الجزء الثاني والأخير-
يد الإعمار على قدمٍ وساق، ولكن!
بعد تحرير البلدة وعموم قصبات وقرى سهل نينوى في عام 2017م إثر اجتياحها من قبل تنظيم الدولة الإسلام عام 2014م، عاد البعض من سكان هذه البلدة مثل غيرهم، لكنهم مازالوا ينتظرون المزيد من الاستقرار والطمأنينية بالرغم ممّا لاقته من دعم خارجي ملحوظ في إعادة ترميم ما دمّره التنظيم وسلب الممتلكات وحرق الدور والكنائس والمساكن ونهبها بأبشع الطرق. أمّا دورُ الحكومة في تعويض المتضررين، فقد كان مخجلاً حقًا ولا يرتقي إلى مستوى الدمار الذي تعرّضت له هذه البلدة وموقعُها وناسُها الطيبون مثل نظيراتها في عموم سهل نينوى. ولعلَّ ما منحها هي والبلدات والقرى المحيطة بها وعموم العراقيين الطيبين شيئًا من الأمل والرجاء بغدٍ أفضل، تلك الزيارة التي تقدّست وتباركت بها مدينة الموصل وبلدة بغديدا- قره قوش بالذات في عام 2021، عندما زارها بابا الفاتيكان "فرنسيس" والتي تُعدُّ أول زيارة لحبرٍ روماني في التاريخ لم تحظى بها نينوى والعراق من قبل. ومذ ذاك، ويدُ الإعمار بدأت همتَّها في عموم المحافظة ولم تهدأ لغاية الساعة، حيث حظيت بلدة "بغديدا" بقسطٍ طيبٍ منه في إعادة البنية التحتية وتطوير الأحياء المهملة فيها من التي تأثرت بفعل التدمير الهائل الذي طالها مثل غيرها من بلدات نينوى على يد تنظيم الدولة الإسلامية المدمّر الحاقد. كما أنّ يدَ الإعمار هذه بدت واضحة مؤخرًا في ترميم وشقّ ورصف الشوارع وسط الأحياء القديمة والجديدة التي كانت محرومة أصلاً منذ سنوات. وهذا حصل ويحصل بهمّة الإدارة السابقة للمحافظة والحالية التي أولت أهمية خاصة لهذه البلدة لتميّزها في الكثير من المهام والسلوكيات والاستعدادات وطريقة العيش بسبب واقعها الديمغرافي والديني الذي يشير بكونها البلدة السريانية المسيحية الأكثر عددًا وتحضّرًا وتمدّنًا من غيرها في عموم البلاد. كما تبدو جهود الإدارة المحلية في القضاء واضحةً في إبراز حاجة البلدة والقرى المحيط بها إلى جميع الخدمات البلدية الغائبة منذ فترة طويلة والتي تفتقر إليها جميعًا بحجة النقص الكبير في الكادر الخدمي الذي يعاني منه قضاء الحمدانية تحديدًا. وهذه دعوة صارخة من مواطني القضاء إلى الجهات المعنية في الحكومة العراقية والوزارات وإدارة المحافظة ومجلسها والوجهاء والجهات الحزبية التي تهيمن عليه وعموم المحافظة للالتفات لهذه الحاجة وسدّ النقص القائم بكادر هندسي وخدمي يليق بأهميته الطوبوغرافية والسياسية والدينية والإتنية. فماتزال المساحات العديدة المخصصة كحدائق عامة ومشروع الساقية القديمة تشكو الإهمال بسبب عدم اتخاذ ما يلزم لمتابعة هذه الخدمات ومنها مشروع المجاري المتلكّئ غير المعالَج لغاية الساعة بحجة النقص القائم في الكادر البلدي.
