الرسالة البطريركيّة لقداسة البطريرك مار آوا الثالث، لمناسبة رأس السنة الآشوريّة الجديدة 6774      الثقافة السريانية وفرقة شمشا للتمثيل يحتفيان بيوم المسرح العالمي- عنكاوا      سوق خيري‏ بمناسبة عيد القيامة المجيد - عنكاوا      تخرج دفعة جديدة من طلبة كلية نصيبين اللاهوتية المسيحية الاشورية في سيدني      الثقافة السريانية تهنئ المسرحيين السريان بيومهم العالمي      القداس الالهي بعيد بشارة العذراء مريم بالحبل الالهي‏ - كنيسة ام النور في عنكاوا      البطريركية الكلدانية تلغي المظاهر الخارجية للاحتفال بعيد القيامة      بمشاركة مدير قسم الدراسة السريانية في تربية البصرة .. وفد مشترك يقدم محاضرات توعوية وهدايا لطلبة المدارس      العيادة المتنقلة التابعة للمجلس الشعبي تزور قرية افزروك شنو      الرسالة البطريركيّة لقداسة البطريرك مار آوا الثالث لمناسبة العيد العظيم لقيامة ربّنا للعام 2024      ليس العمر.. ميسي يتحدث عن "العامل الحاسم" في اعتزاله      خبيرة ألمانية تدعو إلى الصيام عن البلاستيك      كلمة رئيس الوزراء مسرور بارزاني بشأن القرارات المُتخذة في اجتماع مجلس الوزراء      الكهرباء العراقية تعتزم شراء غاز حقل كورمور بإقليم كوردستان      الخارجية الروسية: أنشطة "الناتو" في شرق أوروبا والبحر الأسود تهدف للاستعداد لمواجهة محتملة مع روسيا      الولايات المتحدة تعرض 10 ملايين دولار مكافأة مقابل معلومات عن "القطة السوداء"      العراق يتجه لحجب "تيك توك"      الاتحاد الاسباني يرفض تخفيف عقوبة تشافي      انفوجرافيك.. عيد القيامة والبيض الملون      توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي)
| مشاهدات : 818 | مشاركات: 0 | 2021-03-30 15:52:29 |

البابا غادرَ العراق والعراقيون باقون إخوة

لويس اقليمس

 

 

                غادر البابا فرنسيس بغدادَ صبيحة الاثنين 8 آذار 2021، مبتهجًا سعيدًا وصادقًا مع شعب العراق، عائدًا إلى دولة الفاتيكان بعد إمضاء أربعة أيام مباركة حافلة بلقاءات رسمية ودينية وشعبية، أجمع الجميعُ بأنّها كانت مثمرة. وقد توّجَها في كلّ محطة بلقاء شرائح من المجتمعات المسيحية في سلسلة صلوات وقداديس في مواقع تمّ انتقاؤُها لرمزيتها ودلالاتها والهدف من زيارتها. قد تكون هذه من أكثر الزيارات المتعبة والمنهكة جسديًا لرجلٍ مسنٍّ مثله، ولكنّها ربما تندرج ضمن حساباته الشخصية بكونها من أروع أيام حبريته، بل حياته. وهذا ما حدا به للتعبير عن عظم تقديره ومحبته لكلّ العراقيين، رسميّين ومدنيّين ورجال دين بكلّ أطيافهم وألوانهم، أينما حلَّ وارتحلَ. وقد أبى إلاّ أن يترك جزءً مؤثرًا من شخصه الرعويّ والأبويّ الكريم ومن روحه المُحبة الطيبة، عندما قالَ في القداس الذي أحياه في ملعب فرنسو الحريري في أربيل: "الآن، اقتربت لحظة العودة إلى روما. لكنّ العراق سيبقى دائماً معي وفي قلبي".

