الأرمن وقصة مليون ونصف شهيد...

بقلم آرا  سوفاليان

 

أيام قليلة تفصلنا عن الرابع والعشرين من نيسان ابريل ذكرى التضحية والبطولة، عندما قرر الاتحاديون افناء شعب بأكمله وإحتلال أرضه ومحوه من الوجود.

والمؤلم في الأمر أن هذه القضية لم تنل حقها من الاهتمام في أيٍّ من المنابر العالمية، ولم ينل ضحاياها أدنى درجات التعاطف، لأسباب كثيرة أهمها المصالح والعادات والتقاليد المشتركة ووحدة الدين، وايديولوجية ناصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، والأهم من كل ذلك (الفيتو الأميركي).

 ففي معرض دفاعه المستميت عن وجهة نظره التي تؤدي إلى قلب الأدوار فيما يتعلق بالجاني وبالمجني عليه، نصحني صديق بقراءة كتاب الأميرة عائشة عثمان أوغلي، (والدي السلطان عبد الحميد الثاني)، فتذكرت أني قرأته فيما مضى، فبحثت عنه ولم أعثر عليه، فتبين لي أنه غير مؤرشف، فلقد دَرَجتُ على عادة وهي قراءة الكتاب ثم التعليق عليه في متن الصفحة الأولى وإعطائه رقم وقيده في الأرشيف ووضعه في المكان المخصص له، ولأن الأرشيف لا يحوي هذا الاسم فلقد وقعت في حيرة من أمري، لأني متأكد من شرائه في فترة ماضية وتذكرت المكتبة التي اشتريته منها وهي تقع في منطقة الحلبوني وفوقها مستودع كبير للوازم طب الأسنان تربطني بصاحبه علاقات عمل حتى اليوم!

 وقد حضرت حفل افتتاح هذا المستودع وأذكر أنني اشتريت هذا الكتاب فور خروجي من حفل الافتتاح وهذه المسألة تعود لعشرين سنة ماضية بالتقريب.

وسألت عن الكتاب فعثرت عليه في دار أهلي،( وقد بَطُلَ العجب بعد معرفة السبب).

 لقد أخذت الكتاب معي إلى دار أهلي وقرأت قسماً منه هناك ووصلت فيه إلى حادثة قرأتها فاكتشفت بعدها أن السلطان عبد الحميد هو يقيناً صاحب القلب الكبير، والمحسن الأكبر وظل الله على الأرض والخاقان الأعظم والذي وقع عليه ظلم فادح بعد أن غمر االبشرية جمعاء بلطفه وفضله وإنسانيته .

 ولا بد أنني شلفت هذا الكتاب في مكان ما وتوقفت عن قراءته فوضعته أمي في المكتبة في دار أهلي وظل هناك طيلة هذه المدة لا يفطن إليه أحد ولم أكمل قراءته بالطبع ولم أكتب أي تعليق في الصفحة الأولى ولم تتم أرشفته بالمطلق ولم يدخل مكتبتي.

والآن وبعد أن حل التداني وحلاوة اللقاء بعد النأي فلقد بدأت بقراءته، فتكرر ما حدث لي وتوقفت في نفس النقطة وعدت لشلفه وإليكم ما حصل  بالتفصيل.

في بدايات الكتاب وفي قسم باكورة الأولاد وباكورة الأحزان قرأت ما يلي:

كان المولود الأول الذي رُزق به الوالد أيام كان أميراً: هي الأميرة علوية التي وُلدت العام 1868 م وتوفيت محترقة بعد ذلك نتيجة لحادثة مروعة (1875م). وأمها هي " نازك آدا قادين"، وظلت الزوجة الأولى "باش قادين" لوالدي حتى وفاتها، وكانت الأميرة جميلة أخت والدي قد ربَّتها وقدمتها له عندما بَلَغَ سن الزواج، وتنسب "نازك آدا" إلى عائلة جركسية أصيلة.

وكانت ولادتها للأميرة علوية باعثاً على فرح والدي الشديد، وتعلَّق بها بحب يزيد عن الحد، كما كان أخوه الأكبر مراد أفندي وأخوه الآخر المحبوب برهان الدين أفندي يُحبان الأميرة علوية كثيراً، ولا يجدان سبيلاً لتقاسم هذا الحب، يأخُذانها للنزهة ويشتريان لها اللعب ثم يعودان بها.

وكانت الأميرة علوية طفلةً غاية في الرقة، جميلة، يفوق عقلها سنَّها. وقد أمَر الوالد بتصويرها بالزي القديم، ولا زالت هذه الصورة عندي. ويقولون أن أمها كانت رائعة الجمال، وإن الأميرة تشبه أمَّها: سوداء العينين طويلة الأهداب، بيضاء البشرة، وردية الخدين، شيء يُشبه الملاك، وإن أمها حافظت هي الأخرى على جمالها حتى أيامنا الأخيرة، غير أنها كانت ممتلئة الجسم قليلاً.

بدأت الأميرة علوية تتعلم القراءة، وتقدمت كثيراً، وذات يوم ذهبت إلى معلمها، فلما أتمَّتْ درسها وعادت، دخلت حُجرة أمها، وكانت آنذاك تعزف البيانو حتى برعت فيه، ووجدت الأميرة الصغيرة كبريتاً بالشمع على المنضدة، كانوا قد اخترعوه حديثاً، فتناولته وشرعت تلعب به، وكان شعرها منسدلاً على كتفيها وعليها فستان من التَّل، ولم يمهل القدر تلك الطفلة المسكينة، فاشتعلت النار بالتَّل وأمسكت بشعرها، وكانت أمها مشغولة بعزف البيانو تعطي ظهرها للطفلة، فلم ترها المسكينة أول لحظة حتى تسعفها، ولما سمعت الصراخ ورأت النار ألقت بنفسها عليها حتى تنقذها، غير أنها لم تستطع فعل شيء.

وكان الوقت وقت تناول الغداء، فلا أحد في الطابق العلوي حتى يسرع لنجدتها، وبينما هي تعمل على إخماد النار، تسقط هي والطفلة على الأرض فيتدحرجان وتلتهم النيران يديها وذراعيها ووجهها، ومع ذلك لم تستطع إخمادها.

