غَضَب الله في الكتاب المقدس
ملاحظة: لا يغيب عن بال القارئ الكريم، بأن الكتاب المقدس يجب ان يكون تحت اليد.
في عالمنا المعاصر، ربما لم يعد الناس يهتمون كثيراً بالله، وبالتالي لا يهمهم ما إذا كان يغضب ام لا. هذا طبيعي لأننا جعلنا من الله فكرة، أومجرد عقائد نظرية ثابتة، جاهزة وموجودة تحت اليد في كل وقت. لقد جعلنا منه إلهاً لا يتغير ولايتأثر بأفعال البشر وإهمالهم المتكرر. لم يعد "يهوه" إله المفجآت، بل اصبح إلهاً منطقياً في تعامله مع الناس، الى درجة صرنا نغضّ النظر عن النصوص الكتابية التي تتكلم بكل جسارة وجدية عن "غضب الله"، "دينونة الله"، وحتى "إنتقام الله". لقد تحول الله، الأله الذي قطع عهداً مع شعبه وطالَبَهُ الإلتزام به، إلى إلهٍ محبٍ فقط، غارقٍ في حبه لشعبه وللناس( جميعاً ) !!! لدرجة أنه صار يغضّ النظر عن الظلم والخطيئة ويبررهما بكل سذاجة وبساطة، ثم نعلّق على ذلك قائلين: " إنها نعمة الله ". وهي ما سماها الراعي واللاهوتي الالماني ديتريش بونهوفر (1906ـ1945): " النعمة الرخيصة"، والتي هي " العدو المميت لكنائسنا". هي رخيصة لأنها: "تبررالخطيئة من دون تبرير الخاطئ".
غضب "الآلهة" في المشرق القديم، وغضب"يهوه" في إيمان إسرائيل:
من بين جميع المشاعر الأنسانية التي تطبّق على الله، فأن الغضب هو اصعب ما يمكن فهمه. مع ذلك فإن الغضب هو أقوى إنفعال إنساني مثل الحب، وكلاهما طريقة ولغة إنسانية للتكلم عن الله. الصعوبة التي لدينا في تصوُر غضب الله، لم تكن موجودة عند مؤلفي النصوص الكتابية، بل على العكس فأن غضب يهوه مذكور وبصورة مكررة أكثر من الغضب الإنساني!! على نفس النطاق فإن مفهوم الغضب الإلهي كان جزءاً من الإرث الحضاري لإسرائيل من المشرق الأدنى القديم، حيث كانت الطبيعة تُفهَم إسطورياً كمجال لشخصيات مختلفة ومتضاربة. الكارثة الطبيعية كانت تُفهم ببساطة كنتيجة للغضب الألهي. أُناس ما بين النهرين القدماء لم يكونوا قادرين على تصور الغضب الإلهي بدون عُنصر "النزوة". في الواقع، كان الغضب الإلهي يعتبر في الغالب غير معقولٍ، وبدون باعث أو سبب. في ملحمة ( أطراحاسيس ) البابلية (1646ـ1626 ق.م)،تحاول الآلهة بقيادة الأله " أنليل" إبادة الجنس البشري في سلسلة من ثلاثة أوبئة . أخيراً تغضب الآلهة وتقرر مجتمعة في غضبها إبادة الجنس البشري بالطوفان، وهذا بسبب أن اصوات ضوضاء البشر من خلال أعمالهم اليومية أخذت تزعجها فتقررالآلهة إبادتهم. هذه الفكرة حول الغضب الإلهي كانت مرفوضة في إيمان إسرائيل. غضب يهوه مرافق دائماً لبرهِ، عدلِهِ، قداستِهِ وعهدِهِ. لقد واجَهَ إسرائيل الإله الحقيقي في تاريخِهِ، وسرعان ما إكتشف بأن إرادة هذا الإله لا تتطابق مع إرادة الإنسان. إرادة هذا الإله مختلفة كلياً. إنها ضد مخططات، وأفكار ومقاصد الأنسان إنها: إرادة غريبة!! فمن خلال تاريخهِ قاتَلَ إسرائيل ضد إرادة إلهه، وكان يقاوم دائماً تلك الإرادة. في قصة الطوفان الكتابية، ظلم الإنسان هو الذي يجلب طوفان الله.
