الحس الإنساني في سلوكية الزعيم عبدالكريم قاسم

 

كُتِبَ الكثير عن الزعيم الراحل و ( الأوحد ) عبدالكريم قاسم منذ طفولتهِ ومروراً بنشأتهِ وإنخراطهِ في سلك الجندية كضابط في الجيش العراقي وتخطيطهُ لثورة الرابع عشر من تموز الخالدة بمشاركة الضباط الاحرار وإنتهاءاً بتكتل الوحدويين القوميين العرب مع الاسلاميين الذين أطاحوا بهِ ، وطريقة مسائلتهِ السريعة في دار الاذاعة والتلفزيون ومن ثمَ تنفيذ حكم الإعدام بهِ بالطريقة التي سيبقى الشعب العراقي يتذكرها بالالم والإستهجان .

وقد تطرق الكثير من الكُتّاب والسياسيين الى جوانب مهمة ورئيسية عن حياة الزعيم الراحل ولكن القليل ( بالمعنى النسبي ) تطرق الى الإحساس الإنساني العالي في سلوك الزعيم ، فهو صاحب المقولة الشهيرة عفاالله عمّا سلف والتي أدّت بهِ الى النهاية المأساوية ومن ثمَ تداعيات هذهِ النهاية على مُجمل مستقبل العراق ولحد كتابة هذهِ السطور .

لقد قرأتُ وشاهدتُ وأستمعتُ الى العديد من الكُتب والمقالات واللقاءات لشخصيات وطنية وسياسية عراقية ذات ميول وإنتماءات متضاددة ومتقاطعة ، لكنهم جميعاً يُجمعون على نزاهة و وطنية وأدب وحسن سلوك عبدالكريم قاسم ولعلّ ما كُتِبَ عنهُ في إضبارتهِ الشخصية في العهد الملكي خير دليل على صدق وحيادية ما قيلَ عنه ، حيثُ جاءَ فيها بالنص :

( إنهُ محبوب من أقرانهِ وأثبتَ جدارة وكفاءة في كافة المناصب التي شغلها ومُنِحَ نوط الخدمة الفعلية عام 1935 ونوط الشجاعة عام 1945 ووسام الرافدين من الدرجة الرابعة ومن النوع العسكري عام 1953 ونوط الشرطة الممتاز عام 1957 ) .

كذلك موقفهُ من مقتل العائلة المالكة وخاصة مقتل الملك فيصل الثاني وما شيع عنها من أنهُ كان مُخطَطاً لها من قِبَل ضباط الثورة ، إذ تضاربت الآراء حول ذلك ، حيثُ جاء في شهادة المؤرخ حسن العلوي في برنامج بين زمنيين من ان ( عبدالكريم قاسم جاء بعد يومين من الثورة الى بيتِ اخيهِ حامد مع وصفي طاهر مرافقه الخاص ، فسألتهُ زوجة أخيهِ لماذا قتلتم هذا الولد الصغير ـ ـ ما ذنبه ؟ !! فلم يرد عليها الزعيم وإنما أكتفى بالسكوت ) . كذلك شهادة محسن الرفيعي مدير الاستخبارات العسكرية في إحدى الفترات في عهد عبدالكريم قاسم ، حيثُ يضع اللوم على تسرع النقيب عبدالستار العبوسي في إطلاق النار على العائلة المالكة وهذا ما أيـّدهُ التقرير الذي رفعهُ النقيب عبدالستار العبوسي لعبدالكريم قاسم والذي يعترف فيهِ بأنهُ بدأ بإطلاق النار على العائلة المالكة بإندفاع شخصي منهُ ، كذلك شهادة إبن أخيهِ طالب حامد قاسم حيثُ قال :

( جاء عبدالكريم قاسم حوالي الساعة الخامسة عصراً من يوم السادس عشر من تموز 1958 الى بيت العائلة في العباسية فقالت لهُ والدتي لماذا قتلتم هذا الولد الصغير فدمعت عينيهِ وقال لها أنا تأثرتُ جداً لمقتلهِ ) .

 

وقد قُدّرَ لي أن التقي يوماً في بيت أحد الأصدقاء مع أحد ( أصدقاء ) الزعيم ، وكان صديق الزعيم هذا في وقتها طفلاً صغيراً من ذوي الاحتياجات الخاصة ، حيثُ انه مصاباً بمرض متلازمة داون ( كان يسمى سابقاً بالمنغولي قبل أن يكتشف الأطباء لاحقاً ان لا علاقةَ لهُ بالعرق الأصفر، وانهُ مرض ناتج عن خطأ كروموسومي يحدثُ خللاً في المخ والجهاز العصبي بشكل جزئي ومتباين ) .

وكان وليد وهذا هو إسمه يتأثر كثيراً عند ذكر اسم عبدالكريم قاسم أمامه ، فيذهب الى صورة للعذراء مريم معلّقة على الحائط ويبدأ بالصلاة على روح الزعيم والدموع تنهمر من عينيهِ !!! ، فتأثرتُ وتعجبتُ كثيراً لتأثُرهِ الشديد بمقتل الزعيم ما لبثَ ان زال هذا التعجب حين عَلِمتُ بان أهل وليد كانوا يسكنون في بيت مقابل ( لقصر ) رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم في منطقة ( شعبية ) وهي البتاويين والذي كان قد إستأجرهُ من الدولة !! ، حيثُ كان الزعيم يرسلُ الشرطي ( الوحيد ) الى بيت وليد ليدعوهُ الى مشاركتهِ في قطف ثِمار شجرة السدر ( النبق أو النبك ) المجاورة أو الداخلة الى محيط الباحة الامامية للدار ، ثُمّ يقومان بجمع الثِمار سويةً ويضعانها في ( الطاسة ) ، حيثُ يقوم الزعيم بغسلها من صنبور المياه ( الحنفية ) ويقول لصديقهِ وليد ـ ـ ـ نحنُ الأثنين إشتركنا في قطف وجمع ثِمار النبق فلنتقاسمها قسمة الاصدقاء وعندها يذهب وليد فرحاً راكضاً الى والدتهِ والطاسة بيديهِ .

