"يهوذا" .. يكشف لنا عن نفسنا ...

 

·         من هو يهوذا .. ؟

   هو ذلك الرجل الذي يمثل في أعين المسيحيين أشنع "خيانة" : هو "يهوذا الأسخريوطي"، الذي كان في عداد أصدقاء يسوع المقربين (أحد الأثني عشر رسولاً) . لم يكن دخيلاً أو مندساً بين التلاميذ، بل كان تلميذاً حقيقياً أختاره يسوع لشهامته فرأى أنه جدير بثقته، وفيه تنطبق كلمات يسوع كما في سائر الرسل الآخرين : "لستم أنتم أخترتموني، بل أنا أخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتثمروا ويدوم ثمركم" (يوحنا 15 / 16) . أن فعل يهوذا الخياني لم يكن حتمياً أو أمراً ضرورياً لابد منه، بل أنه "فعل بشري" له دوافع بشرية . حتى أن البعض حاول التوصل الى معرفة بعض من تلك الدوافع، فقالوا : هي الغيرة، أو بعض من خاصيات طبيعة يهوذا المرتبكة ... حتى أنه في آخر الأمر أتخذ القرار النهائي، وعن سابق معرفة وأصرار بتحمل مسؤولية قراره .

   كيف توصل الأمر الى ما توصل ..؟ كيف أستطاع رجل قبله يسوع بين أتباعه أن تساوره مثل هذه العواطف، وأن يتصرف مثل هذا التصرف ..؟ سؤال شغل الناس منه بكل شاغل ... أنه لغز وسيبقى كذلك على مدى الزمان، بالنسبة الى المسيحيين، أن واحداً من الأثني عشر المقربين "أسلم يسوع" .

 

·         يهوذا .. "ذاك الذي أسلم يسوع" :

   ليست لنا معلومات أكيدة عن يهوذا قبل أن يصبح تلميذاً، سوى ورود أسمه في "قصة طرد الشيطان من يهوذا" عن مخطوطة منحولة (1)، تبين أن يهوذا عندما : "كانت تأتيه التجربة كان يعض من حوله ... وبينما كان يسوع يتحدث الى يعقوب ويوسي، جاء يهوذا وجلس الى يمينه فجاءته التجربة، وعض يسوع في جنبه وفي الحال خرج الشيطان من يهوذا ورأوه يشبه كلب مسعور يولّي هارباً ... وأقتبل يسوع ضربة الرمح في المكان الذي عضه" .

   نعلم أن أباه أسمه سمعان (يوحنا 6/71)، أما لقبه "الأسخريوطي" فتختلف أجتهادات المفسرين في تفسير هذا اللقب . فالبعض يتمسك بأن اللقب يعود الى مسقط رأسه أي الى قرية "خريوط"، لكن الشكوك تلف هذا التفسير أذ ليس في فلسطين موضع يدعى "خريوط" ليكون يهوذا فعلاً رجلاً (أس) من (خريوط) . ولكن، من جهة أخرى، نستطيع أن نفهم كلمة (أس – كاريوت) من أصل لاتيني بمعنى "صاحب الخنجر" أو "الأرهابي" . أما التفسيرات المتأخرة فقد ذهبت في تحليل الأسم مذهباً جديداً، عندما أظهرت لنا بأن "الأنجيليين" ذكروا "معنى" اللقب بقولهم "ذاك الذي أسلم يسوع" (متى 10/4) . لذا فأن الأعتقاد السائد والأرجح لهذا التعبير هو ترجمة حرفية الى اليونانية للكلمة السامية "أسخريوط" . وذلك لأن المسيحيين الأولين تعودوا على قول "ذاك الذي أسلم يسوع" كلقب ليهوذا : الذي جعله الأيمان يتبع السيد المسيح الى درجة معينة من حياته... ثم بدأ يتزعزع، وبدأ يفكر ويعمل بطريقة مخالفة لتعاليم المعلم، فلم يكن ينقصه سوى الفرصة لأن يصبح فتوره "خيانة" .

 

·         الغيرة عند يهوذا "الغيور" :

   من الواضح أن من بين التلاميذ الذين أختارهم الرب يسوع من كان منتمياً الى جماعة "الغيارى"، أو على الأقل من كان في السابق غيوراً : وهم أولئك المتعصبون للدين الذين يستهدفون طرد المستعمر الروماني بقوة السلاح . فعلى سبيل المثال هناك أشارة الى سمعان الوطني "الغيور" (متى 10/4 ، أعمال 1/13)، ويهوذا الذي دعيّ أيضاً في أحد الأناجيل المنحولة وفي بعض المخطوطات القديمة بـ "يهوذا الغيور" . ويبدو أن هذين التلميذين قد أنتظرا من يسوع أن يكون مسيحاً سياسياً، وحين تحققا من أنه سينتهي تخليّا عنه –لأنهما بالأصل رجلا سياسة- فخاب أملهما فيه لأنه لم يستطع أن يحدث التغيير المطلوب في السلطة، أي طرد المستعمر . وهنا يجب أن لا ننسى بأن كلمة "الغيور" قد تصف جيداً شخصية الرجل، لعله كان من الغيورين : أي من تلك الفئة الباحثة عن نقاء الشريعة بحذافيرها فيهرعون الى التبليغ عنهم وتسليمهم الى المجمع الديني . فالمحرك الداخلي في أعماق يهوذا عندما سلم يسوع، نجده في هذا التفسير لنفسيته : أي في تلك الغيرة الداخلية، لأن أعمال يسوع وأقواله خلقت شكوكاً في داخل يهوذا فدفعته الى تسليم المسيح للسلطات الدينية المختصة . اذن لم يكن الدافع لعمله هذا أن يبيع سيده بالمال، بل الى ذلك التمسك الأعمى، أو الأستقامة الخاطئة، أو الغيرة للمعنى الحرفي للشريعة حتى أصبح واشياً لمعلمه .

