من اشكاليات التاريخ الآشوري المعاصر

"العائلة البطريركية ونكبة سميل"

عوديشو ملكو آشيثا

 

          تمر في هذه الايام من صيف العراق الحار, ذكرى أليمة للعراقيين, اصحاب الضمير الحي, ومن الآشوريين تحديداً, ذكرى نكبة سميل عندما ذبح الانسان الآشوري الاعزل في مثل هذه الايام وقبل (76) عاماً اي في آب عام (1933). حيث استنفر الجيش العراقي الوطني! والعديد من افراد العشائر العراقية, العربية والكردية والايزيدية القريبة من مسرح الجريمة في سميل ودهوك وما حولها. استنفروا كالوحوش الكاسرة يزرعون الموت وبالدم البارد بين أسرى ومواطنين آشوريين عزل, لا ذنب لهم سوى انهم آشوريون نساطرة, اغتصبت ديارهم لوقوعها ضمن الجمهورية التركية الحالية. بعد تثبيت الحدود بين العراق الحالي وتركيا.

          ما يهمنا في هذا المقال ليس الشرح والخوض في تفاصيل المذبحة, واساليب التنفيذ, والشخوص المنفذة والضحايا الابرياء... الخ. بل هو دراسة جانب من الجوانب المسببة لهذه النكبة وحسب ادعاء البعض من ذوي الغايات, من الآشوريين انفسهم, والانكليز, وأركان الحكومة العراقية آنذاك.

          فقد اورد الرواة وبعض من أرخ تلك الاحداث وما قبلها اي بين الاعوام (1925-1933) العديد من الاسباب التي اشعلت الاحقاد في النفوس وعجلّت بوتيرة التصعيد في المواقف. ومن دون دراسة منهجية ودراية بالاحداث المحيطة بالآشوريين المهجرين – ليس كل الآشوريين, بل اولائك الذين طردوا وشردوا وصودرت املاكهم في وطنهم, وزهقت ارواحهم, وتقلص عددهم الى ما دون الربع!! بسبب ويلات الحرب الكونية الاولى -.

          وحسب هولاء يكمن احد اهم تلك الاسباب في مواقف العائلة البطريركية المتشردة, تجاه الحلول المقترحة والمحاولات الساعية لاسكان تلكم اللاجئين. وتحديداً مطالبة البطريرك الشاب بضرورة الاعتراف به كرئيس أعلى للآشوريين النساطرة دينياً ومدنياً. وفي هذا الموقف المنسّب الى مار ايشاي شمعون (21) لم يكن هناك خلاف ونقاش حول قيادته الدينية على شعبه (ابناء كنيسته المشرقية النسطورية الآشورية), بل حول مطالبته بالرئاسة المدنية على ذلك الشعب, وعلى ان يسكّن في منطقة واحدة ليتمتع بنوع من الارادة الذاتية (الحكم الذاتي) وعلى اراضيه داخل العراق بعد تثبيت حدوده الدولية.

          إذ رأى الكثيرون في ذلك المطلب تجاوزاً على سلطة الدولة, ولكن في حقيقة الامر ان الوضع برمته لم يكن كذلك. وان الملك فيصل الاول كان يدرك مغزى وفحوى وابعاد تلك المطالبة بالسلطة المدنية من لدن البطريرك, كونه (الملك) ينحدر من السلالة الهاشمية, وهم من آل البيت وأشراف مكة. فكانت القيم والدلالات العائلية العريقة والانتساب إليها, وخصوصاً الدينية منها! كانت ذات مغزى كبير لديه. ولكنه لم يستطع فعل اللازم لتدارك الامور بسبب الاحتقان الطائفي من جهة, ومقت العراقيين للاحتلال البريطاني من جهة اخرى, وكون "البريطانيون على دين الآشوريين النساطرة, فأنهم يدعمون هولاء الآشوريين الكفرة المشاغبين حسب بعض المغالين".