غادر البابا إذن، تاركًا جزءً من قلبه الحنون الرؤوف المتسامح الكريم الكبير في كلّ شيء، بين أيادي شعب بلاد الرافدين، مهد الحضارات ودار الثقافات بتلاوينها وتعدديتها وتقاليدها وإرثها. لقد سرّهُ وأسعدهُ كثيرًا أن يشبعَ نهمَه الإنساني من رائحة العراق الذكية الطيبة وناسِه الطيبين طيلة أيام زيارته الميمونة وأن يتلذّذ بأكلة بقلاوته الشهيرة بعدما أيقنَ استحقاق وصفِه بالحديقة الغنّاء وارفة الظلال التي من شأن قدراتها الفياضة الكامنة شمولَ كلّ أبناء مكوّنات العراق بلا تمييز وبالحق في العيش الحرّ المشترك وفق مبدأ "الأخوّة الإنسانية" التي اتخذها شعارًا ومحورًا في رحلته "جميعُكم إخوة"، تأكيدًا على ضرورة التعايش السلميّ الذي وحدَه كفيلٌ بالتأسيس لمجتمع متحضّر، آمنٍ، منفتح، متضامن، مستقرٍّ، متسامح، كريم في مفهوم احترام الاختلافات، مهما كانت في طبيعة الدين أو العرق أو الجنس، وذلك حفاظًا على رصانة البلاد والعباد وحمايتها من كلّ أشكال التمزّق والفرقة والعنف والاضطهاد والتمييز غير المبرّرة التي تهدم ولا تبني، تضرّ ولا تنفع، تمزّق ولا توحّد.   

غادر البابا، ولكنّ الكثيرين مصرّون على قطف ثمار هذه الزيارة التاريخية بالبقاء متجذّرين في أرض إبراهيم أبي الأديان والمؤمنين، أملاً بانتظار عودة مَن خرجَ مضطرًّا غير مُخيَّرٍ في ظروفٍ حتّمت عليه مغادرة البلاد قسرًا، بسبب ما عاناه من قهرٍ وظلمٍ وقسوة وتهميشٍ وتمييزٍ وتهجيرٍ وخسارة ممتلكات وأعزّاء للظروف الاستثنائية الظالمة التي نعرفُها. فقد ساهمت الحكومات "اللاوطنية" المتعاقبة بشيءٍ كثير من هذه الظروف الظالمة عندما أشاحت النظر عن حقائق صادمة عاشتها مجتمعاتُ المناطق المتضررة من سيطرة عصابات الإرهاب الداعشي عليها من دون الالتفات إلى حقها بإعادة ما جرى تدميرُه من بشرٍ وحجرٍ وثقافة وتراثٍ وممتلكات وإرث حضاريّ وتعويضُها بما يحتمُ عليه الواجب الوطني. بل جاءت مثيلاتُها من ميليشيات مدعومة من أحزاب السلطة وتحت غطائها الحمائي لتكملَ ذاتَ النهج في مواصلة سلسلة الإرهاب والعنف والترعيب، ولكن من طرازٍ جديد تمثّلَ بأشكالٍ "فانتازية" من التغيير الديمغرافي، لاسيّما في المناطق التي تشهد تاريخيًا لجذور الأقليات الدينية والعرقية في محافظات بشمال البلاد التي ما تزال تعاني من آثار الدمار والخراب التي شهدها البابا بأمّ عينه متحسّرًا ووصفها بالخسارة الفادحة. فقد تعمّدت جهاتٌ متسلطة عبر الحكومات المتعاقبة على إبقاء ذات النهج التمييزي في أشكال الإهمال والاستخفاف والتغاضي عمّا يحصل في مناطق تواجد الأقليات الدينية والعرقية في المناطق التي شهدت أقسى مراحل التهجير والنزوح والتهديد بالعَرض والأرض، ما ساهم بما لا يقبل الشكّ في المشاركة ضمنيًا بعملية منهجية مخطَّط لها بعناية من أجل استمرار الدفع بتغييب وتهجير ما أمكن من ابناء هذه المكونات الأصيلة وتواصل إبعاد أتباعِها عن الوطن وتمزيق نسيجهم المجتمعي والدفع بانسلاخهم قسرًا من مسقط الرأس والأهل والأحبة. فكان نصيبُهم طرقَ عتباتِ التهجير القسري والتشرّد في بلدان الاغتراب طلبًا للأمن والسلام وكفاف الخبز المضمون والاستقرار النفسي والعائلي بعد أن ماتت الضمائر وطغى صوت القتل والعنف واشتدت وطأة الفساد لتعمّ الإدارات الفاشلة للحكومات الهزيلة المتعاقبة منذ سقوط البلاد على أيدي الغازي الأمريكي الظالم وشلّة استقدمَها بغباء لكونها لم تفهم غيرَ لغة التخوين والانتقام ونهب الثروات والإثراء على حساب الوطن والشعب الصابر.

