14 تموز

وظلم البعض من نوابنا!

 

اثار بند في احدى مواد مشروع قانون العطل الرسمية ، ينص على اعتبار يوم 14 تموز مناسبة وطنية ، حفيظة مجموعة من اعضاء مجلس النواب ، فانبرت له خلال مناقشة المشروع في جلسة السبت الماضي بين معترض ومنتقد ومهاجم ،ولتتفق اخيرا في الدعوة الى استبعاده وحذفه من القانون!

ما بعث على الاستغراب في الامر ان النص لم يتضمن جديدا. فمنذ عام 1959 والعراقيون يحتفلون بـ 14 تموز كل سنة عيدا وطنيا ( وعطلة رسمية )، وليس مجرد مناسبة وطنية (لا تعطل الدولة فيها اعمالها ). وبقي الحال كذلك بعد انقلابي شباط وتشرين الثاني 1963 ، بل حتى بعد انقلاب 17 تموز . 1968 لا لشيْ .. الا لأن رؤوس تلك الانقلابات كانوا يدركون عمق مكانة 14 تموز في قلوب العراقيين ، فيفضلون تجرع مرارة بقائه عيدا وطنيا ، على استفزاز مشاعرهم واثارة غضبهم. ولم يتجاسر صدام حسين على تغيير الحال ، الا بعد خروجه ونظامه سالمين من مغامرة الحرب مع ايران ، وتوجهه لتهيئة مغامرة غزو الكويت. آنذاك شعر بالثقة الزائدة وهو يرى الاشارات الايجابية من الغرب تتوالى ، فيما الشعب الذي استنزفته الحرب الطويلة المدمرة يلعق جراحه. فانتفخت اوداجه وتعاظم زهوه. ويومها فقط وجد في نفسه الجرأة على فرض 17 تموزه عيدا وطنيا بدل 14 تموز الشعب.

لكنه ، مع ذلك ، حرص على الا يتقاطع مع الشعب تماما في هذا المجال. فكان ان حافظ على اعتبار يوم 14 تموز مناسبة وطنية.

وبقي الحال كذلك على المستوى الرسمي بعد سقوط الطاغية وانهيار نظامه في 2003 ، في حين عاود ابناء الشعب الاحتفال بـ 14 تموزهم ، متطلعين الى اليوم الذي ينقض فيه نوابهم في البرلمان قرار صدام حسين الجائر، ويردون الاعتبار الى 14 تموز عيدا وطنيا. الا انهم بدلا من هذا يسمعون الآن –وكلهم عجب وذهول   مطالبة بعض اعضاء مجلس النواب بالشطب على 14 تموز كليا ونهائيا! و يزدادون عجبا وذهولا ، حين يسمعون اسباب النواب الستة - من بين حوالي خمسة وعشرين شاركوا السبت في مناقشة مشروع القانون –وحججهم. فـ 14 تموز 1958 كان - في رأيهم - انقلابا عسكريا! و " الجمهورية لم تأت بارادة شعبية.. " بل " بناءً على رغبة مجموعة من العسكريين".وما جنيناه من 14 تموز هو " مجرد تبديل الملكية الى جمهورية ، انقلابات عسكرية ، تسلط انظمة دكتاتورية ، حملات على ابناء شعبنا في كردستان ، الغاء النظام البرلماني ، التنكيل بالعائلة المالكة .. ولم يشهد العراق بعده استقرارا". وما دامت هذه هي "حقيقة" 14 تموز فـ "لماذا نحتفل به؟ ألأنه اطاح بالنظام الملكي؟ ومن قال ان الملكية اسوأ من النظام الجمهوري؟ ". ..الخ!