          من هنا كانت الحكومة في بغداد تعمل بأكثر من خطة للوصول الى الهدف, وهو جعل الاقتصاص من الآشوريين ذريعة وورقة بيد الحكومة للدلالة على كونها (حكومة وطنية مخلصة, انتقمت ممن ارادوا, الاساءة الى وحدة الوطن). ولتحقيق ذلك ودفع الامور الى التصعيد, وجهتْ الاعلام العراقي ليتهجم على الآشوريين وعلى مار شمعون تحديداً, ويتهمهم بشتى التهم الباطلة. إذ صدرت في غضون بضعة اشهر من (1932-1933) اكثر من ثمانين افتتاحية لجريدة ومجلة تهاجم الآشوريين وقياداتهم وتفتري بحق تلكم المقهورين اصلاً. ومن الجانب الآخر عملت على نشر الفرقة والفوضى في البيت الآشوري نفسه وهذه المرّة بالتعاون مع البريطانيين, حيث استطاعوا خلق حلف معاد للبطريرك واعوانه ليستخدموه رأس رمح موجه الى صدور ابناء جلدتهم!

          ولكن الدراسة الدقيقة والتحليل العلمي والمنطقي للتاريخ يظهران أن حقيقة الامر في كل هذا الامر, هي غير ذلك. إذ ان البطريرك مار شمعون كان يطالب بنوع من الحكم الذاتي الشامل لهولاء المغدورين والمضطهدين من الآشوريين في وطنهم القديم آشور, وهذا كان ومازال حقهم المشروع ومطلبهم الاوحد! وليكون هو – البطريرك - مقيماً بينهم وفي وسطهم. يهتم لامرهم كما كانت العادة والتقاليد جارية في هذا الشعب وهذه الكنيسة ومنذ القرون الاولى لتأسيسها وتحديداً منذ ايام المحتلين بنو ساسان. وقد برز ذلك واضحاً في موقف شابور الثاني (309-379) م عندما كان يخوض حرباً ضد الرومان, عندما قرر فرض ضريبة خاصة على المسيحيين الآشوريين خصوصاً وانهم لم يشاركوا فيها بشكل فعال, وكلف البطريرك مار شمعون برصباعي بجبايتها كونه الرئيس والشخص الاول في الكنيسة والامة. لكن البطريرك رفض ذلك قائلاً "لن نوافق على جمع الضرائب لان سلطتنا ليست سلطة دنيوية, بحيث نقتل اخوتنا". لكن هذه الحجة كانت غير مجدية لدى شابور طالما ان المسيحيين الآشوريين في وادي الرافدين كانوا منظمين في جماعات شبه مستقلة. وكان لرئيسهم الكنسي دوراً سياسياً, ويعمل كحلقة وصل بين مؤمنيه والادارة المدنية. بمعنى آخر كان الآشوريون المسيحيون يشكلون دولة داخل دولة تحت قيادة رئيسهم الديني! واقوى دليل على ذلك, عندما هدد الملك البطريرك بالموت, بقي صامداً وهو يقول "خير لي ان يسلخ جلدي من أن آخذ ثياب الفقراء".

          يفهم من هذا الطلب وهذا الجواب, ان الشاه الساساني لم تكن بيده طريقة للتعامل مع ذلك العدد الكبير من رعيته من الآشوريين المسيحيين سوى من خلال الكرسي البطريركي في العاصمة ساليق. كما يفهم من ردّ البطريرك له, فهو لوحده الذي يستطيع أخذ الضريبة من رعيته فقط, عندما يقول (آخذ ثياب الفقراء), وهو (البطريرك) وحده المخول الوحيد بالاخذ والامتناع عن الاخذ وعلى نطاق كل الكنيسة في الامبراطورية الساسانية.