نظام اجتماعي بثقافة جديدة  

لم تشهد زيارة أي مسؤول في أية دولة في العالم في الزمن الحاضر، ما نالته زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق من حيث الاستقبال الرسمي والجماهيري وتفاصيل اللقاءات رفيعة المستوى وتعددّ المواقع الرمزية روحيًا وتراثيًا واجتماعيًا وتاريخيًا. فكلّ موقع وطأته قدماه، كان بدافع المشاركة الوجدانية الصميمية بغية إعطاء نفحة إرشادية مقصودة المعاني ودروسٍ مهمة لصالح إعادة بناء النسيج المجتمعي الوطني على أسس العدالة والمساواة ورفض التمييز بين المكوّنات على أسس دينية ومذهبية وعرقية، والتأكيد على الحق في الحياة الإنسانية وكسب القوت اليومي الشريف لكلّ المواطنين من منطلق كونِ الثرواتِ الوطنية ملكًا للجميع وليس للمتسلطين والحكام والفاسدين وأذنابهم وأتباعهم. فما تفوّه به أمام المسؤولين رسميًا أو الحضور شعبيًا، لم يجرؤ غيرُه لقوله، لكونه أخرجَه من صميم قلبه ومن بواطن روحه الإنسانية الطيبة التي حملت سلامًا وتفاؤلاً وأملاً ورجاءً بغدٍ أفضل للجميع ومن دون تفرقة. وحين لقاء القطبين الروحيين، قداسة البابا فرنسيس الفقير إلى الله مع نظيره المرجع الشيعي السيستاني الذي وصفه برجل الله وبالحكيم، سادت أجواء الوقار والألفة والتسامح لتكون نهجًا وطريقًا أمينًا لبناء الوطن عبر التأكيد على ضرورات العيش المشترك ضمن أجواء التسامح الديني المطلوب بين مختلف الأديان والطوائف، ما حدا بالرئيس العراقي لوصفه بلقاء "قمة الاعتدال والتسامح وخير منهجٍ في الوسطية والتحاور والتعايش". ولعلَّ هذا من أهمّ مفردات الرسائل التي حرص الطرفان على نقلها لعموم الشعب الجريح المظلوم الذي يعاني منذ ما يربو على ثمانية عشر عامًا من قهر نفرٍ من ساسة فاقدين للضمير والحياء طغوا بظلم سلوكياتهم غير الوطنية وغير الإنسانية على بني وطنهم بعدما تغوّلوا على سلطة الدولة وأفرغوها من محتواها الوطني الضامن لحقوق الجميع بحسب الدستور والقوانين والأعراف الإنسانية التي لا تقبل بظلم أو تهميش أو أذية أحد.  