وكان على الأرض حصير، وببغاء في الصالون، راح يطلق صيحاته المزعجة، فنبَّه العاملين في الطابق السفلي، حتى هرعوا إليها، وخلال دهشتهم جميعاً، وجدت مربية الأميرة سجادة فطرحتها عليها وأخمدت النار، غير أن الطفلة المسكينة لم يكن قد بقي بها رمق، واستدعوا الأطباء في الحال، وأخبروا مراد أفندي والإخوة الآخرين، واتخذوا كل التدابير واستخدموا كل الأدوية التي عرفها الطب في ذلك الزمان.

ويَحكون أن والدي كان يذهب كل صباح إلى "طرابيا" ويَنزل البحر آنذاك، فأرسل مراد أفندي أحد القوارب إليه في الحال، كما أخبر الأميرة الوالدة "برتونيال"، وجاء أبي على التو، وجعلهم يُذيعون الخبر في كل الأنحاء بأنه "فليأتِِ كل من يوجد من الأطباء، وليُنقذوا الطفلة".

ويقولون: إن الذين ذهبوا بالقارب إليه ما إن قالو له: إنهم يطلبونكم في السراي، حتى وَقع الخوف في قلبه وسألهم: (ماذا هناك؟ هل الوالدة مريضة؟ ماذا حدث؟ ) ولم يخبروه بشيء بالطبع.

فلما جاء السراي استقبله عند الرصيف مراد أفندي وإخوته الآخرون، وعانقه مراد أفندي، وقال له: ( لا تنشغل، إن الأميرة في وعكة بسيطة). وأدرك والدي أن الحالة سيئة فهرع إلى غرفة ابنته، فلما رآها ترقد وقد غطوا كل أطرافها عدا وجهها شعر باضطراب، وفتحت الطفلة عيناها هي الأخرى ونادته (بابا) ثم أسلمت روحها لبارئها. وعندها سقط الوالد على الأرض.

ورفعه إخوته عن الأرض وأخرجوه من الغرفة، فلما أفاق قليلاً، استدعى برهان الدين أفندي إحدى العربات ونقله إلى منزل "برستو قادين" في حي "ماجقا" وظل هناك مدة.

وقام السلطان عبد العزيز بعمل اللازم، وأرسل الخبر إليه بأنه "على بنيَّ أن لا يحزن"

ولم ينس الوالد أبداً ألمه على فراق ابنته الأولى، المحبوبة، الأميرة علوية، وكان وهو يتحدث عنها حتى الأيام الأخيرة يقول وهو يتأوَّهُ من أعماقه: "أبقاكم الله لي". وكان إذا علم بمرض أحدنا يشعرُ بالضيق ويضطرب حالهُ ويستدعي الأطباء، ويفعل ما بوسعه، وذلك على الرغم من قوله "لن أتعلَّق حُباً بأولادي من بعد، قدر تعلقي بابنتي علوية".(هنا انتهى الاقتباس من الكتاب، وهنا أيضاً تم شلف الكتاب للمرة الثانية).

وبعد هذا يا أمير المؤمنين، يا صاحب القلب الكبير، تذيق هذه اللوعة لمئات الألوف من رعيتك من الأرمن في أنفسهم وزوجاتهم وشيوخهم وأولادهم وبناتهم وأطفالهم من الرضَّع، وهم أهل ذمتك وأهل ذمة المسلمين وهم من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أخذ عليهم عقال بعير كنت خصمه يوم القيامة))، ماذا لو سمع ابن الخطاب بسوءتك، أو أبا بكر الذي أوصى قائد جيوش الفتوح بما أوصاه وهو ممسكاً بلجام خيله وهو راجل.

لم تكتب عائشة عثمان أوغلي سطر واحد تتحدث فيه عن فظاعاتك، فهي كغيرها تغرق بتمجيدك كآخر سلاطين آل عثمان وآخر خليفة للمسلمين، وهذا كفرٌ و زيف بزيف وإغراق بالوهم والوهن فما أنت إلاَّ السلطان الأحمر بعد الذي اقترفته يداك... فهذا هو ما فعلته بشعبي وخلفك شعبك وبعدك آخرين فعلوا أكثر منك بألف ضعف، فلقد فتحت لهم الباب وأرشدتهم إلى الطريق، مع أنه لم يكن لك أو لشعبك أي وجود قبل القرن الحادي عشر الميلادي ، ففي كل كتب التاريخ القديمة الأجنبية منها أو العربية الإسلامية، لم يَرِدْ على أغلفتها وفي متنها وعلى خرائطها إلاَّ أرمينستان أو بلاد الأرمن أو أرمينــيا حيث لم يكن قبل ذلك لكم أي وجود هناك، وأرضنا تشهد وفراتنا يشهد وآرارادنا وصخور عاصمتنا آني وبواباتها وأبراجها وجبال فان وبحيرتها والكنائس والمعابد والقلاع والأسوار، صارت كلها لكم ونحن أغراب،و ها نحن الآن شعب بلا أرض ... وهذا ما فعله أجدادك وتابعته أنت بوحشية غير مسبوقة وأنجزه حتى التمام طلابك جماعة الاتحاد والترقي من بعدك، الذين برعوا في ذلك إلى درجة أن وحشيتك صارت تسَّلِمْ وتتمسح بوحشيتهم متباركةً منها.

القلوب الرحيمة لأجدادك العظماء فعلت ما يلي:

في معمورة العزيز أو الدربند أو باب الأبواب أخرج الأرمن ألف طفل يرتدون الملابس البيض وبيدهم الورود لمقابلة جدك الفاتح العظيم، لعلهم ينالون العفو أو الرحمة مع العلم بأنه لم يسبق لهم التشرف بمعرفته أو محاربته لا بالحقيقة ولا بالخيال ولا بالأحلام، ولم يكن لدى الأرمن جيش ولا عتاد لأن الرومان من الغرب والفرس من الشرق لم يتركوا للأرمن، لا جيش ولا رجال ولا عتاد، فكان قلب جدك الفاتح يتساوى في الرحمة مع قلبك، فلقد عقر بطون الأطفال بسنابك الخيل، وظل هذا العقر بوتائر متصاعدة جيلاً بعد جيل وسلطان بعد سلطان حتى مجيئك أنت، واليك يا صاحب القلب الكبير الرحيم ما كتبوه فيما يتعلق بما فعلته أنت.

