تتطلب مواجهة الصعوبات والتحديات الكبيرة أمام بلدنا اليوم من العاملين في الحقل السياسي كافة، وعلى اختلاف الوانهم، وقفة جادة متمعنة فاحصة. وقفة لن ينفع معها امران: الأول هو الادعاء غير المستند الى وقائع وحقائق ميدانية ملموسة، عندما يجري تكرار القول ان بلدنا ينعم الان، كما لم يكن في كل الأوقات الماضية، بالامن والأمان والاستقرار. وان العراقي بدأ يشعر بالبحبوحة، خاصة بعد تضخم عديد من يستلمون مبالغ الرعاية الاجتماعية الزهيدة أصلا، وكأنها مكسب، في هروب واضح الى الامام من استحقاقات داهمة، لا تقبل التاجيل واللف والدوران.
والأمر الثاني هو استحضار الماضي ليس بهدف استخلاص العبر والدروس، لتكون زادا للتفاعل مع الحاضر بمعطياته الملموسة، وركيزة لإعمال العقل وإنقاذ البلد ووقف انحداره الى ما لا تحمد عقباه. فما يحصل هو استحضار يزيد الطين بلة، وهنا يدور الحديث تحديدا عن امرين ايضا.
وقبل الخوض في التفاصيل يتوجب القول، ان الظروف الراهنة في بلدنا تشير بجلاء الى صعوبة بقاء حكم البلاد وتسيير امورها على وفق المنهج الفاشل والمعاول الهدامة. ففي كل يوم ينجلي امامنا المزيد من الحقائق، التي تقول بصوت صارخ ان وقف الانحدار نحو الهاوية ينبغي ان يكون هاجس كل الوطنيين الاقحاح والمواطنين الذين يعيشون المأساة كل يوم، ويتطلعون الى حياة افضل. فالتغيير الحقيقي الذي يستهدف المنهج أولا، هو حاجة وطنية عراقية بدءا وانتهاءً، حتى وان دخلت عليه عوامل مستجدة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
واذا عدنا الى استحضار الماضي، فارتباطا بعملية التغيير يخطئ كثيرا من يعود الآن الى التعويل على قوى خارجية، في احداث التغيير المنشود والمرتجى. أيا كانت عناوينها ومقارباتها ، فما زلنا نعيش تداعيات ما حصل في نيسان ٢٠٠٣ ، والتي فاقمتها قوى عراقية استمرأت المحاصصة المكوناتية، وداست على المواطنة العراقية، ونهبت المال العام، وقدمت مصالحها الانانية على مصالح الوطن والشعب. وان الحال الراهن لا يتوقف عن تقديم البراهين، على مدى ضرر وخطر التعويل على الخارج. والأخطر عندما يكون هناك انبطاح محلي يتساوق معه، وكما حصل في مرات عدة سابقة، ويحصل الان.
هذا هو الدرس الذي يتوجب ان يكون حاضرا، ولكن لا يبدو انه مستوعب من جانب كثيرين. ففي هذه الأيام يعود أيضا التعويل واشاعة الاوهام حول دور البعث، وتلميع رموزه وتقديمه بصورة المنقذ من سوء الأحوال القائم، فيما هي أيضا فيها الكثير الكثير من " بركاته ". وان سجل هذا الحزب، خاصة بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ المجيدة، حافل بما يفرض على كل انسان سوي، ان يدين جرائمه المرتكبة، لاسيما في العراق. وهي تبقى في جميع الأحوال مدعاة للازدراء والاحتقار، وليس للتباهي والافتخار بها وبفاعليها. فكيف يكون اغتيال الوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين مدعاة للفخر؟ وحتى وان كان ذلك من باب استحضار الماضي، حيث يفترض ان تتقدم العبر والدروس المستخلصة ، وان تستل الأمثلة من التاريخ بما يعزز الصفوف، لا بما يفرّقها في هذا الظرف المحتدم، الذي يستلزم تلاقي كل الأصوات الحريصة فعلا على انقاذ البلاد.
ان المساهمة الجادة في الخلاص من واقعنا الراهن، تفرض بدءا التخلي عن أي نهج لا يحترم حق الانسان في الحياة والحرية والكرامة، ولا حقّ الشعب في خياراته الحرة، بعيدا عن اية ضغوط واكراه: سياسية او دينية او طائفية او عشائرية او مناطقية، او في ظل قعقعة السلاح، وان تكون هناك قناعة تامة بان الأوطان لا تبنى وفقا لمنهج القتل واضفاء الشرعية عليه، أيا كان شكله ولونه، والاقصاء أيا كان مصدره. كما لن تقوم لبلدنا قائمة الا بالعقول المنفتحة المستوعبة للتاريخ ودروسه، بعيدا عن روح التسلط والاستئثار والهيمنة والاحتكار وتنميط حياة المواطنين ومصادرة ارادتهم الحرة.
وكلا.. لكل من يريد ان يظل بلدنا حقل تجارب، تدفع الناس فواتيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة "طريق الشعب" ص2
الاحد 23/ 2/ 2025