لقد سرى مفهوم التسامح الديني الذي أرسى له لقاءُ الحبر الأعظم مع سماحة السيد السيستاني، ليكون خارطة طريق واضح ضمن أولويات ساسة البلاد، والذي بغيابه لا يمكن خلق مجتمعات متجانسة ومتعايشة بنظام سياسي عادلٍ يكفل حق الجميع بوطنٍ ذي هيبة وسيادة وعصمة تكون بيد الشعب وليس بأيدي الغرباء والدخلاء الذين ارتضوا أن يبيعوا أنفسهم ووطنهم وأهلَهم للغير من دول الجوار وولاتها الطامعين بأرض الوطن وثروات البلاد. ومن دواعي نجاح هذا اللقاء، أن ترنوَ نخبٌ وطنية وثقافية وسياسية مستقلّة رصينة باتجاه البحث عن عقد اجتماعي جديد ونظام سياسيّ مختلفٍ تمامًا عن الذي سلكته حكومات ما بعد الغزو الأمريكي المجحف بحق العراق وأهلِه، تمامًا كما أشار السيد رئيس جمهورية العراق في كلمته الترحيبية المؤثرة. ومن شأن مثل هذا النظام الجديد المرتقب الذي يُتوقع أن تُثمر عنه نفحاتُ التغيير المنتظر القادم عندما يصحو العراقيون ممّن مازالوا في غفوتهم ليدركوا مدى الكارثة التي أوقعتهم فيها زعامات السلطة الحاكمة وأحزابُها الفئوية في كلّ مرّة يقترب العراقيون فيها من موعد الانتخابات. فقد أجاد الساسة لعبتهم بجدارة وبمهارة خيّبت الآمال الوطنية في كلّ مرة، بالرغم من إدراك الكثير من ابناء الشعب العراقي مدى تغوّل الأحزاب الحاكمة بلا رحمة وإثراء معظمها على حساب الشعب والوطن وتفوّقها في أشكال الفساد والإفساد وفي كلّ ما تعجزُ عنه الألسن وتسرد له صفحاتُ الصحف وتصفه مواقع التواصل الاجتماعي وتتطرق له الفضائيات على اختلاف مسمياتها واتجاهاتها.

من هذا المنطلق عينه، أيقنت النخبُ والقطاعات المختلفة في البلاد، أن لا بديل إلاّ بتغيير العقلية وطبيعة الثقافة ونهج التفكير لتصبَّ جميعُها في خانة نظام سياسيّ مختلف النهج والرؤية وبعقد اجتماعيّ- سياسيّ جديد عبر الدعوة الناصحة والداعمة لمثل هذا التغيير الجذري في السلوك والآليات إيمانًا بقدرة الشعب على التجديد والتجدّد وانتشال البلاد والعباد من الوضع المزري الذي آلت إليه. وهذا ما ينتظرُه حقًا مَن تبقى من شرفاء الوطن الباحثين بفارغ الصبر والأمل عن وطنٍ مفقود، مرهونٍ بأيادي غير أهله. وتلكم من جملة النتائج المؤملة التي يمكن أن تلهمها الزيارة التاريخية لبابا السلام والتي ينتظر الجميع ثمارَها على أرض الواقع. ولعلَّ إعلان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، باعتبار يوم السادس من آذار من كلّ عام، يومًا للتعايش السلميّ في البلاد ودعوتَه لعقد حوار وطني بين جميع القوى العراقية لحل جميع المشاكل والصراعات بشكل جذري، تندرجُ ضمن بوادر هذه الإيجابيات وتبيان مفعولها.

في اعتقادي، ما حصل من تفاعلٍ كبير من جانب شرائح واسعة من مختلف المشارب والثقافات والأديان في المجتمع العراقي الباحث عن مفرّ آمنٍ وخروجٍ سلميّ من عنق الزجاجة الخانق الذي أوجدته زعامات السلطة ومَن سار على دربها المدمّر للمجتمع، هو الطريق الآمن الصحيح للتفكير ألف مرةّ ومرّة بتغيير السلوك في خيارات الحياة بعد إفسادها من أطراف الأحزاب الحاكمة وفق مبدأ المحاصصة وتقاسم الكعكة. وهي البداية الصحيحة للدعوة لتشكيل لوبيات مجتمعية والانخراط في تشكيلات سياسية جديدة لا تمتُّ بأية صلة لأحزاب السلطة الحالية وتفرّعاتها التدويرية لشخوصٍ تلبي وتكمل ذات الفكر الطائفي والنهج المحاصصاتي ولكن بوجوهٍ شبابية وأخرى لطيفة جاذبة تسعى لفتنة المواطن البسيط بعَسَل الكلام وجمال الوجه الحسن.