 

·         الوجه الآخر ليهوذا :

   مما لاشك فيه أن يهوذا أتى الى يسوع مع نقائصه، كسائر الرسل (بطرس، يوحنا، توما، ...) : فلقد كان لبطرس على قلة ترويه وسرعة أنفعاله وتقلبه، قلب شهم أريحي؛ وكان يوحنا على تعصبه وعنفه وفكره الذي يحلق عالياً فوق فكر بقية الرسل، يلتهب رغبة عارمة لبذل الذات؛ وكان توما على رغم من حذره وريبته وشكوكه، مخلصاً أخلاصاً يجعله يعتنق الحقيقة حالما تظهر . وهكذا كان أيضاً ليهوذا عيوبه، مثل ما كان لهم من ذلك . فقد جاء الى يسوع وهو مستعد حقاً لأن يؤمن به ويتبعه ولولا ذلك لما أتاه، فقد كان يؤمن بيسوع "مسيحاً" القادر على أعادة مملكة اسرائيل . ألا أن يسوع – في نظر يهوذا – كان يبدو متردداً، لذلك عقد يهوذا النية على تعريضه للموت لعله يسرع في أرجاع الملكوت الى سابق عهد . اي أن يهوذا كان يعرف أن الفداء يقتضي موت البار فدية عن الناس أجمع، فلكي يخلص أخوته أخذ على عاتقه أن يكون "الخائن" المسبب لموت البار، فيكون بذلك موضع الأحتقار واللعنة لدى الجميع ... !!

   وفي تعليقه على هذه النقطة يقول رومانو كوارديني (2) : "أن التوبة كانت ممكنة له على كل حال . لقد كان مدعواً الى أن يصير رسولاً، وأنه ليستطيع ذلك حتماً، لكن أرادة الأرتداد والتوبة قد شلّت فيه" . فقد وضع هو النقطة الحاسمة من "الخيانة"، مثلما كانت عند بقية الرسل : ألم ينكر بطرس قائلاً : "أنا لا أعرفه، يا أمرأة !" (لوقا 22/57)، وأخذ يلغن ويحلف مرة، ومرتين، وثلاث مرات (متى 26/69-74)؛ لكنه ما لبث أن وجد طريق الندامة والتوبة . وهكذا بالنسبة الى يوحنا الذي وجد طريق العودة أيضاً وظل واقفاً عند أقدام الصليب، بعد أن هرب هو وبقية التلاميذ : الذين تبددوا هاربين، كما تتبدد الخراف عندما يضرب الراعي . والشعب الذي طالما ساعده، وشفى مرضاه، وأشبع جياعه، .... كم كانت خيانته جسيمة عندما فضّل عليه لصاً قاطع طريق..!؟

 

·         يهوذا يكشف لنا عن نفسنا :

   وهنا نستطيع القول بأن ليس لأحد من هؤلاء أن يحتج على يهوذا، وليس لنا أيضاً، لأن ما كان في حالة بذار عند كثيرين قد نشأ وتطور أخيراً في "شخص" يهوذا ذلك المقصد الشائن . فغالباً ما نتكلم عنه بغضب وأشمئزاز لأنه باع سيده بالفضة ... بينما نبيعه ونخونه ونخدعه – عندما نخدع أنفسنا – في كل يوم من حياتنا، كأنه شئ بعيد عنا، غريب عما نحن فيه اليوم من "خيانة" . فخيانة الله تهددنا من كل جانب، لأننا وبصراحة أبتعدنا عن الله ... لم نعد بحاجة أليه .. تركناه .. تركنا أفضل حقيقة لنا، وأقدس عاطفة فينا : تركنا محبتنا، واجبنا، مبادئنا، شهامتنا، دعوتنا الرسولية، ... وبذلك نريد أن نعوّض عن الله بهذه التفاهات، التي لم ولن تملأ فراغ فقدان الله .

  فيهوذا  كشف ويكشف عن حقيقة ضعفنا البشري وما فينا من ذنوب، يكشف لنا عن نفسنا، عن نزواتنا الشريرة ومكامن أعماقنا الفاسدة . فالأجدر بنا اليوم أن لا نحكم على يهوذا وندينه، بل أن نرفع صلاتنا الى الله كي لا يدع "الخيانة" أن تستقر فينا عندما ننزلق أليها – وغالباً ما ننزلق أليها- لتقف عائقاً دون أرتدادنا الى درب الحق والحقيقة، درب التوبة والأهتداء ... ودون ذلك سيكون منا بالتأكيد "يهوذا" .. !!

 

 

 

نبيل جميل سليمان

الشيخان – بيبوزي