طوبوغرافية بلدة بغديدا
يبلغ تعداد سكان بغديدا/ قره قوش حاليًا ما يربو على 25 ألف نسمة إذا حسبنا أنّ نسبةً متقاربةً لهم قد غادروها إلى بلدان الشتات، وربّما من غير رجعة. وبالرغم من الألم الذي تركه مَن هجروا أرض الاباء والأجداد، إلاّ أنّ الحنين إلى تراب البلدة وكنائسها وأزقتها ولهجتها السريانية يسكنُ في طيات أحاسيسهم كلّما تذكروا سالف الأيام. وهذا واضحٌ في عودة العديد منهم لزيارة مَن تبقى من الأهل وأفراد العائلة في المناسبات الدينية والكنسية وفي أوقات العطلات التي يحظى بها الكثيرون. أمّا التفكير في العودة إلى حضنها، فلا يزالُ غائبًا بل مشروعًا مؤجلاً في فكر وكيان وشعور غالبية الذين هجروها لأسبابٍ عديدة ومنها بطبيعة الحال حالة الفوضى السياسية في البلد منذ السقوط تحت دبابات الاحتلال الأمريكي الغاشم وبسبب سطوة أحزاب السلطة وميليشياتها وذيول الغزاة الجدد على مقدّرات البلاد، ما يدعو إلى النأي بهذه العودة لصعوبة التأقلم ثانيةً مع حالة عدم الاستقرار بسبب شكل المنظومة السياسية الفاشلة وعدم وضوح الرؤية الوطنية في حسابات الحكومات المتعاقبة وفشل هذه الأخيرة في فرض القانون الذي سطت عليه أحزاب السلطة وفق نهجها اللصوصي والطائفي والإتني والديني والمذهبي. فحالة التهميش ماتزالُ قائمة وباقية وواضحة وضوح الشمس، ما لا يسمح لحاملي سمة المواطنة الصادقة والمنادين بحرية الرأي والفكر والتعبير أن يعيشوا بسلام وطمأنينة وسط الفوضى السياسية الحالية. وطالما بقيت البلاد تُدار من منظومة سياسية تتخذ من المحاصصة هدفًا وسلوكًا وأداة للحكم الديني والطائفي والمذهبي بعيدًا عن سمة الانتماء الحقيقي للوطن وأهله الأصلاء، فلا فائدة مرجوة من العيش بكرامة في مثل هذا الوسط الفاسد الموغل في التعسّف واللصوصية ونهب ثروات البلاد وفق نهج تحاصصي تخادمي بين أحزاب السلطة التي تستقوي بميليشيات وعصابات ومافيات تحرص على إدامة حكم البلاد بهذه الأيدي القذرة وغير الوطنية ومن خارج الحدود.
أمّا فيما يخصّ الوضع السياسي في هذه البلدة، فهو ربما قد لا يختلف عن غيره ممّا يجري ويحصل في مدن وقرى تابعة لمحافظات أخرى أُبتليت في شكل إدارة الحكم تبعًا للجهة التي تسيطر على مقاليد الأمور وتتحكم في إدارة الموارد وتوجيه المشاريع وفق مصالح الأحزاب والكتل التي تتحكم في تلك المحافظة، تمامًا كما هي الحال في شكل أسلوب إدارة مختلف الوزارات في البلاد. ولعلّ ما يختلف في هذه البلدة من موجبات حلّ بعض إشكاليات السكن والمتعلقة بأصول وقواعد خصوصيات التسجيل العقاري، ما بقي مشكلةً قائمة منذ سنوات ولغاية الساعة بسبب هجمة شرسة من جهاتٍ متنفذة دخيلة على المجتمع الباغديدي - القره قوشي" تسعى لاختراق ممتلكات أهالي البلدة والتجاوز عل أراضيها بحجة التعايش السلمي والحرية في البيع والشراء المحظورة من قبل الرئاسات الدينية فيها والوجهاء والعقلاء من أهالي البلدة وسكانها الأصلاء. ونحن نعتقد أنَّ من حقّ أهالي البلدة عدم السماح لجهات دخيلة باختراق هذا المانع الذي يُعتبر جدار الصدّ بل من ضرورات المحافظة على ديمغرافية هذه البلدة المسيحية المتميّزة في كلّ شيء وعلى سائر خصوصياتها، في الدين واللغة والسلوك الاجتماعي والعادات والتراث والمناسبات وطريقة العيش المتمدّن المختلف تمامًا عن سائر بلدات وقصبات وقرى محافظة نينوى وسائر المحافظات العراقية الأخرى. ومَن تسنى له زيارة مركز قضاء الحمدانية (قره قوش- بغديدا)، سيشهد لهذا التميّز في كلّ جوانبه ويتمنى السكنى فيها بلا ريب. وهذا ما تسعى إليه جهات دخيلة على المجتمع الباغديدي- القره قوشي أن تصل إليه حثيثًا بكل قواها ونفوذها وأطماعها وسط معارضة أهالي البلدة بكلّ شدّة حفاظًا على هذه الخصوصية. وهذه دعوة للجهات المعنية في الدولة العراقية والحكومة والوزارات المقصودة باتخاذ خطوات سريعة وجادة لحلّ هذه الإشكالية بطرقٍ تشريعية توفيقية ضمن إدارات وحدود بلديات المناطق المجاورة لها باستحداث وحدات إدارية جديدة لحلّ المشكلة بغية عدم السماح بكسر هذه الرغبة الشديدة لأهالي البلدة التي تُعتبر أكبر تجمّع مسيحيّ في العراق له خصوصياتُه ومحظوراتُه ودوافعُه المسيحية والوطنية للحفاظ على كيانه ووجوده وضمان بقائه صلبًا ومقاوِمًا لأية تجاوزات بحقّه وإنهاء هذا الملفّ الشائك في تثبيت حقّ مواطني البلدة حفاظًا على شكل هذه الخصوصية. فهُم ومَن تبقى من أمثالهم من مسيحيّي العراق كانوا ومازالوا ملحَ أرضه الخصبة. وفي غيابهم وتناقصهم سيكون العراق هو الخاسر الأكبر!