من هنا، جاءت جزئيات من رسالة البابا أيضًا، لتؤكدَ مضمون التغيير المطلوب في منظومة الحياة السياسية والاجتماعية للعراقيين باستلهام قدراتهم الكبيرة من أجل إنهاض البلاد من قساوة أحزاب السلطة بسبب ابتعاد هؤلاء عن مصلحة الوطن والشعب عندما تطرّقَ قداستُه إلى مسألة ضرورة "ترميم المجتمع والإنسان بالتزامن مع ترميم ما أصابَ المدن والبنى التحتية من دمار". لذا، وجبَ على ساسة البلاد أن يدركوا أنه عندما جاءَ البابا "حاجّأ تائبًا طالبًا شفاء الجراح وعزاء القلوب"، فإنّما تلك دعوة ملحة للتغيير التي تنتظر دعمًا ومساندة من المجتمع الدولي وأصحاب النوايا الحسنة والإرادات الطيبة في تغيير الفكر والعقل والرؤية والاستراتيجيات التي تبني وتعمّر وتُسعد البشر بدلًا من قساوة القلب وظلم الناس وهدر المال العام والسرقة واللصوصية والانتقام والتشبّث غير المبرّر بالسلطة وفرض الأجندات الدخيلة والغريبة على أهل الوطن وإدامة الشعور السلبيّ بالمظلومية الدائمة لفئات استأثرت بالسلطة حين اعتلت المشهد السياسي بدعمٍ من الغازي المحتلّ من غير استحقاق للكثير من شخوصها، لاسيّما القادمين على ظهور الدبابات الظالمة بالرغم من تجاوز هذه المرحلة السلبية منذ زمنٍ.

