منذ اللحظة التي انطلقت فيها صافرة الدعاية الانتخابية، بدت بغداد وكأنها تُساق إلى معرضٍ فوضويٍّ للصور واللافتات، لا يخضع لذوقٍ عام ولا لحدودٍ جمالية، في أيامٍ قليلة فقط، اكتست الشوارع والجسور والدوّارات بألوانٍ متنافرة، وأسماءٍ وشعاراتٍ تتشابه حتى لتكاد تظن أن المرشحين نسخوا بعضهم بعضاً.
لم تعد العاصمة تشبه نفسها، فوجهها الذي كان يفيض بالحياة والذاكرة صار مغطى بطبقاتٍ من الورق والبلاستيك والابتسامات المصطنعة، صورٌ معلّقة على الأعمدة وأخرى تتدلّى من الجسور، وكأن المدينة تحولت إلى لوحة إعلان ضخمة بلا روح، تُخفي خلفها تعب الأرصفة ووجع الطرقات المزدحمة.
إنّ ما نراه ليس مشهداً انتخابياً عابراً، بل هو مرآةٌ لحالةٍ أعمق من الفوضى؛ فوضى في الذوق، وفي الوعي، وفي الإحساس بالمسؤولية تجاه المكان العام، إذ لا أحد من هؤلاء الذين يتسابقون على نيل الأصوات يفكر بأن بغداد ليست جداراً أبيض يعلّق عليه صورته، بل كيانٌ حيّ له تاريخٌ وعراقة وجمالٌ يستحق الاحترام.
في زمنٍ ما، كانت بغداد تُضاهي باريس في أناقتها، وتنافس القاهرة في ثقافتها، وتزهو بحدائقها وجسورها، حتى غدت مضرب المثل في الرقيّ والمدنية، واليوم حين تمرّ في شوارعها، تشعر وكأنها تُعاني من ازدحامٍ بصريٍ مؤلم؛ فكل زاوية فيها تصرخ: "أنا مختنقة من الصور!"
الغريب أن كل مرشح يدّعي أنه يريد "خدمة بغداد"، لكنه يبدأ طريقه بتشويه ملامحها أليس من يخدم المدينة هو من يحافظ على نظافتها، على ترتيبها، على وجهها الجميل؟ أليس من الاحترام أن تكون الدعاية الانتخابية منضبطة، لا تُهين البصر ولا تُلوّث الذاكرة؟
في كل دورة انتخابية، تُعاد المشاهد ذاتها: صورٌ تبتسم على الأرصفة، ووعودٌ تتدلّى من الجدران، وبعد أن تنتهي الانتخابات، تبقى بقايا اللافتات ممزقةً ومتسخةً في الشوارع، شاهدةً على زمنٍ من الوعود العابرة، لا يختلف عن سابقه إلا في الألوان والأسماء.
إنّ المدن لا تُقاس بعدد شعاراتها، بل بما تحتفظ به من جمالٍ ونظامٍ ووعيٍ جمعيّ وبغداد، هذه المدينة التي أنهكتها الحروب والإهمال، تستحق من أبنائها ومرشحيها شيئاً من الوفاء، أن يُعيدوا إليها أناقتها المفقودة، وأن يدركوا أن حبّ الوطن لا يُعبَّر عنه بالملصقات، بل بالفعل، بالنزاهة، وبإحساسٍ راقٍ بالمسؤولية تجاه المكان الذي يجمعنا جميعا.
ربما كان أجمل ما يمكن أن يُعلَّق في شوارع بغداد ليس صورة مرشحٍ يبتسم بملء وجهه، بل لوحة تقول: "احترموا مدينتكم .. فهي مرآة وجوهكم."