السهول والهضاب المحصورة بين العواصم الاشورية الاربعة، الواقعة شرق دجلة. نينوى، نمرود، دور شاروكين واربيل ـ العاصمة القديمة آشور تقع على هضبة غرب دجلة ـ وبين السلسلة الجبلية شبه المتصلة، من شمال شرق اربيل والمتمثلة بجبال خاني (خانزاد الحالية)، ومن ثم جبال عقرة، وعين سفني، وباعدرا، والقوش، ودهوك الى مشارف دجلة في منطقة بيشابور الواقعة على جانب دجلة الشرقي.
هذه السهول والهضاب والجبال ومنافذها، كانت برمتها أرض آشورية ومصدر السلة الغذائية لهم منذ أن كانت آشور في النصف الاول من الالف الثالث ق.م. أي مع فجر التاريخ. وفيها ظهرت اولى المستوطنات الزراعية العراقية، وفيها تعلّم الانسان تدجين الحيوانات والاستقرار على سفوح هذه الجبال وفي وديانها وهضابها. واستطاع الانسان الاشوري الذي فرضت عليه الطبيعة الوعرة والمناخ البارد شتاء، بالاضافة الى مشاكل الامطار والثلوج وفيضانات الانهار، نوع من التحدي في وجوده. وصر لزوماً عليه اما قهر تلك الظروف أو الهلاك والزوال.
كان هذا الانسان على قدر المسؤولية عندما قبل بالتحدي وانتصر على الظروف وصار شديد المراس قوي البنية جلد صبور محب للحياة والعمران.
هكذا أخضع هذه السهول والهضاب والفيافي، وتسلق الجبال بعد أن كان غادرها منذ أن غادر الكهف وصار فلاحاً. وقام ببناء المئات من الحصون والقلاع والمتاريس فوق قمم هذه الجبال وعلى مشارف منافذها الى السهل الفسيح المطلّ على عواصمه، رمز قوته ومراكز حضارته وعبادته.
هكذا اصبحت السهول مركزاً ملائماً لاقامة أعظم حضارة لاكبر امبراطورية وأطولها عمراً عرفها التاريخ القديم. وشكلت الجبال ومنافذها الى آشور الجبلية، بقلاعها ومعسكراتها ومراكزها التجارية والزراعية سوراً منيعاً ودرعاً بشرياً بوجه كل طامع قد يأتي من الشمال وعلى مدى التاريخ الاشوري. والمتتبع لتوزيع آثار ومواقع هذه القلاع والمعسكرات والمراكز التجارية والمدن والقصبات الزراعية (مستوطنات آشورية) من سلسلة جبال خاني وباستورا شمال شرق أربيل والى نقطة غوص هذه الجبال في نهر دجلة عند بيشابور. تلك المواقع التي يتجاوز عدد المثبت منها الالف موقع، سيجد أن معظمها تقع بالقرب وعلى طرفي المنافذ الجبلية أو النقاط الرابطة بين السهل والجبل، مثل باستورة، ومنطقة بخما والعقرة بالنسبة الى كلي زنطة، وعين سفني وما جاورها بالنسبة الى مدخل خنس، والشيخ العادي الى كلي قركي، وبيت عذري الى كلي الدير (ديركي) ومواقع القوش وبنداواي بالنسبة الى الجبال التي تعانقها من الشمال. ومنطقة آلوكا ومعلتا (المدخل) بالنسبة الى جبال دهوك (بيت خرّي) [1] ومدينة عاصي بالنسبة الى الجبل المحاذي لزاخو جنوباً وهو نفس جبل بيت خرَّي والى بيت شابور وديرـ آبون.
أحد أهم هذه المواقع (المداخل) لما فيه من الاثار والمواقع الاشورية الشاخصة الى يومنا هذا، هو معلتا (Ma'alta) مركز المقاطعة الاشورية القديمة نوهدرا أو بيت نوهدرا. هذا المركز الستراتيجي عسكرياً بالنسبة الى أمن نينوى وضواحيها لقصر وسهولة الطريق الموصلة بينه وبين العاصمة في حالة اختراقه من قبل الاعداء.