كانت صاصون شوكة في حلق العثمانيين، صاصون تلك المدينة الجبلية العصية جعلت السلطان عبد الحميد يخرج عن صفاته الثلاثية التي يظهرها للعلن  الحلاسة والدماثة والملاسة ليستبدلها بالنجاسة ويقرر أن صاصون في كفة الميزان الأولى أما الكفة الثانية ففيها العرش وتاج آل عثمان وهيبتهم.

أما أهل صاصون فكانوا يلقون الصخور على ألوية الجيوش التي تفكر بالمرور في أراضيهم للصعود إلى جبالهم ويحرقون المدافع التي يتم تسليط فوهاتها إلى السفوح، وكانت نساؤهم جيش مقاتل تتبرجن بأمشاط الرصاص على الخصور وتتصالب على الصدور وتحمل المرأة الواحدة بندقيتين لأن كل أهل صاصون يعرفون أن معركتهم هي معركة وجود فإن هم خسروا الحرب فسيعمد آل عثمان إلى حرق جذورهم وأصولهم وفروعهم وحقولهم وغاباتهم واحراجهم وجداول مياههم وقطعان ماشيتهم وهذا ما حصل لأشد الأسف.

ومن الطبيعي أن لا تتوازى مقدرة المقاتلين الثوار مع مقدرة السلطنة لأن للسلطنة ميزانيتها ومكلفيها وجامعي ضرائبها وأتاواتها وجلاوذتها وجباريها والمتنطحين للانضمام تحت لوائها لجني ثمار المنفعة والحماية ولإضفاء الشرعية لأعمالهم اللامشروعة وهم رهن الإشارة ورهن الأوامر، وبالتالي فلقد وقع أهل صاصون بين نارين الأولى نار الحكومة الممثلة بجيشها وشرطتها ومالها وذهبها وعسسها ومخبريها وخزنة سلطانها والفرق الحميدية ، والثانية نار قطاع الطرق ورؤساء العشائر الكردية والشتا واللصوص والمجرمين الذين منحوا العفو مقابل محو صاصون وأهلها من الوجود.

وكانت الغلبة للأقوى والأقوى هو من كانت خزائنه أقوى وضاعت صاصون فلقد تم إفناء رجالها في الجبال بعد أن قاتلوا حتى آخر رمق، وزحفت الجيوش واقتحمت صاصون فلم يعثر فيها إلاَّ على الشيوخ و النساء والأطفال.

زيتون وصاصون والكفاح البطولي من أجل البقاء، وتحولت النساء إلى مضرب مثل فهناك شاكيه Chakeh  الصاصونية التي لا تبرح مخيلتي فلقد حرضت رفيقاتها على الانتحار الجماعي لتجنب الوقوع بين براثن الوحوش.

ففي المنعطفات المشرفة على الوديان السحيقة حيث الصخور المسننة، تشابكت أيادي بنات صاصون في طقس قدسي وارتمت الأجساد طائرة في الهواء والأيدي متشابكة تستمد العزم من ينابيع البطولة وتتهاوى إلى الأسفل للقاء الصخور المسننة فأهلاً بالموت فهو البلسم المنجّي من العار.

ومات الكثيرون ونجى القلائل فهناك من حزم أمره وغادر صاصون قبل السقوط أو قبل سيل الحقد العارم حيث عربات القش المشفوعة بعربات النفط التي حشرت في مداخل الكنائس ونوافذها والأجساد متكدسة في الكنائس، الأم وأطفالها والشيخ وأحفاده والكل متعب ومنهك وجائع، وتم رش النفط على القش وحفلة شواء مروعة راح ضحيتها نساء وشيوخ وأطفال صاصون عن بكرة أبيهم وكان الله منشغل في أمر لا نعرفه وغير عابئ بهدير أصوات المصلّين فاقدي الرجاء ولا بدعائهم خلف الداعين من رجال الدين الذين لا يجيدون إلاَّ حضّ الناس على الدعاء والابتهال والترجي والصلاة والتراتيل وأنا في أشد العجب من إنسان مقبل على الموت ويغني.

وهذا الذي ورد هو ما اقترفته يداك الطاهرتين في زيتون ثم صاصون في الأعوام 1894 إلى 1896 م وفي الوسط مذابح طرابزون التي بدأت في أوائل اكتوبر تشرين الأول عام 1895 وروعت البشر والحجر ووصلت أخبارها عن طريق قناصل الدول الغربية من أعداء السلطنة ومن أصدقائها على السواء إلى أقاصي المعمورة، ورغم السرية التامة فلقد وصل بعضها إلى الصحافة وقتذاك وأهمها تقرير القنصل زاكورسكي قنصل النمسا المؤرخ بتاريخ العاشر من اكتوبر تشرين الأول عام 1895 هذا التقرير المروع والمرسل إلى فيينا والذي روع البلاط في فيينا، بعد أن روع مرسله، وسبب له كآبة وأسى لم يشف منهما، ثم مذابح ارزروم بعد شهر، والمذابح التالية المتلاحقة حتى العام 1898 عام القضاء على آخر فلول المقاومة في صاصون، حيث تم منح الرعاع و الشتا والقتلة والفرق الحميدية ورؤساء العشائر الكردية الأوسمة والنياشين والشرائط الحريرية البيضاء والعلاوات والمنح والعطاءات والإقطاعات. وحجتك هي العصيان والتمرد وحجة المتمردين هو تساوي طرفي المعادلة: ظلمك ووحشيتك وقيدك وسوط جلاوزتك وخناجرهم وسيوفهم ونارهم وظلمهم وسرقتهم للقوت والغلال والمال والحلال واعتدائهم على الأعراض من جهة والموت من جهة أخرى، وكان تساوي طرفي هذه المعادلة يرجح الطرف الأسهل وهو الموت، وقد اختار شعبي الموت.

قال المدافعون عن نظرية آخر خلفاء المسلمين والخلافة العثمانية إننا وضعنا لجلالتك قنبلة وبالتالي فيجب أن نتوقع ردة فعلك هذه، وأقول لهؤلاء، بعد إبداء أسفي الشديد لفهمهم مجريات الأمور بالمقلوب وانصياعهم لمقولة ناصر أخاك ظالماً أو مظلوماً هذا الانصياع الذي أدى إلى ما أدى إليه من الشك والريبة في عيون الغرب ثم الإهمال بعد أن قدَّم أجداد أصحاب هذه النظرية للغرب أول شعاع الحضارة في آنية من ذهب وبالمجّان.