غريب ان ينسب السادة النواب ذلك " الزلزال" الذي هز اركان النفوذ الغربي بكامله في الشرق الاوسط والمنطقة العربية ، وحوّل العراق من حصن له الى قلعة للحرية والاستقلال (ولو الى حين)، ان ينسبوا ذلك الى "مجموعة من العسكريين" وكأنها مجموعة صناع معجزات! وان يتناسوا الدور الاساسي للقوى السياسية الوطنية المتحالفة آنذاك في اطار "جبهة الاتحاد الوطني"، في التمهيد للعمل العسكري الذي اجترحه الضباط والجنود الوطنيون صباح 14 تموز وفي تأمين نجاحه ، وان يتجاهلوا الدور الحاسم لجماهير الشعب ، التي نزلت الى الشارع تأييدا له ودفاعا عنه في مواجهة قوى الحكم الملكي وقواته المسلحة! وغريب ان يستهينوا باعلان الجمهورية في 14 تموز(وكان في حينه مطلبا شعبيا شاملا) وبالنظام الجمهوري الذي تمسك الشعب به منذ ذلك الحين ، ورفض بنحو قاطع كل مسعى للرجوع عنه الى النظام الملكي. وكان آخرها في اول انتخابات ديمقراطية شهدها العراق في تاريخه الحديث (نهاية كانون الثاني 2005 ) حين لم يمكّن دعاة الملكية من الحصول على مقعد واحد في الجمعية الوطنية آنذاك ! معلنا بذلك مرة اخرى رأيه المفحم في اي النظامين افضل!

وغريب ان يغمضوا العين عن اجراءات تحقيق الاستقلال وتعزيز السيادة الوطنية، التي اقدمت عليها الثورة منذ البداية ، لا سيما الخروج بالعراق من حلف بغداد، والغاء الاتفاقيات الاخرى غير المتكافئة ، والقواعد العسكرية في الحبانية والشعيبة، والخروج من دائرة الاسترليني .. الخ.

ذلك كله والكثير سواه من التدابير والخطوات الهامة ، المبكرة واللاحقة ، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فضلا عن السياسية، وبضمنها تثبيت شراكة العرب والكرد في الوطن العراقي، في الدستور ولأول مرة في تاريخ العراق واصدار قانون الاصلاح الزراعي وقانون الاحوال الشخصية والقانون رقم 80 الذي استرجع معظم اراضي العراق وما في باطنها من ثروات طبيعية من سيطرة شركات النفط الاجنبية ، هو ما ارتقى بتحرك 14 تموز العسكري ذي المظهر الانقلابي في البداية ، الى مصاف التحول العميق، الثوري.

وغريب خصوصا ان يخلط السادة النواب بين قيم ثورة 14 تموز ومثلها الوطنية والديمقراطية والانسانية الرفيعة، والممارسات الشائنة لبعض المسؤولين والساسة الذين تبرقعوا كذبا بشعارات الثورة...وان لا يدينوا القوى التي ارتدت على الثورة ومثلها واهدافها، وذبحتها من الوريد الى الوريد!.

صحيح ما أ شير اليه حول " التنكيل بالعائلة المالكة" واعمال العنف الاخرى اللاحقة الجديرة بالادانة ، والتى ذهب ضحيتها مواطنون ابرياء كذلك. ولكن ثورة 14 تموز لم تكن في ذلك استثناءً بين الثورات. ويكفي ان نتذكر سابقتها ، ثورة 14 تموز في فرنسا، التي ظلت تتدحرج تحت سكين مقصلتها زمنا طويلا رؤوس لا تحصى ، ملكية وغير ملكية ، بينها رؤوس العديد من قادتها انفسهم. من دون ان يغير ذلك من موقف الفرنسيين ازاءها ، موقف الافتخار والاعتزاز بها وبشعاراتها العتيدة " الحرية ، الاخاء، المساواة "، وتمسكهم بيوم ذكراها عيدا وطنيا ثابتا للجمهورية الفرنسية! وصحيح ان العراق مر في السنين اللاحقة بمرحلة عدم استقرار طويلة. لكن الذنب في ذلك ليس ذنب ثورة 14 تموز ذاتها. بل ذنب القوى التي تآمرت عليها واجهضتها. وايّ ثورة تستطيع التأكد مسبقا من انها ستحافظ بعد اندلاعها على خط سيرها المرسوم وستحقق اهدافها المحددة.

ان من حق مجلس النواب وحده اختيار اليوم الوطني العراقي. واذا ارتأى اعتماد يوم غير 14 تموز عيدا سنويا للدولة العراقية ، فمن الجدير به الا يستمع للدعوة المجحفة من بعض السادة اعضائه ، الذين يريدون حذف اليوم المذكور حتى من ذاكرة العراقيين.

وفي كل الاحوال يبقى العراقيون يحتفلون كل سنة بيوم 14 تموز، يوم اعلان الجمهورية ، مناسبة وطنية لا ريب فيها!

 

 ليوم الخميس

 30 / 10 / 2008