإيرانية سيكون ضربًا من الجنون من جانب نتنياهو، متجاهلين التداعيات الإقليمية المروعة التي قد تترتب على ذلك.
لهذا السبب، وفي كلّ قضية استراتيجية وجيوسياسية مهمة تقريبًا تُعنى بإسرائيل، اختار ترامب التصرف بشكل أحادي على جبهات مختلفة تمامًا عما كان نتنياهو سيختاره، بما في ذلك السعي إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، ووقف إطلاق النار مع الحوثيين واحتضان النظام السوري الجديد والتفاوض مباشرةً مع حماس بشأن إطلاق سراح الرهائن وربما منح إيران أفقًا جديدًا، وهي خطوة قد تقبلها إيران طواعيةً.
إن تدمير البنية التحتية النووية الإيرانية لن يؤدي إلا إلى زيادة إصرارها على امتلاك أسلحة نووية، وسيصبح العداء تجاه إسرائيل مميتًا لا رجعة فيه. وفي المحصلة، تُعتبر إيران قوة إقليمية عظمى يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة وتمتلك موارد طبيعية وبشرية هائلة وتتمتع بموقع جيوستراتيجي بالغ الأهمية وتتمتّع بتاريخ غني يمنحها حضورًا إقليميًا فريدًا. حتى بعد معاناتها من حرب مدمرة، ستبرز إيران من جديد كقوة عظمى يجب على ترامب ونتنياهو أخذها في الحسبان. إيران باقية، والعقل السليم يقتضي إيجاد حلّ سلمي دائم لبرنامجها النووي.
إن السعي لتطبيع العلاقات مع إيران والتقدم نحو اتفاق سلام، وهو ما أشار ترامب إلى نيته السعي إليه، يمثّل قفزة جيوسياسية تاريخية. من شأنه أن يخفف التوتّر بين إيران وإسرائيل بشكل كبير، ويحوّل المنطقة من منطقة موبوءة بالصراعات والإضطرابات إلى منطقة سلمية تنعم بالأمن والإزدهار. ومن المفارقات أن ترامب، مع كلّ عيوبه، في وضع فريد يسمح له بمحاولة ما لم يجرؤ أسلافه على القيام بها.