نعم لقد وضعنا لجلالتك قنبلة ولكن في 21 يوليو/تموز عام 1905 م، وهذا بعد اثنا عشرة سنة من الصبر واحتمال نير عبوديتك وسلاسل أصفادك وسجونك وسجانيك وآلات التعذيب والعذاب، وجراحات وقتل وفظاعات جلاوذتك وسفاحيك، على أمل البقاء حتى معانقة تراب الوطن أو لثمه لثم المفارق ولكن هذا الأمل جعله قَتَلَتُكَ شيء صعب المنال.

وأضاف المدافعون عن نظرية آخر خلفاء المسلمين والخلافة العثمانية إننا اقتحمنا البنك العثماني وفجرناه وقتلنا حاميته وسرقنا الذهب الذي كان فيه وبالتالي كان علينا أيضاً أن نتوقع ردة فعلك... وبالطبع أعود وأقول لهؤلاء، بعد إبداء أسفي الشديد للمرة الثانية، لفهمهم مجريات الأمور بالمقلوب وانصياعهم لمقولة ناصر أخاك ظالماً أو مظلوماً هذا الانصياع الذي أدى إلى ما أدى إليه من الشك والريبة في عيون الغرب ثم الإهمال بعد أن قدَّم أجداد أصحاب هذه النظرية للغرب أول شعاع الحضارة في آنية من ذهب وبالمجّان.

نعم لقد اقتحم فدائيونا البنك العثماني في السادس والعشرين من أوغست/آب من العام 1896 بعد أن وصل عدد ضحايا الابادات الحميدية في صاصون وزيتون وطرابزون وارزروم إلى ألوف مؤلفة ولمس الأرمن تجاهل الغرب لهذه المجازر، بل وشعروا أنه يباركها، وقد عُقدت صفقات تم فيها بيع دماء الأرمن بأثمان بخسة، وكانت هذه العملية ذات أهداف إعلامية للفت أنظار العالم المتحضر إلى معاناة الأرمن، خاصة وأنها قد حدثت في العاصمة وعلى مقربة من السفارات الأجنبية، وهي أول عملية فدائية من هذا النوع في التاريخ الحديث، وقد تم اقتحام البنك من قبل عشرون رجل وبقيادة القائدين بابكين سيوني وآرمين كارو باسدرماجيان، وقد استشهد الأول أثناء الاقتحام... ولم يحدث أي تفجير ولم تقتل الحامية، ولم يُسرق غرام واحد من ذهب البنك، ولم يكن في مفردات جدول العملية هكذا هدف، فلقد كانت العملية إعلامية بحته تهدف إلى لفت نظر العالم إلى ما يحدث في السلطنة  فلقد سارع السفراء الأجانب إلى التدخل وطلبوا من الفدائيين الأرمن إخلاء البنك وقدموا ضمانات بعدم التعرض لهم أثناء الإخلاء، ولم يحتفظ هؤلاء برهائن ولم يطلبوا أي مطالب أو مكاسب من أي نوع، وتعهد السفراء بضمان سلامتهم، وتم نقلهم إلى مركب أبحر باتجاه مارساي في فرنسا ووصلوا إلى هناك بسلام.

وفي اليوم التالي خرجت صحف العالم بأنباء الاقتحام وأسبابه ، وتم نشر صور للمجازر وعَرِفَ العالم صاحب القلب الرحيم وخاقان البحرين وظل الله على الأرض، السلطان الأحمر المتربع على عرش من الدماء. 

وتم خلع السلطان عبد الحميد عن العرش يوم الثلاثاء 27 نيسان عام 1909 ميلادية و أرسل إلى قصر علاتيني ثم إلى سلانيك، وتم الاستيلاء على أمواله المودعة في البنك، وأعيد إلى استنبول بعد تأزم الأوضاع وميل كفة حرب البلقان لغير صالح الترك، ووضع في قصر بكلربكي، وظل هناك حتى نشبت الحرب العالمية الأولى وزاره أتاتورك في بكلربكي ثم أنور باشا ناظر الحربية، ومرض وتوفي الأحد في العاشر من شهر فبراير/شباط عام 1918 ميلادية.

أما تلامذته جماعة الاتحاد والترقي الذين خلعوه وجلسوا مكانه، فلقد صادروا أمواله وذهبه ومجوهراته وهداياه وحريمه وهدايا حريمه وتم بعد ذلك تسريح من لا يلزم و أقفلت مطابخ قصور يلدز وأخليت هذه المدينة من ساكنيها، وترك الاتحاديون لورثة السلطان كل أختامه بعد أن تم التحفظ عليها في ظرف مغلق بالشمع الأحمر بحيث لا يفتحه أحد بعد أن أخذوا صورة عن هذه الأختام، وسُلِمًّ هذا الظرف إلى ولده الأكبر محمد سليم أفندي ... وكان نخب انتصارهم مجازر كيليكيا عام 1909 فلقد أوقدوا مجزرة في أدنا تم خلالها قتل ثلاثون ألف أرمني، ولم يعرف السبب فلقد كان من المعروف أن الأرمن هم حلفاء العهد الجديد، وهم الشركاء في جهود الخلاص من هذا الطاغية.

 وفي 24 أبريل / نيسان 1915 تفجر الحقد الأعمى، الذي سبقته محاولات لاستمالة أرمن شرق تركيا، حيث طُلب منهم القيام بأعمال في خدمة المجهود الحربي، ولكنها أعمال لا يمكن لمن في وضعهم القيام بها، لأنها تقع في دائرة الأوهام لاستحالة تنفيذها، والقصة أنه كان في جيوش القيصر الذي أزمع على مهاجمة السلطنة بعض مواطنيه الأرمن وهم ما دُعي بالأرمن الروس، وكان هؤلاء يشتركون مع أرمن تركيا بوحدة الأصل والدين واللغة، وقد طَلب ممثلوا الدولة وهم ممثلوا حزب الاتحاد والترقي في الولايات الشرقية، طلبوا من قادة الأحزاب الأرمنية أن يوعزوا إلى الأرمن الروس المنضوون تحت قيادة قيصر روسيا، بأن يتركوا قيصرهم وينقلبوا عليه، وينضموا إلى أرمن تركيا وإلى الأتراك لمحاربة روسيا بمعنى خيانة قيصرهم، وطلبوا وعداً بأن يضمن رؤساء أحزاب الأرمن في تركيا  نجاح هذا الأمر، وعُقدت من أجل ذلك مؤتمرات حزبية وجاءت وفود وذهبت وفود وطالبت بعهود وكان جواب رؤساء الأحزاب في أرمينيا التركية بأننا كمواطنون أرمن في السلطنة فنحن نضمن أنفسنا ونضمن ولاء مواطنينا الأرمن لتركيا وعلم السلطنة، ولكننا لا نضمن ولاء الأرمن المنضوون تحت علم قيصر روسيا وليست لدينا أي سلطة عليهم، ولا يمكننا إعطاء أي عهد أو مقولة شرف بالنيابة عن غيرنا.