استثمار الزيارة

بعد الأيام الجميلة المعدودات من الفرح العام الغامر الذي ساد معظم أوساط المجتمع العراقي بزيارة بابا الفاتيكان، إلاّ من ذوي الإرادات السلبية الطاردة لنهج التسامح والعيش المشترك السليم بين إخوة الوطن، كان لا بدّ من البحث عن مخارج وطنية لاستثمار مفاعيل هذه الزيارة التاريخية بحقّ بالشكل الصحيح الذي يرسم الطريق لكسب ثمارها المرتقبة وبما يُؤمّنُ المصلحة العليا للوطن والشعب على السواء. هناك مَن رأى فيها مجاملة ومساندة للمشهد العراقي السياسي القائم من جانب أعلى رئاسة مسيحية كاثوليكية في العالم وفقًا لرؤىً مداركية قاصرة لا تأخذ في الحسبان جملة الرسائل التوبيخية المبطنة الموجهة للزعامات الكتلوية والحزبية والإسلامية والطائفية المتسلطة على رقاب الشعب منذ ما يربو على ثمانية عشر عامًا. وهذه الفئة القليلة المعترضة على الزيارة التي لم يتيسّر للحبر الأعظم اللقاء معها أو بالأحرى لم يسعفهُ برنامج الزيارة المنهك والمكثّف أن يملآَ فراغها ويكسب ودّها، لم تتعمّق جيّدًا في الأسباب والتبريرات الموجبة التي وقفت حائلاً دون قدرته على تلبية كافة الطلبات والتمنيات باللقاء. فقد وضع قداستُه في حسبانه ما اختلج أفكار هؤلاء وغيرهم ممّن منّوا النفس بتحقيق اللقاء أو المشاهدة عن قرب توثيقًا للذكرى. فمن الواضح، أنّ برنامجه المكثّف كادَ أن يرهقه بسبب سنّه المتقدّم ووضعه الصحّي غير السليم تمامًا. ومع كلّ هذا وذاك، فقد حافظ على ابتسامته الراعوية وحسن تفاعله مع المستقبلين بكلّ جوارحه، معربًا في كلّ لقاء وحدث وموقع عن عظيم امتنانه لشعب الحضارات والثقافات الذي لا يستحق مثل هذه المعاملة السيئة وأشكال أدوات الاستخفاف من قادته السياسيين الذين تراكضوا نحو مصالحهم الشخصية والفئوية والطائفية الضيقة تاركين الشعب غارقًا في ويلات الأزمات والحروب المتلاحقة منذ عقود. ومَن يتمحص في كلمات وعباراتٍ ساقها قداستُه في مجمل لقاءاته، يرى فيها تباشير خيرٍ قادمٍ للشعب المظلوم في قليل الأشهر القادمة بما يخصّ إعمار ما جرى تدميرُه في مدن العراق من دون تمييز. وهذا من ضمن الوسائل الكفيلة في إيجاد رؤية وطنية شاملة لاستثمار دروس الزيارة بجذب انتباه المجتمع الدولي نحو إعمار ما دمّرته الحروب المتعاقبة على العراق وبخاصّة ما فعلته عصابات الإرهاب الداعشي طيلة فترة احتلاله لبلدات ومدن عانت من عنفه وبطشه وتدميره ونهبه وتعنيفه وقتله وسبيه واغتصابه وتهجيره لشرائح كثيرة بسبب فقدان الأمان والحياة الكريمة.

إنّ ما شخّصته عيناه من آثار الدمار الشامل في مدينة الموصل التي خصّها بصلاة أبوية وسط الأنقاض، كفيلٌ بالإشادة بما قام به هذا الشيخ الثمانينيّ وهو يتأملُ ويتفكّرُ ويعيدُ في مخيلته تلك المشاهد المرعبة التي عاشها أهل المدينة، ومثلُهم أهلُ العراق بعموم تلاوينه الدينية والقومية. ومن أروع ما شهدته عيناه ذلك العرس العفويّ الذي ترافق مع هلاهل النساء والرقص التقليدي وكلمات الترحيب من أهل بلدة قرقوش بأطراف الموصل والتي تمثل أكبر تجمّع مسيحي سريانيّ في العراق، حين اشاد البابا فرنسيس بدور المرأة العراقية التي خصّها بسلام خاص وتحية حارة نظرًا لدورها الرائد في بناء الأسرة والعمل مع الرجل في إعادة ترميم ما دمّرته أيادي العنف والتشدّد والانتقام. لقد هاله حقًا، ما شاهد من أعمال التدمير الوحشيّ في كنائس وجوامع ومساجد ومعابد هذه البلدة ومساكن أهلها المسالمين الآمنين، معبّرًا في ذات الوقت عن دهشته لسرعة الاستجابة لأعمال الترميم القائمة بفضل مساعدات المنظمات الدولية والكنسية المختلفة من دون أن تحظى بأية لفتة "تعويضية" من جانب السلطات الحاكمة لغاية الساعة. وفي اعتقادي، سوف تزيد جهات دولية من اهتمامها بشؤون العراق بعد هذه الزيارة التي يمكن عدُّها لفتة وفرصة استثمارية يمكن للحكومة والجهات الرسمية والشعبية استغلالها لصالح البلاد والعباد بالتفاعل مع الجهات الدولية المستعدة للمساعدة والمساهمة في إعادة بناء الإنسان العراقي وبلد الحضارات وبلداته المدمّرة التي تنتظر فعاليات كبرى لإعادة التأهيل والبناء واسترجاع اللحمة المجتمعية. ولعلَّ ما يسرُّ أكثر، تفاعل رؤساء دول وزعامات دينية مختلفة مع أجواء الزيارة الإيجابية ودروسها الكثيرة التي تُنبئ بانتظار حصول نقطة تحوّل حقيقية في المنظومة السياسية في هذا البلد وفي عموم دول الشرق الأوسط التي تعاني من أزمات مستفحلة ومتلاحقة نالت قسطًا وافرًا من عدم الاستقرار والفوضى والفساد وأوجه الظلم.