في الختام أقول، لمزيدٍ من الحرص والرغبة والحق في الحفاظ على خصوصيات جميع البلدات المتميزة في سهل نينوى ومنها بلدة "بغديدا" خاصةً، دينيًا وإتنيًا واجتماعيًا، أدعو ساسة البلاد وزعماء الأحزاب المعنيين للتخفيف عن ضغوطاتهم غير المبرّرة لصالح استقرار مجتمع هذه البلدة العراقية المسيحية المتميزة ومثلها ما يعودُ لسائر المجتمعات النظيرة الأخرى في محافظة نينوى بخصوصياتها جميعًا وصيانة حرية ناسها في اختيار ممثليهم في الدولة ومؤسساتها وفقًا للكفاءة والجدارة والعلمية في الإدارة والسلطة وليس وفق فروضات مصلحية وحزبية ضيقة. كما أدعو الحكومة ومجلس النواب وكلّ مَن له ضمير وطنيّ حيّ وشعور إنساني أن يُنصفوا أهالي ضحايا فاجعة "قاعة الموت" البالغ عددهم 134 شخصًا والتي تصادف هذه الأيام ذكراها السنوية الأولى في 26 أيلول 2023، وذلك احترامًا لأحبائهم وفلذات الأكباد الذين فقدوهم في غفلةٍ من الزمن القاسي بسبب أوجه الإهمال والتغاضي والتجاهل من أطرافٍ عديدة، وذلك كزءٍ من مواساة أهالي البلدة وتعزيز ثقتهم بغدٍ وطنيّ أفضل وحقوق عادلة في ظلّ المساواة والعدالة الاجتماعية دون تمييز. فمهما كانت النوايا والخفايا خلف كواليس تلك المأساة الإنسانية ومهما حصل بشأنها وحولها من جدلٍ بصددها، إلاّ أنّ الحياة لا تتوقف بل تستمرُ في ظلّ نعمة النسيان التي أنعم بها الخالق على خليقته البشرية الضعيفة. وبأخذ هذه جميعًا في الحسبان وبنظر الاعتبار تقييمًا وتقويمًا، ستكون جميع الأطراف محلَّ تقدير واحترام وكرامة في أوساط هذه المجتمعات وسادتها ورجال دينها من العقلاء فيهم من أولئك المطلوب منهم بالمقابل أيضًا مزيدًا من الاستعداد في التعاون مع الجهات الإدارية الحاكمة مهما اختلفت الآراء وتنوعت التوجهات دون تقاطع المصالح العليا لصالح المجتمع الباغديدي المسيحي والنينوي بعمومه. ففي المحبة وباستغلال الحكمة ووجود الرغبة في الحوار والنقاش العلمي والمنطقي والتسامح والتنازل عن المطامع الضيقة تكمن حريةُ المواطنة الصحيحة وتختلط هذه مع رغبة الحاكم العادل والإداري الناجح الذي لن تحكمه حينها سوى المصلحة العليا للوطن والمدينة وناسها وأهلها الأصلاء.
لويس إقليمس
بغداد، في 14 أيلول 2024