والويل والثبور وعظائم الأمور لكم ولجنسكم أيها الأرمن، وتم تعليم كل أتراك تركيا حتى المواليد الجدد، تم تعليمهم ترديد عبارة (الأرمن كاوور أي كفَّار وخاين أي خونة).

وذهب أنور باشا للحرب في صاري قاميش وكان الجيش التركي في ثيابه الرثة وأقدامه العارية فوق الثلج وقد تم صنع زحافات خشبية بدائية أرهقت الجيش وأعاقت حركته، في حين كان في جيش القيصر الكوزاك، المحاربين العتاة وأغلبهم يجيد الطيران بالزحافات، وعلقت مدافع الجيش العثماني في الثلج وتجمد الجنود من البرد وتحولوا إلى أهداف متجمدة وأغلبهم لا يملك ملابس مناسبة وعدوهم يختال بمعاطف الفرو المخصصة لمثل هذه الحالة، فتم الإجهاز على معظم الجيش التركي الذي منيَّ بهزيمة فادحة، وكان القيصر بصدد إقامة حفلة شواء عامرة، احتفالاً بالنصر المبين، وكان قد أقسم على أن يكون أنور باشا قائد الجيش التركي ووزير الحربية على سيخ واحد مع أول غزال في حفلة الشواء هذه، وقد كان أنور باشا على قاب قوسين من الأسر، فتقدمت جماعة من الجنود الأرمن الأشاوس وكسروا حلقة الحصار وحملَّ أحدهم أنور باشا على ظهره وهرب به إلى الخطوط الخلفية.

وانتشر خبر الهزيمة في صاري قاميش، وأعترف أنور باشا ببطولة منقذيه وقال أن شرفه العسكري يحتّم عليه الإقرار بذلك، ومع ذلك فلقد حمَّل الاتحاديون الأرمن أسباب الخسارة في صاري قاميش وكانت هناك جملة واحدة قابلة للفهم وهي: (الأرمن كاوور أي كفَّار وخاين أي خونة)، وكل ما عداها لا يُستمع إليه ويعتبر غير مفهوماً على الإطلاق.

وتم تحويل كتائب الجيوش المقاتلة من الأرمن في الجيش التركي إلى كتائب سخرة وتم تجريد الجميع من سلاحهم وتفريقهم إلى جماعات اقتيدت إلى جهات مجهولة وأمر أفرادها بحفر قبورهم وتم قتلهم جميعاً وإلقائهم  في الحفر وتركوا في قبور جماعية مفتوحة وصاروا طعاماً للضواري وطيور السماء.

ولأن تركيا كانت في حالة النفير العام فلقد تم اقتياد جميع الذكور من عمر الثمانية عشر وحتى الخمسون بما فيهم دافعي البدل، وبالتالي فلقد فرغت كل المدن والضيع الأرمنية من ساكنيها، ولم يبق فيها إلاَّ الأطفال والأولاد والنساء والشيوخ والمرضى والعجائز، وتم إعلان الجهاد و استنفار الأكراد فشكلوا عصابات مسلحة فأغاروا على المدن والضيع فقتلوا ونهبوا وانتهكوا الأعراض وبدأت طوابير الترحيل والإبادة باتجاه ولاية سوريا وصحراء دير الزور، وكمن الأكراد للسوقيات خارج المدن واتفقوا مع حرس السوقيات على شراء كل سوقية على حدا، وعند وصول السوقية إلى مكان متفق عليه، يهرب الدرك، ويهجم الأكراد على أفراد السوقية فيقتلونهم جميعاً لتبدأ رحلة السكاكين في معدة وأمعاء القتلى بحثاً عن الذهب، فلقد كانت النساء الأرمنيات يبتلعن بعض الليرات الذهبية ليستعن بها على شراء الماء والطعام، أما الفتيات الجميلات  فكن يُسقن إلى السبي فيجرب بهنَّ كل ما يمكن تجربته ليتم قتلهنَّ فيما بعد، ونجح العرب الرحل في تخليص بعض الأرمن من الموت فعقدوا على من بقي من النساء وتزوجوا بهنَّ، وأخذوا الأطفال وتولوا إنقاذهم وإطعامهم، وفي الولايات التركية استطاع بعض رجال الدين الأميركان من البروتيسانت استطاعوا جمع الأيتام ونقلوهم إلى لبنان وأخذوا بعضهم إلى الولايات المتحدة، ونجحوا في استعادة الكثيرين من بنات الأرمن من دور الأيتام التركية، وجاء السقوط المروع للسلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ليساعد الحلفاء في فرض شروطهم وإيقاف التنكيل بالأرمن وإنقاذ من بقي منهم على قيد الحياة وتوقفت عمليات الإبادة والتنكيل بمكرمة من الشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى وهي الآتية:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده

الديوان الهاشمي

من الحسين بن علي ملك البلاد العربية وشريف مكة وأميرها إلى الأمراء الأجلاء الاماجد فيصل والأمير عبد العزيز الجربا السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد.

صدرت الأحرف من أم القرى بتاريخ 18 رجب 1336 نحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم ثم نصلي ونسلم على نبيه وآله وصحبه وسلم. ونخبركم بأنا والثناء له تبارك وتعإلى بصحة ضافية وافية أسبل الله علينا وإياكم سوابغ نعمه.