حيث توجد في معلتا وعلى اطرافها المئات من المواقع العسكرية والتجارية والمستوطنات الزراعية بالاضافة الى سلسلة قلاع وحصون تعلو قمم الجبال المحيطة بها والى الغرب منها وحتى مشارف دجلة. والتي تعود في معظمها الى عهد الامبراطورية السرجونية التي كانت اصبحت حدودها الشمالية خلف البحيرات، وان، وقزوين، واورميا والى مشارف جبال اراراط وارض الارمن.
أغلب هذه المواقع قد أجرى عليها المهندس الزراعي الامبراطور سنحاريب، التحديث والتطوير والتحصين. وأقام نصب تذكارية عديدة تخليداً لدور هذه المنشآت ولاعماله الجليلة في خدمة الدولة والشعب. ولوخصصت دراسة خاصة عما قام به من مشاريع ارواء وبناء السدود الظاهرة والغاطسة على الانهار ومنها دجلة، حيث عثر على ثلاثة سدود غاطسة في قاعه بين نينوى وآشور، وظيفتها رفع مستوى المياه لكي تتسلط على السهول والاراضي المجاورة، بالاضافة الى شق الترعات وبناء العبّارات لايصال المياه من مناطق بعيدة الى عاصمته الجبيبة نينوى والسهول المحيطة بها والى شمالها.
وما سدّ خنس وعبارة جروانة وقناة بنداواي والقناة العظيمة التي تمر بالقرب من تاربيسو مركز تدريب وتربية الامراء واولياء العهد والقادة ورجال البلاط. ـ هذه المدينة التعليمية التي يدل اسمها على الغرض منها فهو يعني التربية ـ الا دليل بسيط على ما قام به من الاعمال الجبارة.
وبالعودة الى Ma'alta مركز نوهدرا العسكري والتجاري والزراعي وما يحيط به من المواقع المندرسة والشاخصة للعيان والموزعة من مانكيش وزاويتا وكلي دهوك ـ منطقة سد دهوك ـ وبروشكي وكهوف ومغارات شاخكي والى تل قصري وباتيل وشمئيل (سميل) وموقع صوركا وعاصي والمئات بين هذه وتلك. ومن المواقع القديمة والعائدة الى العصر الاستيطان الاول وامتهان الزراعة وبناء المساكن الثابته والتي تفتخر بها دهوك حالياً، موقع قرية نمريك والتي يعني اسمها شبل النمر.
هذه المنطقة الكثيفة بالسكان منذ ايام الامبراطورية وفي العصور المسيحية المختلفة والى بدايات القرن الماضي. كانت ومازالت متحفا" اشوريا" عن الارض الطبيعية بحق. حيث القلاع والقصور والمستوطنات موزعة وبشكل متواصل من وراء الجبل والى مشارف دجلة من منطقة سلوبي ـ في تركيا الحالية ـ والى مشارف نينوى ولكن يبقى اهمها وابرزها واكثرها شموخا" في وجه التخريب والتشويه وعاديات الزمن المختلفة في هذه الدنيا والذي عرف اثاريا" ب( منحوتة سنحاريب) او نصب معلتا والواقع في صدر الجبل المحتضن لقرية شندوخا الى الجنوب من نهر دهوك. تلك القرية التي هي الاخرى اخذت اسمها الاشوري والى حدّ الساعة من عظمة ورمزية وشموخ هذه الجدارية، لان لفظة شندوخا تعني في الاشوريات القديمة والمعاصرة الصخرة العظيمة .
انها عظيمة حقاً، فالصخرة التي يتزين وجهها الخالد ومنذ ثمانية وعشرين قرنا" من الزمن بذلك المشهد السماوي ـ الارضي، ذلك الاجتماع المهيب المنعقد بين جميع اعضاء مجلس الآلهة الاشورية المعظمة مثل اشور وأنليل وسن وشمس وأدد وعشتار...الخ وبين الملك الاشوري سنحاريب.
