نالت المسيحية أروعَ شهادة في تاريخ البشرية عبر رسالة الإيمان المتميّزة في سمات " السلام والمحبة والتسامح" وفضائل إنسانية سامية غيرها ممّا بشر ونادى بها مؤسسُها المسيح "يسوع" ابن الله، الذي حلَّ بيننا "مخلّصًا للعالم". فهذا ما تعنيه كلمة "يسوع" أو "يشوع" وليس "عيسى" في رسالة الدين المسيحي الذي يحتفل العالم أجمع في هذه الأيام المباركة بذكرى مولده العجائبي من البتول، "مريم العذراء" التي قبلت بالتكليف الرباني بقوة الروح القدس الذي ظلّلَها حين بشارتها من الملاك جبرائيل مرسلاً من الله كي تكون "أمًّا لهذا الإله المتجسّد بشرًا" قبل أكثر من ألفي عام. فبحسب الإنجيل المقدس، وكما رواه الإنجيليان "لوقا ومتى"، أنه في زمن أوغسطس قيصر الذي كان أمرَ باكتتاب جميع أبناء الشعب في ولايته، صعد يوسف ومريم ليُكتتبا في مدينتهما "بيت لحم" ضمن إحصاءٍ عام في الامبراطورية الرومانية. وإذ لم يجدا مأوى في نزلٍ أو بيت، قصدا مغارة متواضعة في ضيعة تابعة للمدينة حيث وُلد "المسيح" بين حيوانات حرصت على تدفئته وسط برد الشتاء القارس آنذاك. وكما يقول الكتاب: "الثورُ والحمار عرفا ربهما، وأمّا إسرائيل فلمْ تعرفه".
لستُ هنا بصدد نقل تفاصيل رواية الميلاد العجيب للمسيح ابن الله الحي القدوس، "الكلمة الذي كان منذ البدء" وهو الله، وهو "الروح" الحي الذي سكن بيننا مثل إنسان بطبيعته البشرية، كما ورثناها حسب العقيدة المسيحية مبنيًا على إيمان الرسل الأوائل. لكني سأسرد ما قاله ويقوله البشر منذ الأزمان ولغاية الساعة عن قصة هذا الطفل المولود في مغارة متواضعة، وعن رسالته الخلاصية، وعن أسلوب وأخلاقيات وحياة أتباعه، وعن الدروس والعبر التي استقاها ومازال الناس يرتوون منها في سائر المسكونة مؤمنين به مخلّصًا للعالم ورسولاً للسلام والمحبة والرحمة متميزًا عن غيره من سابق الرسل والأنبياء، داعيًا البشر جميعًا إلى معايشة هذه الدروس والعبر وفي كيفية نقلها وتطبيقها في الحياة اليومية مع جزيل الاحترام لأتباع سائر الأديان والعقائد والرسالات الأخرى في العالم. إلاّ أنه ثمّة سماتٌ يتميّز بها أتباعُه ويحرصُ الصادقون والمؤمنون الحقيقيون منهم للالتزام بها وتطبيقها في حياتهم اليومية عن قناعة و"إيمان" مستوحى من العقل الراجح وليس بشكل مظاهر فحسب. فما تعلَّمه أتباعُ المسيح (المسيحيون) من مسيرته ورسالته الخلاصية طيلة فترة تبشيره لثلاث سنوات بين الشعب اليهودي الذي لم يتقبله في بداية رسالته ولاسيّما رؤساؤهم وزعماؤُهم، فهذه جميعًا تبقى محلّ تقدير واحترام في تقييم وتقويم الآراء والأفكار والمفاهيم والرؤى سعيًا لحياة أفضل لبني البشر جميعًا. فبولادة المسيح في المغارة يكون العالم كلُّه قد وُلد من جديد. بل بحسب السرديات والأوصاف والصفات التي أتى بها الملوك والعلماء والأدباء والمثقفون والشعراء وأصحاب الفكر والفلسفة والرأي بحق هذا المولود، الربّ ابن الله المتجسّد، يكون قد أسرَ قلوب الكثيرين ودعا غيرهم إلى حسن السيرة والسلوك والاقتداء بكلّ عملٍ صالح. وهل أجمل ممّا نطق به أميرُ الشعراء أحمد شوقي حين التغنّي بمولد "الرفق والنور والهدى والمروءات والحياء يوم مولده"!
