في العطلة الصيفية عام 1961 والوالد لم يزل يعمل في مشروع سد دربندخان، ارسل لنا برقية حملها البوسطجي موسى رئيس وفحواها ان نمضي اجازة عنده، فأجرنا سيارة نوع مارسيدس لصاحبها ميخا متي النجار انا والوالدة والأخوات والعم كامل في رحلة طويلة شاقة وفي نفس الوقت ممتعة، اطلعت فيها على مختلف تضاريس الطبيعة من اراضي مستوية الى اخرى وعرة الى جبال عليها لم ار لها مثيلا حتى ذلك الوقت الى نفق اراه لأول مرة حيث ولجت سيارتنا داخله بعد ان فتح السائق مفتاح اضويتها الساطعة، رأيت مدناً ادخلها لأول مرة واعجبت بها ومنها: أسكي كلك( كلك ياسين) على نهر الزاب- اربيل- آلتون كوبري( حيث تغذينا فيها وشربنا اللبن البارد بملاعق خشبية مزخرفة) - كركوك- جمجمال- السليمانية وغيرها.
ذهبت حاملا ملزمة صلوات التناول الاول، وعدت ومعي كراس عن مشروع دربندخان، وفيه العديد من الصور للزعيم عبد الكريم قاسم الذي قام بزيارته. انبهرت بمدينة دربندخان حيث تحيطها الجبال من كل جوانبها( او هكذا بدت لي) وكان اعلاها الجبل المتاخم لايران، وكنت ارى كل اسبوع تقريبا طائرة تعبر الجبل الى دربندخان، فاسمع الكبار يقولون انها تحمل( البودرا) وعند استفساري عن البودرا قالو: تاتي بالرواتب الاسبوعية للعمال( ومعلوم ان الشركة كانت اميركية). سكنا في بيت بسيط من الصفيح مع ايوب حبيب طعان وعائلته( كان يعمل سائق يوكليت) وابعد منه قليلا عائلة اسحق شبلا واخيه نعيم. كنت معجب الكهرباء كثيرا حيث تخلو بلدتي منه وكنت ارقب تجمع البق (نامس) بكثافة حوله، مما اضطرنا استخدام الشال الابيض للوقاية منه اثناء النوم. خرجت مع والدتي ومعها مكو جبو كادو للتسوق في سوق عمالي شعبي بسيط، وصارت مكو تتعامل معهم وتسال سؤالا مكرراً في كل مرة" كاكا افا بچند؟ اي كم السعر، وانا اقول لمكو كيف تعرفين اسمه؟ فتبتسم ونذهب الى بقال اخر وتعيد الى الاسماع اسم( كاكا) فقلت مع نفسي ليس معقولا ان جميعهم اسمائهم كاكا، حتى أخبرتُ بان كاكا تعادل عمي عندما تجهل اسم المقابل. عندما حلّ السبت وهو عطلة للعمال اخذني عمي حبيب دمان الذي كان هو الآخر يعمل نجاراً في المشروع، الى سينما صيفي في منطقة قريبة يسموها( الكامب) هناك شاهدت فلما اميركيا، ولازال منظر اضرام نار بالحقول الزراعية يأسرني نتيجة قتال بين العصابات وحملة المسدسات الجانبية الكاوبوي.
في دربندخان سمعت لاول مرة بالثائر الكردي الشيخ محمود الحفيد التي كانت تحيط به هالة من القدسية، وسمعت قصصا كثيرة عن بطولاته وتصديه للانكليز، كان يقال ان الرصاص لا يخترق جسده وحالما يعود من المعركة، يحرك جسمه فتتناثر الى الارض خراطيش الطلقات التي تعلقت بجسمه، كانت مجرد اعتقادات وتعبير عن محبة لذكرى ذلك الرجل، ويقال ايضا ان كثير من الناس تتوكل عليه بالقول" يا شيخ محمود" ، في الطريق وعلى احد جوانبه اشار احدهم الى كهف قريب قائلاً، هناك قبض على الشيخ بعد ان عجزت الحكومة والانكليز وطائراتهم عن قهره، بينما كان مع خمسين من رجاله في داخل الكهف، وضعت صخرة كبيرة امام الكهف، بخيانة من بعض اصحابه. وقريبا من كركوك في رحلة عودتنا، شاهدنا رتل طويل من السيارات، فقيل لنا ان فيها نجل الشيخ محمود المدعو شيخ عبد اللطيف، كل ذلك تعلق في ذهني ربما فيه من الخيال وغير ذلك لكنها مخيلتي وعمري 10 سنوات، بعد ان انتهى مشروع دربندخان وعاد والدي الى القوش، ظل يحتفظ بصورة الشيخ محمود، بملابسه السورانية الجميلة، وشواربه الكثة، والخنجر امام صدره. تأسفت كثيرا عندما ضاعت تلك الصورة، بعد اندلاع القتال بين الحكومة والثورة الكردية المنطلقة في ايلول 1961. وها انا اعثر على رسم له شبيه بتلك الصورة.
الشيخ محمود الحفيد 1883- 1956
في احدى اماسي الخريف الباردة طرق بابنا وإذا الوالد يفاجئنا، ثم عرفنا القصة بانه ومجموعة من الاصدقاء يرافقون جثمان الفقيد جميل عزيز انطون مقدسي، الذي توفي إثر انهيار جبلي في المشروع، ويقول انهم تركوا سيارة الفقيد قرب البلدة، بانتظار من يبلغ اهله بالمصاب الجلل. وفي ذلك الخريف توفي جدي كوريال اودو في بغداد وحمل جثمانه الطاهر الى القوش ليوارى الثرى، وقد قطعنا الطريق انا وابن خالتي حميد على خالنا عزيز عند خروجه من المدرسة في مبنى مار ميخا، لنذهب الى بيت خالتي جميلة، ولكنه لم يرضى وشكك في الامر حتى قال هل توفي عمي( كانوا يلقبون والدهم عمي) ، بكاه الجميع خصوصا امي التي توشحت السواد حتى وانا اتناول المناولة الاولى في الربيع التالي لم تغير ملابسها.