كما أنه من اللطيف جدّا، أن تتواصل صفحاتُ الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات لأيامٍ وما تزال لغاية الساعة، بتطرقها إلى تفاصيل الزيارة ومضامينها ومفاهيمها والمخرجات المتوقعة منها عبر تقارير موقعية ومتابعات جريئة مع شرائح مختلفة في المجتمع العراقي وخارجه، وذلك لاستبيان أهمية الزيارة والنظر بكيفية استثمارها على الكثير من الأصعدة، ومنها بطبيعة الحال كيفية إصلاح النظرة الخاطئة للبعض ممّن يصرُّ على الشذوذ الفكري والمجتمعي لعدم اعترافهم بصحّة "أخوّة بني البشر" بعضهم للبعض. وتبقى مقولة الإمام علي من أروع العبارات:" الناس صنفان، إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق". فهذه ما تزالُ ترنُّ في أذهان البشر الأسوياء، ومنها اقترانُها بشعار البابا الذي رفعه في زيارته. وهذا جديرٌ بترك أدران الماضي المليء بالترّهات والأقاويل التي لم تعد تنفع مع تطوّر العصر وتقدم العلم وأدواته. لذا كان لا بدّ أن يدرك الجميع بأن أفضل وسيلة لتقدّم المجتمعات والأمم تكمن بخلق بيئة إنسانية يتشارك فيها جميع ذوي الإرادات الصالحة كي تنعم مجتمعاتهم على اختلاف أديانها وقومياتها وأعراقها وأجناسها بما يتناغم مع ما يجمعها من مشتركات جامعة وليس بما يفرّقها في حسن تلاقيها وتعارفها وتآزرها وتضامنها بدل صراعاتها وحروبها وانتقاماتها غير المبرّرة. فالجميع إخوة ضمن خيمة "الأخوّة الإنسانية" التي دعا إليها بابا الفاتيكان في الوثيقة التي وقّعها مع شيخ الأزهر في 2019. وما يزال صدى هذه الوثيقة شاهدًا على ضرورة آليات التغيير القائمة في عقلية التداول وأساليب الاعتدال والتسامح التي أعقبت التوقيع عليها. ومن شأن نشر هذه السمة الجليلة في وسط الناس والمجتمعات أن تسهم بما لا يقبل الشكّ بوضع حدود لكلّ أشكال التمزّق والانقسام في المواقف الوطنية التي لا تقبل الجدل طلبًا لحياة أفضل واستقرار دائمٍ يكفل الحياة الشريفة والآمنة لكل المواطنين، والانطلاقة من مثل هذا الاستقرار نحو وضع الآليات والبرامج الوطنية من أجل جذب السياحة واستثمار ما هو قائم من شواهد حضارية ومواقع آثارية تجمع الديانات التوحيدية الثلاث، كما حصل في أور مدينة أبي الديانات إبراهيم. فالشعوب المنفتحة على العالم والتي تجيد كيفية استغلال طاقاتها البشرية وكنوزها التراثية والحضارية والآثارية هي تلك التي تعرف أهمية السياحة التي يمكن أن تدرَّ ثروات إيجابية مضافة تعزّزُ من اقتصاد البلاد في تنويع وجذب الاستثمارات التي تخلق فرصًا للعمل وتمتص اشكال البطالة القائمة في كلّ مكان وموقع.

