مع انتخاب مار لويس ساكو رئيس أساقفة كركوك بطريركاً جديداً على كرسي بابل للكلدان، استبشر المؤمنون خيراً لكنيستهم، لما يحمله المنتخب من مؤهلات وصفات تجعله قائداً ناجحاً لمسيرة الكنيسة الكلدانية في هذه المرحلة المصيرية من تاريخها.
ففي القرن الماضي وبداية القرن الحالي أصاب الكنيسة الكثير من النكبات والويلات، بسبب مجريات الأحداث في المنطقة. فأثر ذلك سلباً على حضورها، وأضعف تواجدها في مناطقها التاريخية، حتى لم يبق لها أثر في العديد من المراكز. وبسبب نزيف الهجرة تشكلت مراكز جديدة في أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندا.
ولم يمضِ على تنصيب غبطته شهرين حتى لمسنا من خلال العديد من القرارات والتوصيات، أن غبطته ماضٍ بخطوات ثابتة وجريئة نحو تحقيق مضمون شعاره البطريركي " أصالة _ تجديد _ وحدة ".
وفجأة انصبت السهام نحو غبطته من خلال العديد من المقالات المنشورة هنا وهناك، مثيرة بعض القضايا العالقة سابقاً، والتي لم يتمكن البطريرك المستقيل المثلث الرحمات مار عمانوئيل الثالث دلي الكلي الطوبى وسينودسه الكريم من حلها. فقضية المطران مار باواي سورو السامي الاحترام ليست وليدة اليوم، بل مضى عليها سنوات عديدة وبقيت كما يقول المثل الشعبي " لا معلق ولا مطلق ". وهذه القضية خلقت حالة عدم ثقة بين الكنيستين الشقيقتين الكلدانية والآشورية، وقد دفعت الكنيسة الكلدانية ثمن ذلك احتضان الكنيسة الآشورية للعديد من الكهنة الكلدان اللذين اختلفوا مع بطريركهم وأساقفتهم. فهل من الحكمة السير في خطوات انتقامية، لا أحد يعلم بنتائجها وانعكاساتها مستقبلاً ؟.
فالكنيسة مؤسسة إلهية لها قوانينها التي تحدد بشفافية رسالتها على الأرض، بعيداً عن روح العشائرية والأنانية. ورأس الكنيسة ملزم تحت طائلة المسؤولية أمام الله والبشر في السير بأمانة نحو تحقيق الأهداف السامية والنبيلة لما فيه مجد الله وخلاص النفوس. وعلينا أن نعي أن انجراف رعاتنا وكهنتنا نحو السياسة ودهاليزها يهدد رسالتها الروحية، لتتحول من حيث لا ندري إلى مؤسسة زمنية ليس إلا.
والحملة المغرضة التي تشن على مقام البطريرك الجديد تؤكد بما لا شك فيه، أن هناك تيار من أبناء الكنيسة في المغتربات يعمل جاهداً لتحويل الكنيسة إلى مؤسسة قومية، أو منظمة حزبية أو ما شابه ذلك. وهنا يكمن الخطر عندما ينجرف رعاتنا وكهنتنا بما يملكون من طاقات لاحتضان هكذا تيارات، غاضين الطرف عن رسالتهم الحقيقية وهي رعاية النفوس.
أما أسلوب التشكيك والتخوين بعضنا لبعض فهو دلالة ضعف وتشرذم، وبالنهاية تقهقر وانهيار، وقد تجلى ذلك من خلال بعض المقالات البعيدة عن أسلوب اللياقة واللباقة، والمثال على ذلك واضح من المقال الذي نشر على موقع كلدايا نت تحت عنوان ( شيء عن زيارة الباطريرك روفائيل ساكو إلى أستراليا ). وهنا أتسأل ما هو العيب إذا رفع الكاهن الحافة الأمامية لبدلة البطريرك كي لا يدوس عليها ويتعثر. وهل هذه الملاحظة هامة وخطيرة تستدعي هذا الغيور على كنيسته ليكتب عنها ويرسلها للموقع المذكور والذي نشرها دون تردد، وكأن صاحب الغبطة ارتكب خطيئة مميتة لا سمح الله. وعلى شاكلة هذه المقالة نشر الموقع المذكور عدة مقالات هدفها الإساءة لمقام البطريرك، والعمل على إحباطه، كي يفشل في تحقيق طموحاته في إعادة الحياة إلى كنيستنا الجريحة، والتي انهكت حيويتها تجاوزات تجار الهيكل.
وهنا لا بد من السؤال أين كان هؤلاء الغيارى في المرحلة السابقة لترأس البطريرك ساكو رئاسة الكنيسة الكلدانية من كتاباتهم عن فترة الانحطاط واللامبالاة التي اضعفت رئاسة الكنيسة، وأدخلتها في غيبوبة عميقة، وتحولت مراكزها إلى إمارات متبعثره هنا وهناك، كلٌ يغني على هواه. حتى طبق عليها المثل الشعبي: " كل من إيدو إلو "، وأضحى مركز البطريركية اسم من دون فعل. وتحولت العديد من الأبرشيات إلى كانتونات مستقلة لا علاقة لها بسلطة البطريركية.
