أنا .. وثورة تموز
لم يكن عمري عام 1958 يوم قامت ثورة 14 تموز إلا ( 8) سنوات ونيف ، ولم أكن ( أفرزن ) بين الصح والخطأ في الجانب السياسي ، رغم أن بيتنا كان يعج بالصحف التي كانت تصدر آنذاك ( اقصد في فترة الحكم الملكي) من البلاد والزمان والأخبار وغيرها ، لم يكن بيتنا غريبا عن العمل الصحفي فقد كان أخوال والدي يصدرون صحيفة اسمها ( صوت الأمة) في الموصل والعائلة تمتلك ( وما زالت) مجموعة مطابع . وما أن حطت الثورة رحالها حتى غابت الصحف عن دارنا والسبب كما كان يدعي الوالد ( رحمه الله) بأن البعض كانوا يتهمون الناس وفق ما يحملونه من صحف . بمعنى آخر ان الفترة التي أعقبت ثورة تموز بفترة وجيزة كانت ( مشوشة) فكان البعض يعتقد بأن من يحمل الصحيفة الفلانية فإنه بدون شك من أتباع الحزب أو الجهة التي تصدر تلك الجريدة ، لهذا منعت الصحف من دخول بيتنا الكائن في محلة الساعة بين شارع نينوى وشارع الفاروق . في عام 1959 – 1960 شهدت الموصل مذابح وحمامات دم ( كالتي تشهدها هذه الأيام ) بعد فشل المحاولة الانقلابية التي قام بها العقيد عبد الوهاب الشواف ضد نظام حكم الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم رحمه الله ، بدفع من ( النظام المصري) ، شخصيا لا أتذكر من تلك الفترة إلا ما حصل في محلتنا وما جاورها من جرائم قتل ( وسحل) وتعليق على أعمدة الكهرباء ، أهمها وأشهرها والتي لا تغيب عن بالي جريمة تعليق جثة أحد أبطال الموصل برفع الأثقال ( إسماعيل حجار) على عمود الكهرباء في المقهى التي كان يديرها ويمارس في حديقتها رفع الأثقال وكمال الأجسام ، وكنا نحن ( صغار المحلة) نقف خلف سياج حديقة المقهى ننظر له ولبقية الرياضيين بفخر ودهشة بسبب قوته وجسمه المنسق وعضلاته المفتولة . يومها عدت إلى البيت حزينا مكتئبا خائفا مما قد يحصل لنا جميعا جراء تهور ودموية شرذمة من الناس لا تعي أهمية حياة الإنسان ، وقد لاحظ عمي ( المرحوم القس ميخايل عزيزة) اكتئابي وحزني فسأل باللهجة الموصلية : أشبيك ؟ فأجبت بخوف : اذا كان البطل الرياضي قد تمكنوا منه وعلقوه على العمود فماذا سيفعلون بنا نحن الأضعف منه ؟ فقال بحدة وهو يشد اذني : وما الذي جعلك تذهب إلى هناك ، ألا تعرف خطورة ذلك ؟ وتلقيت توبيخا شديدا .. وأشياء أخرى !! . كان والدي يعمل في شركة توزيع المنتجات النفطية ، وكان يذهب بسيارته ( شوفرليت موديل 1952 ) صفراء اللون إلى عمله في منطقة الدواسة حيث انتقل بيتنا إلى هناك عام 1960 حين انتقل عمي القس ميخائيل ليكون راعي كنيسة ام المعونة الدائمة الكلدانية ، كنت وقتها في مدرسة شمعون الصفا وانتقلت بفعل انتقال سكنانا إلى الدواسة إلى مدرسة أم المعونة . في أحد الأيام دخل والدي إلى البيت مسرعا وهو يرتجف ويصرخ : قتلوا اسطيفان .. قتلوا اسطيفان ! استفسرت جدتي وعمي منه عن الأمر فتبين أن بعض ( القومجية ) دخلوا عليه في مطبعته ( المطبعة الشرقية الحديثة) وأردوه قتيلا ، وكانوا يحسبونه ابنه ( فتح الله) صاحب مطبعة الأديب البغدادية لاحقا ، لأنه كان ينتمي لأحد الأحزاب الوطنية فراح العم اسطيفان رحمه الله ضحية دموية تلك الفترة . وكانت هذه الجريمة سببا رئيسا لانتقالنا إلى بغداد ،هذا ما أذكره عن تلك الفترة التي أعقبت ثورة 14 تموز . واليوم أنا مؤمن وعلى يقين جدا ، بأن تلك الثورة وزعيمها العظيم عبد الكريم قاسم قدمت للعراق تجربة تاريخية ما يزال طعمها الحلو بين شفاه وألسن أهل العراق، رغم آلامها وفواجعها التي انهكت شعبنا وبددت ثرواته وعطلت مسيرة تطوره ، وبرغم المكاسب التي حققتها الثورة للبسطاء من أبناء شعبنا العراقي ، فأن قوى عديدة كانت تهمها مصلحتها أولا وليس مصلحة العراق ككل ، نجحت في إجهاضها وتصفية رجالها ، لقد كانت ثورة 14 تموز حصيلة العمل المشترك لكل القوى والأحزاب الوطنية العراقية العاملة آنذاك ، بالتظافر والتنسيق مع مجموعة من الضباط الوطنيين . واليوم والعراق يعيش تجربة مريرة بعد التغيير الذي حصل في نيسان 2003 ، هو بحاجة لنفس العمل المشترك بين جميع القوى الوطنية ، كي يعود عراقا واحدا وللجميع .
ماجد عزيزة / |