وإن المرغوب بتحريره المحافظة على كل من تخلف بأطرافكم وجهاتكم وبين عشائركم من الطائفة اليعقوبية الأرمنية تساعدوهم في كل أمورهم وتحافظون عليهم كما تحافظون على أنفسكم وأموالكم وأبنائكم وتسهلون كل ما يحتاجون إليه في ظعنهم وإقامتهم فإنهم أهل ذمة المسلمين والذي قال فيهم صلوات الله عليه وسلامه (من أخذ عليهم عقال بعير كنت خصمه يوم القيامة) وهذا من أهم ما نكلفكم به وننتظره من شيمكم وهممكم والله يتولانا وإياكم بتوفيقه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته                      الحسين بن علي

 

ـ وعمل العرب بوصية ملكهم ووصيته نفحات عطر  أرسلها الله في البدء من لدن السماء في القرآن  وهو شرع الله ونور العالمين المرسل بالوحي إلى عباد الله ومنهم الصالحين الذين عرفوا شرع الحق ففتحوا له قلوبهم قبل أعينهم... ومنهم الطالحين الباحثين عن تشريع من بنات أفكارهم السوداء وقلوبهم الباردة المظلمة وعيونهم المبصرة العمياء.

وألهمها الله لرسوله سيد المرسلين فقال صلوات الله عليه يقصد أهل ذمة المسلمين ( من أخذ عليهم عقال بعير كنت خصمه يوم القيامة) وهذه مقولة حق ناجذه.

وألهما الله للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخطّ العهدة العمرية

وضاع الأرمن ما بين سطور التشريع المظلم الأسود فتحولوا من أهل ذمة شرفاء أوصى الله ورسوله بهم و آمنهم من كل شرٍ وبلاء وعهدهم الفاروق بعهدته والمسلمين، إلى كاوور أي كفار وسالت دماؤهم أنهارً في سابقة خطيرة تعتبر أول جريمة إبادة عرقية عنصرية وتصفية جنس بشري وتصفية أمة لها مجد وحضارة وقدم موغل في التاريخ... أمة مسالمة سكنت أرض خالية منذ خمسة آلاف عام ولم يسجل التاريخ أنها اعتدت على أحد أو بدأت الحرب على أحد... فتحت أعينها على ألسنة النار من الشرق في كل حروبها مع الفرس وعلى فظاعات وحراب وسيوف ومقاصل وكوارث الغرب في كل حروبها مع الروم وعلى حمامات الدم بل بحار الدم مع هجرات التتار والمغول من تيمور الأعرج و عرجانه وزبانيته وهولاكو وأهله وعشيرته المهلكون، الذين كانت تسبقهم جميعاً الريح الصفراء وموجة الهواء المثقل برائحة القذارة فتدل عليهم... مروراً بالحروب الصليبية وقد حول الصليبيون أرض أرمينيا إلى قفر ونهبوا خيراتها وأرزاقها لخدمة المعركة واستعبدوا أهلها وسخروهم لزرع الغلال والثمار وحولوا أراضيهم إلى ثكنات ومعسكرات ومراكز تجمع  و أراضي مبيت ومزارع للجيوش.

 تحولت أرمينيا إلى وقود للحرائق بعد موجة الاحتلال الجديد للقادمين هذه المرة من الشرق وليس من الغرب الذين اصطدموا مع الصليبيين المنهزمين فأحرقوا كل ما وصلت إليه أيدهم انتقاما وقصاص... ولكنهم في الواقع لم ينتقموا ولم يقتصوا من الصليبيين ولا من أراضيهم ولا أملاكهم ولا من مدنهم ولا من قصورهم العامرة في أوروبا حيث اجتمعوا وحيث حشدوا وحيث قرروا أن يذيقوا شعوب المنطقة وخاصة المسيحيين منهم السم الزعاف.

 لأن المنتقمين وفي رحلة المطاردة لم يتعدوا التخوم الغربية لآسيا الصغرى وتركوا الصليبيين يعبرون إلى بلادهم... أما محل انتقامهم فكان أرمينيا وكانت الضحية البريئة لكل طقوس العربدة والخزي والسخف والجهل والعار كعذراء النيل لمرتين، مرة من الغزاة الأوروبيين  وأخرى من المنتصرين.

وظلوا يجثمون على الصدور، أربعة قرون كالعفريت الذي ركب ظهر السندباد البحري  وأعمل مخالب يديه في عنقه ومخالب قدميه في خاصرته، واستخدمه كدابة ومرحاض في آنٍ معاً.

 واشتعلت حرب كونية كبرى وكانت الثورة العربية الكبرى تزمجر في مرجل الغضب وأرسل الحسين بن علي أبناؤه الأمراء لشحذ الهمم وتأليب الناس على الطغاة لاسترداد الخلافة الضائعة ووأد القيد الأبدي الذي وضعه العثمانيون في أيد العرب كقدرٍ حتمي ونهائي.

وتم إبادة الحامية العثمانية في مكة واندحرت فلولها لا تألوا على شيء وأحتشد المنسحبون في عربات الخط الحديدي الحجازي ومقصدهم أي مكان غير الحجاز وتحررت الجزيرة العربية من رجسهم، وتم نسف سكك الحديد وإحراق العربات، وهدر المارد العربي من جنبات الأرض المقدسة وتم تحرير الشرق من رجس الطغاة ويسجل التاريخ هذه المأثرة بأحرف من نور للهاشميين آل هاشم وللشريف حسين بن علي ولأبنائه الأشراف الاماجد.

وعلى الباغي تدور الدوائر... وخطوط المعركة تتضح فالعثمانيون تركوا الحجاز ومناطق معان وشرق الأردن والقدس وفلسطين والشام دمشق ودمشق الشام ولبنان وبيروت وأرز الله والساحل السوري والاسكندرونة وحتى مشارف كيليكيا، وشرق الشام، أراضي الرافدين والعراق وأندحر العثمانيون في كوت العمارة وانسحبوا باتجاه الموصل وتم تفجير القطارات التي كانت تحمل المدد والجنود الألمان وذخائرهم ومدافعهم وضباطهم في الشمال السوري وقبل وصولها إلى ارض المعركة فتحررت العراق وتحرر شمال سنجق الشام وتوقفت طلائع الجيوش العربية وحلفائها الغربيين على سفوح سلسلة جبال الأناضول.