إيذانٌ بالتغيير

في الأخير نقول، مع انفتاح البلاد نحو القوى الإقليمية والدولية، ننتظر وبحرص شديد انعكاس هذه الزيارة على كلّ أشكال الحياة في بلاد الرافدين. فنحن ننتظرُ تفاعلاً جادًّا بين أبناء الوطن الواحد من منطلق الانطباع الإيجابي الذي تركته بصمات هذه الزيارة التاريخية التي نأمل أن تكون بابًا واسعًا نحو استقرار العراق السياسي وعودة اللحمة المجتمعية التي حاول وما زال يحاول البعض من الشواذ ومن المرتبطين خارج الأسوار أحيانًا أن يضعوا العراقيل باتجاه إصلاح ذات البين وما تركته سياسة أحزاب السلطة بوسائلها التدميرية بسبب نهجها التحاصصي المرفوض شعبيًا ونخبويًا. وهذا يتطلبُ من جميع الوطنيين والحريصين على إعادة لحمة النسيج المجتمعي الأصيل كي يستثمروا جهود بابا الفاتيكان ونصائح المرجعية الحكيمة لجذب أنظار العالم واستقدام المساعدات الدولية الضرورية بإعادة البناء الوطني والمجتمعي على السواء. وهذا لن يكون ممكنًا، إلاّ في حالة حصول تطورات وتغييرات جذرية في شكل ونهج المنظومة الاجتماعية والسياسية القائمة بفعل أنانية وفساد الأحزاب المتسلطة منذ 2003 وسط تفرّج وضحك دول الجوار والعالم على هزالة الإدارات السياسية المتعاقبة وفقدان الإرادة الوطنية بالتغيير الضروري وعجزها عن الخروج من براثن العقلية الرخيصة المتمثلة بالخيانة للوطن وأهله وبالطائفية والانتقام ولا تريد الإقرار بسمة المحبة والتسامح التي تفوق في مفعولها مبدأَ القتل والسلب والاغتصاب والسرقة وتنكر فيما تنكر أيَّ احترام للاختلافات العرقية والدينية والجنسية والثقافية والحضارية التي يمكن أن تشكل غنى وثروة للبلاد وأهلها في وجه اية متاهات أو أطماع لشواذٍ من الداخل ودول الجوار والعالم.

كلّ التقدير والاحترام لكلّ مَن ساهمَ في إنجاح هذه الزيارة التاريخية وسعى لأجل تحقيقها بالرغم من كلّ المنغصات والعراقيل والتغريدات التشويهية التي سعى البعض لوضعها أو بثّها. لكنّ رجاء العراقيين وأدعيتهم ودعواتهم لم تخبْ، بل أفلحت وستفلحُ رغمًا عن أصحاب النوايا السيئة. ونحن جميعًا بانتظار نتائجها الإيجابية، باقون في أرض الآباء والأجداد لنعيد إرثهم ونجدّد حضارتهم ونؤيّدَ تمازج الثقافات المتعددة بفسيفسائها الجميلة وفق رؤى متجددة إيجابية لمعاني الأخوّة المتنوعة، وإنْ تكن حالمة في بعض جزئياتها.

 










أربيل - عنكاوا

  • موقع القناة:
    www.ishtartv.com
  • البريد الألكتروني: web@ishtartv.com
  • لارسال مقالاتكم و ارائكم: article@ishtartv.com
  • لعرض صوركم: photo@ishtartv.com
  • هاتف الموقع: 009647516234401
  • رقم الموقع: 07517864154
  • رقم إدارة القناة: 07504155979
  • البريد الألكتروني للإدارة:
    info@ishtartv.com
  • البريد الألكتروني الخاص بالموقع:
    article@ishtartv.com
جميع الحقوق محفوظة لقناة عشتار الفضائية © 2007 - 2024
Developed by: Bilind Hirori
تم إنشاء هذه الصفحة في 0.5959 ثانية