 

كذلك شاءت الصدف أن أعمل مع أحد أبناء الذين أعدموا في أم الطبول ليصبح صديقاً لي فيما بعد وخلال فترة صداقتي وعملي معهُ والتي دامت لسنوات عديدة لم أسمع منهُ حتى كلمة واحدة تُسئ لعبدالكريم قاسم ( على أعتبار ان عبدالكريم قاسم هو الذي وقّع أمر إعدام والده ) ، حتى اننا كنّا في احدى المرّات في زيارة للمكتبة ووقع بيدي كتاب ( شهداء أم الطبول ووصاياهم ) ، فتصفحتُ الكتاب لتقع عينيّ على الوصية التي تركها والده لوالدتهِ ، فالتفتُ اليهِ وبتردد باغتهُ بالقول ـ ـ ـ هل سبقَ لك وقرأت وصية والدك ؟ فاجابني باندهاش بالنفي ـ ـ فناولتهُ الكتاب وكنتُ خلالها أراقب رد فعله فقرأ الوصية بهدوء واعاد الكتاب لي دون أن يصدر منهُ أي تعليق في زمن كان يعتبر سب وشتم عبدالكريم قاسم من الفضائل !! وسألتهُ ألا يرغب في الاحتفاظ بالكتاب ، فأجابني بنفس الهدوء بالنفي !! .

وهذهِ شهادة أخرى من أحد أقطاب الوطنيين العراقيين وهو مسعود البارزاني ، حيثُ يقول في كتاب البارزاني والحركة التحررية الكردية :

(لم أكرهُ عبدالكريم قاسم أبداً حتى عندما أرسلَ أسراب طائراتهِ لتقصفنا ، إذ كُنتُ أمتلك قناعة بانه قدمَ كثيراً لنا كشعب وكأُسرة ، لايتحمل لوحدهِ مسؤولية ما آلت اليهِ الأُمور ـ ـ ولا زُلتُ أعتقد انه أفضل من حَكَمَ العراق حتى الآن ) .

 

كذلك لم يُسجَّلْ عليهِ بتاتاً أية حادثة تُشيرُ الى ميلهِ الى طائفة أو دين حتى دينه على حساب بقية أطياف الشعب العراقي ، خاصة وإن العائلة العراقية الكبيرة حينها كانت بحق تُسمى موزائيك الشعب العراقي ففيها العربي والكردي والكلدوالاشوري السرياني والتركماني والصابئي واليزيدي والارمني والشبكي والمسلم والمسيحي واليهودي ، حيث كان ينظر اليهم جميعاً بعينٍ واحدةٍ ومعظمهم كانوا يبادلونهُ المحبة وبدون تحفظ حتى الذين تضرروا بطريقة أو بأخرى أيام فترة حُكمهِ .

 وما سُجِّلَ عليهِ على إنهُ كان دكتاتوراً فلي في هذا رأيي الشخصي حيثُ إنني أتحفظ على هذهِ الكلمة ، إذ أن أهم ميّزة من مميزات الدكتاتور هي محاولتهِ الدفاع عن كرسيه حتى وإن كلفه ذلك حياة الآف المواطنين وهذا ما لم يفعلهُ عبدالكريم قاسم بل على العكس ، فلو سمحَ لمحبيهِ بالدفاعِ عنهُ لتغيرت كثير من نتائج تلك المحاولة التي أطاحت بهِ . غيرَ إنهُ ربما إنفرد باتخاذ بعض القرارات وذلك لحُبهِ لوطنهِ وعدم ثقتهِ بمن حوله حيثُ لم يكُن محسوباً على اي حزب أو مجموعة ، إضافة لثقتهِ بذكاءه وبنفسهِ وإدراكهِ بان لهُ تصور صحيح وحُلم جميل يريد تحقيقهُ لشعبهِ ووطنهِ .

والحق يُقال فقد وضع الأُسس الصحيحة لصناعة عراقية مُتقدمة جداً في فترة حُكم مُضطرِبة وقصيرة ، كما ان فترة حُكمهِ أمتازت بتشريع أهم وأجرأ القوانين ( قانون رقم 80 لتأميم النفط ، قانون الأحوال الشخصية ، قانون الإصلاح الزراعي والقضاء على الإقطاع ، مُحاولتهِ سَن دستور علماني وهذا ما نفتقد اليه الآن ـ ـ الخ ) .

 

رحمَ الله الزعيم الأوحد بحق وكل الذين قتلوا من أجل حُبهم لوطنهم العراق ، حيثُ أننا الآن نفتقد الى زُعماء ( كُثر ) وليس زعيم أوحد بصفاتِ عبدالكريم قاسم من نزاهة و وطنية وإخلاص لشعبهم و وطنهم ، فهل من مُتقدمْ .

 

 

  سالم ايليا / كندا