هذه الآلهة العظمى والتي كانت لا تصور بصفة عملية قط، الا في حالات استثنائية ونادرة . كانت احداها تلك اللوحة الحجرية التي يرقى تاريخها الى عهد آشور ـ ناصربال حيث يظهر عليها الاله آشور او شمس محمول على قرص مجنح يحوم فوق ساحة المعركة ليؤازر الملك ويجلب له ولعساكره النصر المبين.
![]()
الاله آشور، في هالة من النور، وهو مستعد لرمي السهم. القرن التاسع ق.م.
ولكن هذه الالهة العظمى وان لم تكن موجودة على جدران القاعات وأروقة القصور الملكية في سهل نينوى وعلى ضفاف دجلة، الا انها ظهرت هنا وهناك في القصور والمواقع الاقليمية. كان اهما واقربها الى نينوى في بافيان وموقع خنس وجدارية معلتا موضوع البحث.
فهنا كان وجه الصخرة العظيم قد وفر مساحات وسطوح واسعة تكفي لتصوير مواكب احتفالية كبرى مع صور فخمة لجميع الالهة العظيمة. ففي هذه المنحوتة يرى سنحاريب ببزته الرسمية وهو يقدم الولاء ويستلم التوجيهات والبركات من الالهة التي حضرت وهي في أبهى حللها وعلى صدورها الشارات والنياشين المقدسة. وكل واحد منها يقف على ظهر حيوانه الخاص.
![]()
الملك سنحاريب في حضرة الالهة وهي
واقفة على ظهور حيواناتها
اذ يشاهد آشور واقف على ظهر الثور وكذلك الحال بالنسبة لأدد ، اما عشتار الاربيلية فهي واقفة على ظهر الاسد وهكذا الحال مع البقية فهي تظهر واقفة على ظهر الكبش والوعل والنسر الخرافي والنمر..الخ بالاضافة الى بعض الحيوانات الخرافية الاخرى .
والجدير بالذكر هنا ان ركوب الالهة الاشورية أو وقوفها على ظهور الحيوانات المميزة كانت ظاهرة معروفة في المنطقة برمتها. اذ نشاهد ان النبي اشعيا قد لمحّ الى ذلك ـ ولعله لم يفهم المغزى منها ـ حيث وصف مبتهجاً سقوط معبودات بابل عندما قال "لقد هوى بعل، وتداعى نابو، وكانت اصنامهم على ظهور الوحوش والماشية".
وفي كلمة اخيرة لابد من القول، أن متاحفاً اشورية طبيعية يمكن مشاهدتها هنا وهناك من دجلة الى النيل ومن نينوى الى طيبة ذات المائة بوابة. وكذلك من نينوى واربيل والى توشبا القائمة على صخرة بحيرة ومدينة وان.
كل ذلك على الرغم من الدمارالمفرط الذي اقترفه الغزاة بحق البلاد واهلها، عندما سقطت نينوى، وعلى الرغم من استمرار ذلك الدمار المتعمد هنا وهناك لحد الساعة، فأن الموجود من بقايا القصور والقلاع والمدن والجداريات والنصب "وتماثيلها التي خططت على ذات النطاق الهائل، تجعلنا نتحقق من عظمة الانجاز الاشوري" [2] .
![]()
جانب من المسطح الصخري الواسع في لحف جبل شندوخا
وعليه منحوتة الملك سنحاريب وهو يتوسط مجمع الالهة العظام
وعلى الرغم من تركيز معظم ذلك الفن الهائل في الكم والنوع على الجانب العسكري، وانه لم يهمل اياً من احوال ميدان القتال، اذ ان تطور والالهام في هذا المجال كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحوادث التي كانت تقع على ارض المعارك. فأن مشاهد الصيد والزراعة وخطوات بناء القصور والمعابد والمشاهد المتعلقة بالملاحة والسفن والنباتات المائية... الخ. كانت نتاجات انسانية نبيلة تستحق ان تصنف بين انفس التحف والمقتنيات الفنية القديمة من لوائح فنون العالم في هذا العصر.