فراعي الأبرشية يعتبر أبرشيته ملكاً خاص له، يفعل ما يحلو له متناسياً قانون الكنيسة وتراتبية المراكز فيها. حتى أنه في الأبرشية الواحدة كل رعية يتصرف كاهنها بما يروق له، غير مبالٍ بأن هناك سلطة لا بد أن يسير وفق توجيهاتها، وقوانين لا بد أن يحتكم لها. فهو الكاهن والمحاسب وأمين الصندوق والمسؤول عن الأوقاف والبائع والشاري، ولا يحق لكائن من كان أن يتدخل في شؤون رعيته، لأنه هو الوحيد الأمين والصادق والمتفاني. أما ما يحمله أبناء رعيته من مؤهلات فلا قيمة لها البتة، عليهم السمع الطاعة والسكوت فقط لا غير، والقانون الكنسي لا يخولهم أي مهام تذكر. وإذا ما انتقده أحدهم على تصرفاته، فيحوله فوراً إلى متمرد وعاصي على سلطة الكنيسة، ويحرك زمرة من الفاسدين المستفيدين الذين تحولوا إلى أبواق له، ليوجهوا سهامهم نحو من اعترض، ليكبحوا جماحه ويلتزم بالصمت.
إن حالة التشرذم والفوضى التي عمت الكنيسة، بسبب ضعف الرئاسات السابقة، أدت إلى وهن شديد انهك مسيرتها ورسالتها. فالكاهن يترك رعيته دون أذن من مطرانه، والراهب يغادر ديره دون علم رئيسه. فنذر الطاعة أضحى في مهب الريح، وكأن لا وجود له في قوانين الكنيسة. يبدو من ذلك أن لا تنشئة حقيقية لطالب الكهنوت أو الرهبنة، بحيث أصبح هذا السر المقدس مهنة، وليس دعوة ورسالة كما عهدناه.
ويبدو أن كهنتنا الأفاضل لم يأخذوا العبر من سير آباء كنيستنا عبر التاريخ، والذين في زمن المحن والصعوبات، أبوا وبإصرار إلا أن يبقوا إلى جانب القطيع، مهما كلفهم ذلك من ثمن. وما أكثر هؤلاء الرعاة الصالحين الذين بذلوا أنفسهم عن خرافهم. وهنا أذكر على سبيل المثال لا الحصر المطران الشهيد أدي شير مطران أبرشية سعرت الكلدانية، والذي ترك مقر أبرشيته في ربيع سنة 1915 خلال مذابح السفر برلك، بعد أن تحمل مشقات التهديد والوعيد خلال استجوابه من قبل السلطات العثمانية، وعانى آلام وأوجاع رعيته وهي تساق إلى الذبح والقتل. ولما وجد فرصة سانحة لترك مقر الأبرشية بعد أن فرغت المدينة من أبنائها، ذهب إلى جبال البوتان التي لجأ إليها العديد من أبناء أبرشيته، الذين أفلتوا من سيف القتل، مختبئين في المغاور والكهوف لحين انتهاء العاصفة الهوجاء. وهناك التقى بصديقه عثمان أغا طنزي، والذي عرض عليه أن يهرب به إلى مدينة الموصل عبر الجبال بمواكبة رجاله المسلحين، ليفلت من الموت المحتوم. رفض المطران عرض صديقه شاكراً محبته ووفاءه، مبرراً ومؤكداً بأن واجبه يقضي أن يكون بجانب القطيع المذعور من الذئاب البشرية المتوحشة، يبحث عنهم ليعضدهم ويثبتهم على الإيمان والرجاء. وبقي المطران شير إلى جانب أبنائه متنقلاً بين المغاور والكهوف، مؤدياً رسالته السامية التي كرس نفسه من أجلها، حتى تم القبض عليه وأعدم رمياً بالرصاص. هذا غيض من فيض من تضحيات الرعاة الصالحين عبر التاريخ.
وبسبب تجاوزات وانتهاكات القوانين الكنسية من قبل رجال كرسوا أنفسهم للخدمة، هب صاحب الغبطة وبالتعاون مع سينودس الأساقفة الأجلاء ليضع النقاط على الحروف، وينطلق بمسيرة الإصلاح التي ينتظرها أبناء الكنيسة من زمنٍ بعيد. ليعيد لكنيستنا وجهها المشرق، والذي كاد أن يغيب جماله البهي، ليتحول إلى جثة هامدة.
ولم يتصرف غبطته بشكل اعتباطي ومتسرع كما يعتقد البعض، بل أصدر العديد من الرسائل التوجيهية والمقالات القيمة، والتي عبر من خلالها ما يجب أن يقوم به لترتيب البيت الكلداني، وإزالة الخلل الذي أصابه فيما مضى. وبروح أبوية مفعمة بالمحبة والشفافية، طلب من الجميع التعاون والعمل معاً لتحقيق الأهداف السامية والنبيلة، لتعود كنيستنا الجريحة والمتألمة كوكباً منيراً في سماء الكنيسة الجامعة.
فلمصلحة من توضع العصي في عجلة البطريرك الجديد ؟. أليس من واجبنا كأبناء غيارى أن نلبي دعوة غبطته، ونسمع صوته الصارخ في البرية الكلدانية، لنقدم له العون كلٌ حسب مواهبه وإمكانياته، لتتحقق الأهداف السامية التي نصبو إليها جميعاً، وتعود كنيستنا المنحدرة نحو التصحر والجفاف، إلى حديقة مزهوة الجمال، يفوح منها عبق الورود وأريج الرياحين. أللهم احفظ كنيستك من الشرير واعوانه.