ابن الأعظمية يفتدي سكان الجنوب بدمه
في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الإعلام مجندة بالكامل لتكرار بث الثرثرة المبتذلة التي أطلقتها صحف السلطة في نيسان عام 1991 ضد سكان جنوب العراق. كان الصحفي الشهم (ضرغام هاشم هاني النعيمي) يرفع وحده راية الاحتجاج ضد العقلية المتجبرة التي قررت الانقلاب على الشعب، والتي اختارت التلاعب بالعواطف الطائفية بغية تشويه صورة عامة الناس بمحض إرادتها الغاشمة، لكن الشاب الأعظمي الذي ضحى بحياته من أجل أبناء الجنوب لم يكن دماغه يعمل بآلية العقول المشفرة طائفياً. بل كانت مشاعره الوطنية وطاقاته الإبداعية في الكتابة مسخرة كلها للذود بالدفاع عن أهله في الجنوب، معلناً وقوفه بوجه أشرس الأنظمة القمعية المولعة بالبطش وإزهاق الأرواح، فقام بعمل شجاع لم يجرؤ على القيام به سواه في تلك الفترة الزمنية العصيبة من تاريخ العراق.
لقد أعد (ضرغام) وثيقته الاحتجاجية التي حملت عنوان (أترضى أن يهان شعبك ؟). كانت وثيقته قوية اللهجة وموجهة إلى رأس النظام نفسه. سار ضرغام بخطوات ثابتة نحو مبنى صحيفة البعث السياسي قرب المعهد القضائي بالوزيرية (وهذا هو اسمها المتداول وقتذاك). دخل على نائب رئيس تحرير جريدة القادسية (أمير الحلو)، وطلب منه نشر الرد (الوثيقة).
وقف (الحلو) حائراً مندهشاً من جرأة (ضرغام)، وكان يدرك تماماً حجم مثل هذه المخاطر وعواقبها الوخيمة، فرفض نشر الرد بعدما فشل في إقناع (ضرغام) الذي أصر على الدفاع عن حقوق أبناء الجنوب. حتى كاد أن يفقد الأمل لولا تدخل (مظهر عارف) الذي أبدى استعداده لنشر الرد باعتباره رئيساً جديداً لتحرير البعث السياسي. بيد أن (مظهر) هذا كان يخطط للحصول على موافقة (عدي) أولاً قبل البت بنشر الرد من عدمه. فأعلن (ضرغام) رفضه للمقترح الذي تقدم به (مظهر).
لم ييأس (ضرغام) ولم يتراجع، بل توجه إلى عرض الموضوع على (حميد سعيد) الذي تربطه به صداقة عميقة، فوافق (حميد) على نشر الرد في جريدة الثورة، وفي صباح اليوم التالي كان الرد منشورا على صفحاتها في الوقت الذي كان فيه ضرغام في طريقه إلى بيت زوجته في الموصل. يبدو أن موافقة الجريدة على النشر كانت من الأمور المقصودة والمدبرة، إذ ظهرت في اليوم التالي صورة كاريكاتيرية لضرغام محمولاً على عربة من عربات الأنقاض في محاولة للاستخفاف بموقفه المتفجر بالشجاعة، وإسكات الألسن المعترضة على سياسة السلطة وتوجهاتها الانتقامية العنيفة.
ظل مصير (ضرغام) مجهولاً بعد اعتقاله وترحيله إلى سجون الأحكام الثقيلة، حتى جاء اليوم الذي نشرت فيه وكالة أحرار الإخبارية اعترافا لسجين سياسي أدلى به عام 2013، قال فيه: إنه شاهدَ الصحفي ضرغام هاشم وهو يتعرض للتعذيب، ثم شاهده وهو يُعدم على أيدي سجانيه. قال السجين الذي احتفظت ( أحرار) باسمه إنه شاهد (ضرغام) مُكبلَ اليدين معصوبَ العينين وهو يُضرب بكيبل على رأسه والدم يغطي وجهه، ثم جيء به إلى سجن إنفرادي، وأمر أحد الضباط أن تشدد الحراسة عليه، ويبقى منفرداً في سجنه. وبيّن المصدر إنه في اليوم التالي اقتيد (ضرغام) ورُبط إلى جذعِ نخلةٍ، ثم صوّبَ له أحد الضباط رصاصةً من مسدسه. كان الضابط يهتف بصوت عال (عاش القائد)، وبعد ذلك انهال عليه الرصاص من السجانين، وهم يهتفون (عاش الشعب العراقي). مبيّنا إنه تم جلب شفل ليحفر حفرةً كبيرةً أُلقيت فيها جثة الشهيد البطل، ثم ردمت الحفرة، موضحاً إنه يعرف مكان القبر بالضبط حتى هذه اللحظة. وهكذا استشهد هذا الرجل البطل دفاعاً عن أهله في الجنوب، وصار رمزاً ساطعاً في سجلات شهداء الكلمة الحرة. بينما يتحذلق اليوم بعض المحسوبين على الجنوب ليتطاولوا على الناس، ويطمسوا حقوقهم في مقابر الفوضى الديمقراطية التي نعيش تفاصيلها هذه الأيام.
وللحديث بقية. .