سبب الغضب الإلهي:
إذا سأل أحدٌ: ما هو الدافع لغضب الله؟ أحياناً هنالك مواقف موصوفة في الكتاب المقدس حول أعمال لله يتعذر تفسيرها تماماً. مثلاً قصة مصارعة إنسان (الله؟) ليعقوب في تك22:32ـ32، وقصة محاولة يهوه قتل موسى في خر24:4. فالله هنا يعمل بدافع يتعذر تفسيرهُ. مع ذلك فإن غضب الله في أغلب الحالات يحصل بسبب أفعال البشر. هكذا فإن غضب الله يجب أن يُفهم إنطلاقاً من علاقة العهد (بينه وبين شعبهِ). الله يبين عن رغبتهِ في الخلاص من خلال وعودهِ، ومن خلال قيادته (التاريخية) لشعبهِ، فلذلك هو يطلب منهم: الطاعة والثقة. عملية العهد تُهئ الشعب، مع إمكانية رد فعل إلهي ذو حدين يتوقف على ما إذا كان الشعب سيحفظ العهد ام لا خر5:20. إذا أتى الغضب الإلهي على إسرائيل (جملة، أو على شخص كعضو في شعب الله) كحكم، فإن السبب هو ان الشعب لم يؤدِ مسؤوليته العهدية تث27:29، يش16:23، قض20:2 ونصوص أُخرى تبيّن بوضوح بأن سبب غضب يهوه هو بأن شعبه قد كسر العهد. غضب يهوه يتقّد خصوصاً عندما يلتفت شعبه للآلهة الأخرى ( خر32، عد25، تث15:2 ). في إسرائيل، فإن يهوه يغضب شخصياً عند كسر العهد، ولا يرد على ذلك من خلال قدرته وسلطته فقط ، بل من خلال ثوران شخصي ضد المذنب. هذا جزء من إيمان إسرائيل بالإله الحي ضد الذين يتعمدون الخطيئة. فلو لم يكن يهوه يغضب من الخطيئة لما اخذها بصورة جدية. إن غضب يهوه لا يخضع للحسابات الإنسانية. إنه ليس ظالماً، ولكن يصعب فهمه أحياناً. هنالك عنصر آخر والذي يلعب دورا في تهدئة خوف إسرائيل من غضب يهوه، وهو الإعتقاد بأن هذا الغضب ليس موقفاً مألوفا ليهوه. فعادة يميل يهوه الى إظهار حبه العهدي ، بينما غضبه هو ثَوَرانٌ إستثنائي :" لأن غضبه يبقى لحظة، أما رضاه فيدوم إلى الأبد " (مز5:30).
" وسمع يهوه فَحَميَ غَضَبُهُ ": عدد (1:11ـ3 ).
