منذ نشأة الحياة وإلى اليوم يقدم لنا تاريخ الإنسانية محبة الله للإنسان بعد امتزاجه بتاريخ رسالة المسيح يسوع. وإننا نعيش اليوم في عالم يسوده القلق والصخب والخوف والكذب على المستقبل والألم والغارق في بحر من الدماء والدموع، ورغم هذا كله فالمسيحية تشرح سرّ انتصارها وإشعاعها وكيف يجب أن نتعلم من صمت وسكوت.
فالإنسان لا يجد سبيله إلى السعادة إلا بقدر ما يحب وبقدر ما يكون حبه صمتاً وسكوتاً وإصغاءً. فعالمنا اليوم بحاجة كبيرة إلى هذا الهدوء لكي لا يلتهي بأمور مدمِّرة لحياته، إذ أحياناً يقال: إذا ما حدث شيء عظيم في المسكونة بأسرها فاعلم جيداً أن الصمت والسكون له دور كبير وإنْ كان منسيّاً في عصرنا هذا.
كلنا نعلم أن الرب يسوع كان يعمل من أجل صمته وسكوته، وهذا ما كان يجعله يصعد إلى الجبل ليلاقي الآب السماوي في صلاة تأملية بعد أن كان يكلّم الشعب نهاراً بالكلمة (مر2:2) وبسبب هذه الكلمة كان صامتاً ثلاثين سنة، وبصمته قاوم كبار الزمن والأحبار وشيوخ اليهود والوالي بيلاطس "فقال له بيلاطس: أما تسمع ما يشهدون به عليك. فلم يُجبه عن شيء. فتعجب الحاكم كثيراً" (متى13:27-14) ومن هنا نتعلم لنقول: كم نحن في حاجة إلى وقفات سكوت وصمت ومراجعة حياة والنظر إلى البعد من عيوننا الجسدية لأننا بحاجة إلى منظار روحي وعبر عيون القلب والعقل لنرى جيداً، فلا بدّ من لحظات الصمت والسكوت في مسيرة هذه الحياة ولنفتش عنه لأنه الأفضل في حل جميع المشكلات بدلاً من الصراع والتنافر والحقد. ولندرك جيداً رسالتنا وإنْ كنا في هذا الزمان نعتبر الصمت والسكوت جهلاً أو ضعفاً أو خوفاً وربما احتراماً لشخصية كبار الزمن والمعابد، ولكن في هذا لنعلم أن كل صمت ناتج عن الأمور التي ذُكرت معناه عدم القبول في ذلك، ومن هنا ندرك أن الصمت العميق والسكوت المؤدب أبلغ كلام وإن كان أحياناً صمتاً قاسياً وصعباً فسفر الجامعة يقول "هناك وقت للنطق ووقت للصمت" (جا7:3) ومثالنا في ذلك مار يوسف البتول الذي أكنّه دائماً بــــ "الصامت الكبير" حيث امتاز بالهدوء والتأمل والصمت وعيش إرادة السماء بدل الكلام الكثير والطويل والقيل والقال. فقد كان رجل صمت ولذلك أدرك جيداً مشيئة السماء ورسالة الملاك جبرائيل إذ "لما تمّ ملء الزمان" (غلا4:4) وأدرك أن الكلام لا زال سرّاً إلى أن تمّ ذلك "فكان أن صعد من الجليل، من مدينة الناصرة إلى اليهودية مدينة داود بيت لحم ليُكتَتَب مع مريم وهناك تمّت أيامها فولدت ابنها البكر يسوع" (لو4:2-6) ثم سار بالطفل وأمّه ليلاً ولجأ إلى مصر (متى14:2) ثم قفل راجعاً هو والطفل وأمّه إلى الجليل (متى22:2) وصعد ومريم إلى أورشليم ليقرّبا الطفل للرب كما تقضي الشريعة (متى21:2)... وفي هذا كله كان ساكتاً صامتاً ومدركاً أن تلك رسالة السماء فما عليه إلا أن يبقى صامتاً ليتكلم ربّ السماء... هذا هو إله يوسف البتول، إنه إله الصمت والسكوت. ويوسف وقدسية الصمت ما زالتا على مرّ القرون نوراً يقودنا نحو إدراك رسالة السماء، وهذه الرسالة تلهب حياتنا لنصمت قليلاً حيث يبقى الله يعمل ما يشاء حينما يكون الزمان وبذلك نحيا في حضرة الله. فالسكوت نعمة وموهبة، وطوبى لِمَن أمام كلمة السماء يُصغي ويسمع ليعمل ويصمت على غرار العذراء مريم التي كانت تحفظ هذه الأمور كلها في قلبها (لو19:2) ومار يوسف الصامت الكبير، واللذان تحوّل صمتهما إلى صلاة نابعة من قلبيهما ودخلا في علاقة مع الله، وما أجمل هذا الصمت إنه مدى حياتهما بشاكلة الوحدة التي عاشها ابن الله الرب يسوع والتي جعلته واحداً مع الله حيث قال "أنا والآب واحد" (يو30:10). فالصمت والسكوت هو حوار الإنسان مع ذاته، ولا يفقه معناه أحد إلا الذي يصمت، كما كان غاندي يصمت يوماً في الأسبوع، وأمام كلام الله يسكت الإنسان، ومثالنا في ذلك القديسة مريم العذراء والقديس يوسف البتول. فالصمت يا أخي رسالة إليك من السماء... ليس إلا!.