          وبعد القضاء على الاحتلال الفارسي الساساني ودخول بلاد الرافدين تحت سيطرة العرب المسلمين القادمين من الجزيرة. سار هولاء على نفس النهج, إذ اعتمد الخلفاء وخصوصاً العباسيين على البطريرك او من يخوله في التعامل مع المسيحيين في كل اقصاء دولتهم, وهم كانوا يسمون البطريرك بأبي النصارى. وقد خلف لنا التاريخ العديد من المواقف الايجابية والسلبية بين الخليفة وبين بطريرك الكنيسة المشرقية في بغداد. كما ان هناك الكثير من المناظرات الدينية والمذهبية, كانت قد تمت بين الخليفة وحاشيته وبين البطريرك او من ينوب عنه. ومن خلال هذه العلاقة المركزية والمحصورة في شخص البطريرك والقيادات الدنيوية التي حكمت بلاد الرافدين استطاع هولاء البطاركة حماية ما امكن حمايته من الانفس والمال, في دولة تختلف عنهم في الدين واللغة والثقافة, بل وفي كل شيء.

          اما في العصر العثماني فهم ايضاً اعتمدوا النهج نفسه, وكانوا يسمون الآشوريين المسيحيين بالملّة الآشورية او النسطورية احياناً. ويتعاملون مع البطريرك في قوذشانيس كرئيس ديني ودنيوي في ذات الوقت.

          هكذا كان مار شمعون زعيم قبلي في الجبال الحكارية مع احتفاظه بالسلطة الروحية. وكان الآشوريون والكرد يمارسون استقلالاً فعلياً في تلك الجبال لبعدها عن النفوذ التركي. وكان الآشوريون يتبعون مار شمعون في كل الامور الدينية والسياسية. وكان هو ممثلهم لدى السلطات التركية كلما دعت الحاجة. وكان الترك في القرون الاخيرة يطلقون على الآشوريين لفظة (الملّة) وعلى البطريرك رئيس الملّة وكانوا يتعاملون معه باعتباره رئيس قومه (ملّته) دون منازع. وكانت لفظة (ملّة) هذه بحسب المفهوم التركي تعني [اقراراً بالقومية على اساس الدين]. وحسب المرحوم جرجيس فتح الله في كتابه (نظرات في القومية العربية... الجزء الرابع ص 1753) "كان وضع الملّة الآشورية يختلف عن وضع الملل الاخرى بسبب الموقع الجغرافي". حيث كانت لهم الكثير من الامتيازات والحريات!

          وفي تقرير اللجنة الموفدة من عصبة الامم الى الموصل سنة 1925 جاء ما يلي:- "إن الاسرة التي يخرج منها البطاركة هي السلطة الآشورية الوحيدة التي تعترف بها الحكومتان العراقية والبريطانية".

ويلاحظ الباحث المنصف ان ما كان يطالب به مار شمعون من الحكومتين البريطانية والعراقية لم يكن يتعدى ما كان لدى العديد من شيوخ العرب والكرد في العراق في ذلك الوقت, حيث كانت الحكومتان تقرّ بتلك السلطات وتدير معظم الامور المتعلقة بتلك العشائر من خلال شيوخها. وقد حصل مثل ذلك مع مار شمعون ايشاي بالضبط, عندما تمرد افراد الليفي الآشوريين في حزيران 1932 فكانت كل المفاوضات تجري بين البطريرك والمندوب السامي البريطاني مباشرة. فكان من الموضوعي جداً ان يطالب المار شمعون بحقه في تمثيل قومه وحسب الحاجة. خصوصاً وان الزعماء الآشوريين كانوا قد خولوه كامل الحق في تمثيلهم وذلك في اجتماع (سر عمادية), حزيران 1932.