قبل أن أشرح معنى النص، أريد توضيح معنى هاتين الكلمتين: "غضبَ" و "حمي غضبه". غضبَ: الغضب بالعبرية هو(אפ) من (אנף)، الانف، أو المنخر(ثقب الأنف)، إذن: الوجه. وأحياناً: شخص، وأيضاً (التنفس السريع عند الغضب). والجذر الأولي: أن يتنفس بشدة. أي أن يسخط، أن يكون غاضباً. حمي غَضَبُهُ: التعبير العبري الأعتيادي يستعمل الفعل (חרה) ويعني: أن يكون حاراً، أن يشتعل، أن يتقّد. الفاعل هو (אףו) ويعني: غَضَبُهُ، أو حرفياً: " أنفُهُ ". التعبير من هذه الصورة الإنسانية هو : أن يشتعل غضبهُ. التأكيد هو على صيغة التفضيل العليا: إشتعل غضبه. شرح عدد 1:11ـ3: النص ربما يعود الى E . يتذمر الشعب بدون شك من ضيق معين موصوف في بداية القصة، والذي هو غير موجود هنا. نار يهوه تندلع فيما بينهم، ومع تضرّع موسى، تكفّ النار عن الشعب لتبرير تسمية المكان: תבערה (تبعيرة) أي: مشتعل، وهو العنصر الواقعي الوحيد في محتوى القصة القصير. قصة التذمر في تبعيرة تكشف بوضوح البناء البسيط لقصص السخط المبكرة كما تظهر في سفر العدد: 1ـ السخط 2ـ الإجراء الإلهي الحازم 3ـ التضرّع 4ـ الإمتناع الإلهي. وهي العناصر الأربعة الرئيسية. سخطٌ وتذمُر: الراوي غير قادر على إعطاء سبب معين لهذا السخط والتذمر. نار يهوه: هنا نار يهوه إشتعلت (النار حدثت بإعجوبة من يهوه)، وهذا نشأمن حجم عقوبة من فترة كان الموضع في البرية له معنى لإسرائيل بعد الخروج من مصر. ربما كان سبب العقوبة خطيئة كبيرة في إسرائيل في ذلك الوقت. النار المرسلة من يهوه في غضبه العادل، تلمس فقط طرف المحلة (إسرائيل جملة بقي حياً بعد هذه الدينونة). ثم رجعت النار بتضرع صلاة موسى. مع ذلك إسم المكان الذي نحن بصدده، دعي من الآن فصاعداً بسبب هذه الظاهرة (תבערה) والذي معناه الإصلي غير أكيد، والذي يشتق من الجذر (בער): أن ينقل، أن يزيل، او ربما أيضاً : أن يرعى الماشية. المعنى المُفترض في المقطع المُقدَم: مكان الإشتعال. إنه من الممكن بصورة ثانوية، ولكنه يشكل الأساس الكلي للمقطع. نص قصير (3 آيات فقط)!! نتيجة لتذمر الشعب يحمي غضب يهوه وتشتعل ناره فيهم ولكن، دون أن تمسّ أي واحدٍ منهم بل: أحرقت في طرف المحلة!! وحالاً بتضرع موسى : خمَدَت النار. ليس يهوه الهاً منتقاً، حقوداً، غاضباً على الدوام ومن دون مبرر. إنه إله لشعب متذمّر، ساخط، متشكي على طول الوقت. ومع أن إلهه معه، فهو مع ذلك: " شعب صُلبُ الرّقبة " تث6:9. مع أنه يطلب من موسى بأن يفنيهم: " فالآن إتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم " خر10:32، إلا أنه يندم: " فندِم يهوه على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبهِ " خر14:32. هذا هو إلهنا الذي لا يمكنه أن ينسى عهده مع شعبه. الكتابات الرسولية:
لا تختلف الكتابات الرسولية عن موسى والأنبياء في التكلم عن غضب الله ، بل على العكس ربما تبدو أكثر شدة. يوحنا المعمدان في البرية يكرز بدينونة الله، ويعلن غضبه في مت7:3= لو7:3: " يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ ". مع ان يسوع يختلف عن يوحنا في كرازته التي تعلن إقتراب الخلاص لا الدينونة إلا انه يكرز بالدينونة للذين يرفضون قبول ملكوت الله. يسوع المتاوي لديه نبرة خشنة وشديدة موجهة ضد رؤوساءاليهود في مثل الوليمة (مت 7:22): " فلما سمع الملك غضِبَ، وأرسل جنوده وأهلك أُولئك القاتلين وأحرق مدينتهم ". ملاحظة بخصوص هذه الآية والتي هي حسب العلماء إضافة الى المثل الأصلي بعد سنة 70م، أي بعد تدمير اورشليم على يد الرومان.