وسارع الأمراء الاماجد إلى تحرير من بقي على قيد الحياة في مستعمرات الإبادة التي تم جمع الأرمن فيها على طول مجرى الفرات بدءاً من دير الزور وانتهاءً بأواسط العراق والذين كانوا يتغذون على بقايا الذبائح أو بقايا من مات منهم وكانوا قلائل لأن الموت أخذ بناصيتهم بعد أن أصيبوا بالمرض والهزال والضياع وتحجرت مقلهم وجفت دموعهم وبرزت عظامهم وكتبت لهم الحياة من جديد فلقد أصبحوا الصبح وألفوا أنفسهم في يد الاماجد بعد هروب جلاَّديهم... وكانت رحلة أخرى لغرباء اليد واللسان... لا أرض ولا مال ولا دار ولا كرم عنب ولا شجرة زيتون ولا سنبلة قمح في حقل ولا مدرسة ولا كنيسة، وكالنبتة التي تشق الصخر لتجد مكاناً لجذورها استطاع الأرمن العودة إلى الحياة فلقد استطاعوا بالصدق والتضحية والإخلاص اكتساب محبة مضيفيهم الذين رضوا مقاسمة ضيوفهم رغيف الخبز والزاد.

وكانت قصص مروعة ومحاولات مستميتة لتضميد الجراح ولمّ الشمل والبحث عن الأحياء والبحث عن الأطفال الذين ضاعوا في غياهب الصحراء أو قضوا على جنبات الأنهار دون تمكينهم من بل شفاههم بالماء لا وهم على قيد الحياة ولا بعد مفارقتهم لها، وكان هناك من يقف حائلاً بين العطشى وبين ماء الله يطلب ليرة ذهب مقابل رشفة ماء.

وقد دارت الدوائر على هذا الحائل فظهر حائل جديد يحول ما بينه وبين الماء وقد أحرق قراه مكافئة له على إحراق قرى الآخرين وشرد أطفاله الذين تحولوا إلى ماسحي أحذية على كل أرصفة آسيا الصغرى والبلاد التي تجاورها.

وعاد الخير وعاد الأمن والأمان فلقد تولى الاماجد إحقاق الحق وتنفيذ شرع الله وهرب الطغاة يجرون أذيال الخيبة إلى دون رجعه.

وعاد بعض الأرمن إلى أرمينيا ليكتشفوا خيانة الغرب لهم وليفقدوا أي أمل بتحرير بلادهم على الرغم من انخراطهم بفرق الفدائيين التي كانت تعتصر الصخر من أجل لا شيء. وليعرفوا بأن لينين أيضاً قد أمر جيشه بالانسحاب فتم ترك أرمن شرق أرمينيا أمام قدرهم وقدرهم هو فوهات مدافع كمال اتاتورك... وتحولت هذه المدافع وفوهاتها إلى تعاويذ الحرية لأنها ألهمت البقية الباقية على قيد الحياة ألهمتها المقاومة حتى الموت في معركة سارداراباد، فتم إنقاذ جزء بسيط من أرمينيا الطبيعية بنصر يشبه ما يحدث بعد معجزة إلهية، وأختار أبناؤها بسبب عدم وجود أية حماية، الاتحاد مع روسيا التي تحولت إلى لبنة الأساس المكونة للاتحاد السوفياتي وأثمر هذا التحالف عما بات يعرف بجمهورية أرمينيا السوفياتية.     

 

وانتهت الحفلة وكانت لها نتائج مروعة فلقد تم إبادة 75% من أرمن تركيا ونجى البعض بفضل العرب وهرب آخرون إلى أرمينيا كما أسلفنا، وهذا يتضح من المقارنة الآتية:   لقد كانت هناك شعوب جاورت الأرمن وقت الإبادة الكبرى وكان عدد سكانها مجتمعة يقارب عدد سكان أرمن تركيا قبل الإبادة، وقد صار عددهم اليوم أي  في العام 2009 الحالي يناهز المائة مليون إنسان في حين بقي عدد الأرمن بعد 94 سنة من الكارثة وفي أنحاء المعمورة، أقل من عددهم الذي وصلوا إليه قبل عام الكارثة، ومن ينظر إلى هذه المقارنة بعين العقل، يدرك فداحة الأمر.

تم استباحة واغتصاب كل الأرض التاريخية التي عاش عليها الأرمن منذ آلاف السنين، والتي كانت تسمى (أرمينيا) فضاعت منهم بجبالها وأنهارها ووديانها، وضاعت سواحلهم وشطآنهم وبحيراتهم، وفقدوا آراراد وماسيس هذين الجبلين الذين لهما رمز قدسي لدى الشعب الأرمني،

وضاعت آني عاصمة أرمينيا القديمة بأبراجها وأسوارها وبواباتها وسهولها وأنهارها وبحيراتها وخسروا فان وورود سهولها وغزلان معبد آختامار، وخسروا اسماك الطارخ التي كان يتم اصطيادها من قبل رهبان دير الصليب المقدس في جزيرة آختامار، والذين كانوا يستخدمون قوارب تسير بالتجديف للوصول مع المؤمنين لزيارة الدير، وهو الدير الوحيد الذي سَلِم من ديناميت الكماليين وتم تحويله اليوم إلى متحف.

وكان من ينظر إلى أديرة الأرمن ومعابدهم وكنائسهم ومزاراتهم يعتقد أنه لا عمل للأرمن إلاَّ إشادة الكنائس وبناء المعابد والأديرة والتفنن فيها من الخارج وتزيينها بالمنحوتات وبالرسومات البديعة من الداخل، وحتى المقابر فكان هناك ما يشبه الشاهدة توضع بشكل عمودي جهة رأس القبر وتسمى الخاتش كار أي الصليب الحجري وكان يتفنن بنحتها الفنانون فينحتون على سطحها الأملس صليب مزين بصلبان منمنمة، ولأن العمل يدوي بحت فلقد خرجت الألوف من أشكال الصلبان الغريبة المزخرفة بشكل بديع، جرى تحطيمها كلها ولا زالت أجزاء منها مزروعة في جدران منازل الأكراد أو في أسوار الإسطبلات أو عتبات البيوت في القرى، فضاع هذا الفن في غالبيته وهو أرث عالمي ثمين لم ينتبه إليه أحد وتعتبر الخسارة الناجمة عن هذا الفعل خسارة عالمية، تتعلق بحضارة الإنسان وأنشطته الحياتية على الأرض.