سماتٌ مشهودة للعالم
لستُ هنا، أدّعي النطقَ أو تسجيلَ ما سأسردُه باسمي وبتوقيعي ما يوصفُ به أتباعُ هذه الديانة عن قناعة إيمانية من صفات وخلال وسمات مسيحية صادقة يمتازون أو يوسمون بها. بل قد يجد الشيءَ الكثير من هذه ومن غيرها مَن يعاشرُ أو يجاورُ أتباعَ هذه الجماعة المسالمة ومَن يتمنى السكنى وسطهم لهذه السمة ولغيرها الكثير. كما يستطيعُ أيُّ قارئٍ عاقل أومتابعٍ متفاعلٍ مع مختلف وسائل الاتصال الاجتماعي والإعلام المتيسرة في هذا الزمن المتشابك، الخاصة منها والعامة، أن يشهدَ على الشيء الكثير من هذه السمات ويقارنها مع تعاليم سيدهم "المسيح" وحواريّيه المقرَّبين. وأترك الحكم للقارئ لقراءتها بتأنٍّ وجدّية وتمحيصها والاقتداء بما يراه متطابقًا مع المشروع السماوي الهادف لتنقية الفكر البشري من أدران الخطأ والخطيئة وقطع دابر الضغينة والحقد والكراهية من العقول والأفكار المتخلفة لدى فئاتٍ أعمتها أدلجةُ الديانات والمذاهب من التي تنكرُ بل لا تؤمن بعدالة السماء كما وضعها الخالق. بل ثمّةَ جماعاتٌ لا يسرّهُا ولا ترضى لغيرها أن ينال جزءً من حصتِه في جنان السماء الفردوسية التي وعدَ بها الخالق خليقتَه جزاءَ السيرة الحسنة والحياة الصالحة المتاحة للعيش وفقها عند جميع البشر بدون استثناء أو تمييز لفئة أو دين أو جماعة أو أمّة على غيرها. فمهما كان الاختلاف في وجهات النظر وفي العقيدة وفي فلسفة الحياة وفي الدين، تبقى السيرة الصالحة التي ترضي الرب الخالق وتسرُّ عبادَه هي الفيصل في نيل سعادة السماء ورضا الخالق وخليقته وحجز المكانة التي يستحقها بحسب أعماله في الفردوس السماوي. وكلّ ما سوى من هذه وغيرها من المكاسب الدنيوية، زائلة وفانية وما "يتبقى منها سوى الأحاديثُ والذكرُ". أمّا البقاء الأفضل، فسيكون من حظّ المدعوّين الحقيقيين إلى السماء الموعودة وللمؤمنين الصادقين بالملكوت السماوي، الجميل في أركانه، وبجنان الخُلد الوارفة في ظلالها، من خلال عيش حياة هادئة حافلة بطيبة القلب وفي السيرة الصالحة لمَن يستحقّ "الطوبى التي أطلقها المسيح في حياته على الجبل" وصارت طريقًا وشريعة وقانونًا لأتباعه ومعهم لكلّ العالم المستنير والمستعين بهذه السمات الإنسانية من جميع الأديان والأمم والشعوب والمجتمعات.
حمامات سلام ورحمة ومحبة
ليس غريبًا أن يستغرب العقلاء والحكماء والمستنيرون من أيّ دين أو معتقد أو مجتمع، من مبلغ المحبة والرحمة والتسامح وفضائل أخرى تتميّز بها المجتمعات المسيحية في كلّ بقاع العالم، ليس جزافًا بل عن حق وعقيدة إيمانية عميقة وكأنهم من "عجينة" مختلفة عن سائر المجتمعات والأديان. فهذه جميعًا من تعاليم المسيح ومن أخلاقياته التي كشفها وعاشها طيلة حياته منذ ولادته حتى صلبه وقيامته وصعوده إلى السماء بحسب العقيدة المسيحية. فقد بشرَ بكونه "الطريق والحق والحياة"، وبملكوت السماء لمَن يسلك هذه الطريق الوعرة. عاش المسيحُ متخذًا صورة إنسان في حياته على الأرض، وهو "الربّ وابن الله"، يبشر الفقراء ويسقي العطاش ويشبع الجائعين ويشفي المرضى ويعزّي الحزانى ويكيل المديح للمساكين بالروح والودعاء ويقيم الموتى ويمنح الطوبى لفاعلي الخير والساعين إلى السلام والصلاح والبرّ. وحادثة التطويبات على الجبل خير شاهدٍ على واقع الحال. رفعَ شعار السلام والمحبة والغفران إزاء الأعداء ومضطهدي أتباعه ومعيّريهم والساعين إلى إيذائهم في كلّ زمان ومكانٍ داعيًا إلى مقابلة الشرّ بالخير، ورافضًا مبدأ "العينُ بالعين والسنٌّ بالسنّ". وضعَ مواصفات صعبة لأتباعِه الحقيقيين وأجادَ حين وصفَهم ب"ملح الأرض" و"الخميرة الصالحة" في تأثيرهم في الوسط الذي يعيشون فيه من خلال الوداعة والتواضع ومحبة الغير وحسن السيرة. كما وصفهم ب"نور العالم" الذي ينير في الظلمة ويرشدُ الآخرين إلى طريق الحق والحياة من خلال المثل الصالح والصدق في التعامل مع الغير والالتزام بالأعمال الصالحة. التزمَ الشريعة اليهودية بحذافيرها ودعا إلى الصلاة والصوم تقرّبًا لملكوت السماء، وأصلح المكسورَ والخاطئَ في تعاليمها مؤكدًا أنه "جاءَ ليكمّلَها لا لينقضَها"عبر تعاليمه الصارمة مناقضًا ومنتقدًا رياءَ رؤساء الكهنة والفرّيسيّين والعشّارين ومنكرًا عليهم نفاقَهم حين طردَ الباعة والتجار من الهيكل لأنهم "جعلوا من بيت أبيه بيتًا للتجارة والدعارة". لم يحمل سلاحًا ولا سيفًا في نشر رسالته الخلاصية، وحتى حينما رفع "بطرس" كبيرُ تلاميذه سيفَه ليقطع أذنَ أحد عبيد رئيس الكهنة أثناء تسليمِه من قبل يهوذا الخائن، قال له "يسوع": أرجع سيفَك إلى غمده" مذكِّرًا إياه بالحكمة القديمة القائلة: "إن الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون"، أي ما معناهُ أنّ الانتقام يولد الانتقام.