لا تهمنا الآن هذه الملاحظة، ولكن ما يهمنا هي الصيغة الشديدة للآية التي يضعها متى على لسان يسوع، والتي تبيّن غضب الملك من أولئك الذين رفضوا وليمته ومعاقبته لهم، أي بصيغة أخرى، دينونة الله الشديدة للذين رفضوا لطفه. يضع متى هذا المثل بعدما ترك يسوع الجليل ودخل أورشليم . ولكن هذا لا يعني مطلقاً بأن يسوع بعدما نجح تبشيره في الجليل، لاقى الفشل في أورشليم، لا. هنالك علماء يعتقدون بأن الأزمة كان موجودة منذ بداية تبشيره(مر1:3ـ6، 1:6ـ6 و لو14:4ـ30). لكن الإمور قد وصلت الى ذروتها في أورشليم، عندما واجه يسوع السلطات الدينية، يعلن عندئذ غضب الله ودينونته:" فماذا يفعل صاحب الكرم؟ يأتي ويُهلك الكرّامين، ويعطي الكرم الى آخرين" (مر9:12). وكما أشرنا أعلاه لا يأتي غضب الله بدون سبب، أو نتيجة نزوة، لا في موسى والأنبياء ولا في الكتابات الرسولية. فعلى طول تاريخ شعب الله يأتي غضب الله على كل الذين يكسرون عهده ويخونون إلتزامهم به. مثلا في سفر الرؤيا (16)، يسكب الملائكة كؤوس غضب الله على الذين يسجدون لصورة الوحش، ويسفكون دم القديسين والأنبياء، والذين يجدفون على إسم الله، أي كل الذين كسروا عهد الله معهم.
وجماعة الله اليوم.... هل نحن جماعة ملتزمة بعهد الله معنا؟ هل نحن شعب لايجلب غضب الله عليه؟ ما قرأناه أعلاه يتعلق بنا، بحياتنا، بمسؤوليتنا تجاه الله وتجاه الآخرين. عندما يتكلم الكتاب المقدس عن هذه الخبرات والمواقف، فهذا يعني: أنا، أنتَ، أنتِ، نحن كلنا جميعاً كجماعة الله، جماعة يسوع الناصري، أخونا البكر، معلمنا وربّنا، الذي حتى آخر لحظة من حياته لم ينسَ، ولم يخُن عهد الله معه. يبقى وجها الخلاص والدينونة مترافقين معاً، ويبقى قلب الله يتقلب علينا من حبه لنا، منتظراً منا اعمالاً إيجابية على طول حياتنا، لنسمع منه هذا الجواب الممتلئ رحمة: ".... قلبي يتقلّب عليّ. اضطرمت مراحمي جميعاً. لا أجري حمو غضبي. لا أعود أُخرب أفرايم، لأني الله لا إنسان، القدوس في وسطكَ فلا آتي بسَخطٍ " (هوشع 8:11ـ9).
المصادر:
1. Dietrich Bonhoeffer, The Cost of Discipleship (London: SCM Press Ltd.), pp. 35-47. 2. Günther Bornkamm, Jesus of Nazareth. First Fortress Press Edition, 1995.pp 153. 3. John L. McKenzie,The New Jerome Biblical Commentary, Aspects Of Old Testament Thought. Great Britain 1989. pp1301-1302(99-102). 4. Gerhard Lohfink, Jesus and Community. Fortress Press Philadelphia 1984. pp7. 5. Floyd V. Filson,The Gospel According To St. Matthew 1971. pp233. 6. Richard J. Clifford, S. J, The New Jerome Biblical Commentary, The Flood And Renewed Blessing. Great Britain 1989. pp15(12). 7. G. Johannes Botterweck, Helmer Ringgren , Theological Dictionary Of The Old Testament, 1974. pp357. 8. James D. G Dunn, John Willa Rogerson, Eerdmans Commentary On The Bible, 2003. pp141. 9. Martin Noth, Numbers: A commentary, 1968.pp 84. 10.KJV Bible, Strong`s Hebrew Dictionary. pp 4601. 11. The Elohist (E) is one of four sources of the Torah described by the Documentary Hypothesis.
رعد توما عاشا |