والغريب ان يشاهد الباحث, بعد كل الذي حصل بحق هذا البطريرك وعائلته المغبونة دينياً ودنيوياً, وبعد قيام المذبحة الشنيعة بحق الآشوريين في آب 1933, وبعد قتل الالاف من الرجال, واغتصاب النساء وبيع الالاف من الاطفال. وبعد طرد عشرات الالاف, واسقاط الجنسية العراقية عنهم! وكل ذلك من دون وجه حق, بل لتحقيق اهداف وغايات سياسية ومذهبية وطائفية وحتى قومية. يشاهد بعد هذا ان الحكومة العراقية وفي عهدها الجمهوري, تعيد الاعتراف بحق البطريرك كرئيس أعلى للآشوريين دينياً ودنيوياً. وعندما استحدثت منصب رئيس الطائفة الآشورية, وذلك من دون كل الطوائف والمذاهب الموجودة في العراق! عندما اعادت اليه اعتباره الديني والقومي بين كافة الآشوريين في العراق وخارجه, بالغائها كافة القوانين المتعلقة بنفيه واسقاط الجنسية العراقية عنه. إذ اصدر (احمد حسن البكر) في 30/4/1970 مرسوماً يقضي بإعادة الجنسية العراقية للبطريرك مار شمعون. وفي اليوم التالي اي في 1/5/1970 اصدر رئيس الجمهورية قراراً ثانياً يقضي بـ "تعيين البطريرك مار شمعون رئيساً اعلى للقومية الآشورية في العراق". وتوالت بعد هذا التاريخ القرارات بتعيين رؤساء الكنيسة المشرقية الآشورية او من يمثلهم في منصب رؤساء للطائفة الآشورية. فكان المطران مار يوسف خنانيشو قد عين في هذا المنصب, وبعده اخوه شليمون, وبعده مالك شليمون بكو, وتلاهم المطران مار كوركيس صليوه الذي مازال حي يرزق... الخ. وتقلد هذا المنصب في الشق الثاني من كنيسة الآشوريين المرحوم خوشابا موشي المتاوي وآخرون.

والسؤال هو: لماذا كانت الحكومات العراقية السابقة تفعل ذلك؟ وماذا كانت تقصد من ورائه؟ وللاجابة نقول: إنها ببساطة كانت تقلد نفس النهج الساساني والعباسي والعثماني..., في التعامل مع الآشوريين سياسياً وادارياً, من خلال شخص الرئيس الاعلى للكنيسة الآشورية في بلاد الرافدين.

وبعد هذه الخلاصة الشديدة حول وضع البطريرك الآشوري النسطوري في ظل حكومات غير آشورية, وغير مسيحية, واحياناً كثيرة غير عراقية, لا يستطيع الانسان الموضوعي والباحث الواقعي المستقل إلا وان يقر بحق البطريرك مار ايشاي شمعون في كل ما ذهب اليه. وانه وقبل تسعين عاماً من الان لم يكن يبتغي غير خدمة شعبه المقهور من خلال نيله لمنصبه التقليدي...!! رغم كل اللوم والاتهامات التي وجهت الى شخصه ومنصبه ليس الدنيوي بل حتى الروحاني, من قبل الفريق الآشوري المعادي والذي لم يكن إلا اداة صالحة لشق صف الامة والاستحواذ على قرارها من لدن غير الآشوريين في ذلك الوقت.

وان كان البعض من ابناء هذا الجيل يلوم البطريرك, ويتهمه بالسعي للاستحواذ على دفة امور الامة لمجرد مطالبته بممارسة صلاحياته التقليدية لخدمتها!! ماذا عسانا نقول عن بطريرك آخر لم تكن كنيسته يوماً قد حشرت نفسها في الامور الدنيوية والسياسية ومن الناحية العلنية على الاقل!! عندما يطالب بقومنة مذهب مسيحي معين, ويصر على منح رئاسته الدينية (الكنيسة) حق وصلاحيات ممارسة مهمة وزارة المالية لكافة المسيحيين في العراق, ونحن في نهاية عام 2009. لا لشيء بل لمجرد كونه بطريركاً على جزء من ابناء هذه الامة! رغم وجود العديد من الاحزاب السياسية, والتي تعمل لخدمة الشعب الآشوري في الداخل والخارج, ورغم توفر الامكانيات لدى العديد من الشخصيات المدنية والاجتماعية والفكرية والادارية ان تنهض بمثل هكذا مهام. عندما يؤكد (البطريرك) وفي بيان رسمي كنسياً "يرى مجمع اساقفة الكنيسة الكلدانية الدائم ان الطريقة الفضلى هي في تشكيل لجان مالية مشتركة, اي من الجهة المانحة ومن جهة الرئاسة الكنسية, في سبيل ايصال هذه المساعدات على نحوٍ عادلٍ ولائق الى الجهات المعنية".