في صيف 1962 هاجر بعض اهالي قرية شيزي الى القوش بسبب احداث الشمال وقد سكن بيتنا العم كوكا وزوجته مسكو، تشاء الصدف ان يتزوج ابنهم داود في بيتنا من فتاة القوشية اسمها حليمة يونس وردة، لقد ابدعت شقيقاته سرمه، وارينه، كاترينه في الاغاني والالحان التي كانت تؤديانها، كانوا يمتلكون بندقية برنو ولكنهم باعوها بمبلغ 150 دينارا الى بيت المختار اسحق زرا. وبعد عقد من السنين تقريبا، تشاء الصدف ان تخطب ابنتهم وارينة من الشاب فوزي جبو زرا، فودعت العروس من بيتنا.
في ذلك العام اشتدت الاحداث في كردستان، وبدأت حملات الاعتقالات فتصاعدت وتيرة الفردية في نهج الزعيم، فانخفضت شعبيته مقابل المهداوي حاكم محكمة الشعب الشهيرة، عندما زارتنا ابنة عمي بتول عبد المسيح دمان، كانت تقول لنا بالسريانية" مهداوي بدارخ لأيداثه وعبد الكريم ﭙﭼيكخ صُباثه" ما معناه" مهداوي نضعه على الأكف وعبد الكريم نغرزه بالأصابع" في تلك السنوات من ايام الجمهورية انتشرت بين الناس مقولة( الحرية) واسيئ استخدامها في بعض الاحيان، وفي القوش كانت الناس تسال بعضها هذا السؤال الغريب" كهيمالوخ" اي هل مهتم فياتي الجواب " لا يا بوي" ، حتى حورها البعض فيما بعد للسخرية بالقول" لا ينبوع".
في الخامس الابتدائي وقع انقلاب 8 شباط، فاعتقل غالبية المعلمين وابدلت صورة الزعيم المحبوب عبد الكريم قاسم بصورة عبد السلام عارف، وكذلك تغير نشيد الصباح من( موطني) الى( بلاد العرب) الذي يبدأ هكذا:
بلاد العرب اوطان..... من الشام لبغدان
ومن نجد الى يمن..... الى مصر فتطوان
في تلك السنة حفظنا قصيدة ايليا ابو ماضي:
أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا
لولا شعور الناس كانوا كالدمى
أحبب فيغدو الكوخ قصرا نيراً
وأبغض فيمسي الكون سجنا مظلماً
وكذلك قرأ لنا المعلم جرجيس زرا قصة( سليمان والهدهد) التي مطلعها:
وقف الهدهد في باب سليمان بذلة
قال يا مولاي كل عيشتي صارت مملة
ضقت من حبة بر احدثت في الصدر غلة
لا مياه النيل ترويها ولا امواه دجلة
في السادس الابتدائي اعجبتني قصيدة بعنوان تنبهوا واستفيقوا فحفظتها:
تنبهوا واستفيقوا ايها العرب
قد طمى الخطب حتى غاصت الركب
الله أكبر ما هذا المنام فقد
شكاكم المهد واشتاقتكم الترب
بعد انقلاب 8 شباط الدموي تركت الكثير من الناس اعمالها ووظائفها، وهربت الى الجبال هكذا كان حال والدي، فاصبح مسلحا في وادي دير الربان هرمزد لفترة قصيرة، ضاقت بنا الحال وكانت والدتي لا ترغب بهذه المسالة، لارتباطها بحاجة الاطفال الى مصاريف الاكل والمدارس، في احدى المرات ارسلت امي بيدي الطعام الى الوالد، وعند وصولي الى باب كلي الدير، سألت عنه فقالوا عند الصخرة الابعد قليلا، فارتقيت بسرعة واذا الوالد حاضن بندقيته وقد غطى في نوم عميق، فقلت له قم يا بابا لتناول الطعام، فقام وصاح بوجهي " لماذا تأخرت فانا جائع بشدة: فنقلت الكلام الذي لقنتني اياه والدتي بالحرف" وماذا تعمل هنا، هل تحرث أرضاً " وبالسريانية( ميوت مخايه بمارا) ضاق كثيرا من كلامي وطردني، فوليت هاربا الى البيت، وفي مرة ثانية عند الصهريج ايضا كانت تحيط الوالد مجموعة من المقاتلين، فقلت تفضل يا والدي للغذاء، فقال: قدم اولاً الغذاء لاستاذك، فتمعنت في وجه احدهم، فاذا هو معلمي في مدرسة العزة الاستاذ عابد جمعة، فقلت له: كيفك يا استاذ؟ فقال: يا نبيل لم اعد استاذا اليوم، وانما نصير في الحركة الوطنية، فزاد احترامي له كثيراً، ومن الذين التقيتهم ايضا نوري حبيب سورو الطالب في كلية التربية- بغداد وقد اطلق العنان للحيته الشقراء ان تطول كثيراً، والتقيت ايضا بصباح توماس الطالب في ثانوية القوش، وبأحد اقربائي الملتحق من بغداد وهو متي من بيت متايه( ابونا) وغيرهم.