في أحاديث المسيح، نجدُ دعوات صادقة للسلم الأهلي والمجتمعي عبر التسامح ونشر المحبة والفضيلة بين الناس والمجتمعات ونبذ كلّ أشكال التمييز والعنف والقتل والحقد والضغينة والعداء والتنمّر والاستخفاف والاستهزاء في عالم مقلقٍ وفي زمنٍ صعب نعيشُه ونشهدُه جميعًا في هذه الأيام. وهذا ما يحتاجُه عالمُنا اليوم للتعايش مع بعضنا البعض في ظلّ تعاليم ربّ "السلام" وتطبيقاتها وسطَ مجتمعات لا تجيدُ كيفية عيشها أو تجهلُ بعضَها، ولاسيّما في سمة "المحبة" التي لا وجودَ لمفردتها في كتب ومعتقدات ومناهج عقائد وأديان أخرى تتعايشُ معها. وهذه من أكبر الحقائق على الأرض، بل من السلوكيات والتصرفات التي تدلّ على كون أيٍّ شخص يرفع شعارَ "المحبة والتسامح والغفران والسلام وغيرها من الفضائل الإنسانية السامية" هو حقًا من أتباع المسيحية أو من المتأثرين بالإيمان المسيحي الصحيح. فالمسيحي الحقيقي لا يعرف الرياء والنفاق ولا القتل والاغتصاب. وهو عندما يصلّي أو يصومُ مثلاً، إنّما يصلّي ويصومُ لله وليس لكي يظهر أمام الناس ويتباهى بعلامات تدلّ على الدجل والنفاق وتثير الاشمئزاز من المدى الفارغ لهذا الفعل كما في حالة "الفرّيسيّ المنافق المتزلّف والعشار الخاطئ التائب" التي يذكرها الإنجيلي لوقا في الفصل 18 من إنجيله. والمسيحي بطبيعته إنسانٌ مسالمٌ وصانعُ سلام وطالبُ وئام، صبور، وديع، يجهدُ نفسَه لفعل الخير والعمل الصالح، يقدّس قلبَه ويطهّرُ عقلَه ويصون عينَه ويلتزمُ عملَه ويؤدي واجبَه أينما كان بكل إخلاص ورغبة ونية صافية. ليس محبًا للجشع ولا طمّاعًا، بل يحرصُ في سلوكياته على تجنّب الخطأ والضرر لغيره. وهو حين يُخطئُ يستوجب منه الاعتراف بخطيئته كي تُغفرَ له ولا يكرّرها. لا يغتصب ملكَ غيرِه ولا يشتهي امراةَ جاره، يسعى لضمان الخلاص له ولأهلِه وأحبائه وأقربائه وأصدقائه. وهو أيضًا محبٌّ للناس بلا مراءاة ولا نفاق ولا كذب. والأكثر من هذا وذاك له مواقف وطنية ثابتة في الأمانة لبلدِه ووطنه والوفاء لرؤسائه وسادته بداعي الاحترام والتقدير والإجلال. وإن سعى إلى السلطة والجاه ففي حدود جدارته وكفاءته واستحقاقه الوطني عندما يكون الدستور والقوانين سيّدة الواقع والشارع في دولة تجيد وتحترم وتطبق المساواة والعدل والحق. أمّا مَن خرجَ عن هذه الوصايا والتعاليم، فليسَ من تلاميذ المسيح الحقيقيين ولا من أتباعه. جازى الله جميع المؤمنين والبشر الطيبين الصادقين من خليقته وجعلَنا من المرنّمين مع ملائكة السماء يوم مولده:"المجدُ لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، وفي الناس الرجاء الصالح لبني البشر".
عيد ميلاد سعيد، وكلّ عام والعراقُ وشعبُه بخير وأمان، والعالمُ يسودُه السلام والمحبة والوئام. فلتتوقّفْ طبولُ الحرب وتسكتْ أصواتُ المدافع وتصمتْ زمجرات الطائرات والمسيّرات وتتراجع كلّ اشكال العداوات وكلمات الحقد الأسود. فهذه رغبةُ وليدِ المغارة المتواضع وإرادة أبناء النور والسلام والمحبة وليس أبناء الظلمة والحقد والكراهية!