فعلى صعيد ولاية كسيواس فإن الخسائر هي التالية:

 في القرن الحادي عشر كانت سيواس عاصمة أرمينيا الصغرى، وكانت مقر الملك ومقر الكاثوليكوس، وقد تهدمت المناطق الأرمنية والرومية واليونانية المكتظة بالسكان مرات عديدة، وأعيد بناؤها وعاد اللإزدهار بفضل العمل الأرمني البنَّاء.

وفي العام 1915 وقبل الترحيل مباشرة كان يوجد في المدينة 11500 بيت منها 7000 بيت يخصُّ الأرمن. وآخر إحصاء أجرته الشرطة في 15 حزيران عام 1915 سجلت فيه 47500 أرمنياً رُحِّلَ (قُتِلَ) 90% منهم، وتم ترحيل البقية باتجاه الرقة ودير الزور فوصل منهم بضعة عشر شخصاً.

وكان القسم الأكبر لأعمال التجارة الداخلية والخارجية في سيواس بأيدي الأرمن، أما سكان المدينة الآخرون فهم من الأتراك إجمالاً ويعملون إلى جانب الموظفين المدنيين والعسكريين، وكانت هناك طبقة من الأشراف وهم أصحاب الأطيان التي أقطعها لهم السلطان، اقتطعوا لأنفسهم البيوت والخانات و احتفظوا لأنفسهم بأجملها وأعادوا تأجير الباقي لأصحابه الأصليين وهم من الأرمن بالطبع!

ولم يكن هناك بالطبع أسهل من ضمِّ أملاك الغائبين(القتلى من الأرمن)، بواسطة متولي الأوقاف الإسلامية وغيرهم ليصار إلى توزيعها فيما بعد على ملاَّك جدد، وضاعت روح الأرمني الاقتصادية والإبداعية البناءة، وذهب نبوغه في سيواس وفير غير سيواس أدراج الرياح في كل الأعمال، الزراعة والتجارة والصناعة وصناعة السجاد.

فلقد كان الأرمن حسب تقارير قناصل فرنسا غيرنار و ي دوساب يشكِّلون 92% من أصحاب المهن والحوانيت والتجار في سيواس، وكان الأتراك يشكِّلون 8%، وكان الأرمن يعملون في القطاعات التالية:

أصحاب حوانيت، وأصحاب مهن، وتجار مصدرون، وتجار وصنَّاع قماش، ومعلموا وصنَّاع أعمال معدنية، وتجار مصنوعات حديدية جاهزة، وأرباب صناعة المطاحن وأصحاب الحوانيت، والمهنيون العائدون لما يتفرع عن صناعة المطاحن كصناعة الخبز والحلويات ومستلزماتهما، وتجار مستوردون للمواد الأولية أو المواد النصف مصنعة لزوم تشغيل معامل ومصانع الأرمن وأهمها مصانع الحديد وصناعة الإنشاءات المعدنية، والصناعات الزجاجية وما يشتق عنها من الصناعات الخزفية والمنزلية وصناعات المواد الأولية المتعلقة بإشادة المنازل وإعمارها وكسوتها وتزيينها بالأعمال الخشبية والمفروشات الخشبية وأعمل الديكور والنوافذ والأبواب والأقفال، وأعمال تعبيد الطرق والتعهدات، والأعمال التقليدية من الفلاحة والزراعة وجني المحاصيل والمتاجرة بها وتصديرها إلى الخارج أو بيعها في الداخل بما يعرف بالتجارة الداخلية ومستلزماتها من شحن ونقل وأعمال تفريغ، وكان وكلاء الشحن الخارجي بقطاعيه البري والبحري بيد الأرمن، وكذلك قطاع المصوغات الذهبية والفضية (الصياغة) وتجارة المنمنمات والمصكوكات واللقى الأثرية والأحجار الكريمة وعلى رأسها الماس والزمرد والفيروز والعقيق والأحجار الكريمة الأخرى بيد الأرمن، وكذلك، وقطاع الصيرفة والتأمين وبيوت المال وما يتفرع عنها.

ويجدر بالذكر أن عدد سكان سيواس من الأرمن  كان في العام 1845 وفي عهد السلطان عبد المجيد يبلغ 300 ألف نسمة، ووصل هذا العدد إلى الصفر المطلق بعد مجازر 1915 ولا زال هذا الرقم يتأرّجح حتى اليوم ضمن هذه الحدود ... الصفر المطلق.

وفي أوائل آب 1914 عندما أعلنت تركيا التعبئة العامة خرج جماعة الاتحاد والترقي بنظرية تأمين الجيش، هذه النظرية التي كانت تبرر كل ما سيلي تباعاً: فلقد تمت مصادرة كل السلع والمواد الموجودة في مصانع وورشات وحوانيت الأرمن، الذي ينفع والذي لا ينفع في تأمين الجيش، وتمت مصادرة المحاصيل والماشية والخيول والعربات والأبقار والثيران، ولم يقترب جماعة تأمين الجيش من الأتراك إلاَّ بقدر بسيط للتمويه حيث كانت تعاد الأرزاق المصادرة بشكل مضاعف قبل انقضاء ليل يوم المصادرة نفسه!

وكانت ترسل المصادرات من الأرمن بشقيها أي تلك التي تفيد في تأمين الجيش أو التي لا تفيد بتأمين الجيش ترسل إلى بيوت العسكريين، وكذلك تم الاستيلاء على الأديرة والكنائس بكل ما فيها من غال ونفيس وتم وضع اليد على المستشفيات والمعامل والمصانع وطواحين الماء وأفران الخبز وورشات المعجنات والبيوت الجميلة باعتبارها مصادرات لتأمين الجيش وتمت أيضاً مصادرة المواد الأولية المتعلقة بأعمال التشييد والبناء والاكساء من جص وأحجار مصنعة وأخشاب وأثقال وأعمال معدنية بالكامل وحولوا الأرمن إلى مرحلة جديدة تقارب ما يسمى بمرحلة التسول.

وتشكلت لجان لفرض الضرائب المستحدثة لخدمة المعركة، فتم اختراع ألف ضريبة أشدها غرابة استيفاء ما يعرف ببدل التدريب من الجنود الأرمن المساقين لخدمة العلم، وهذه سابقة تاريخية لم تعرفها البشرية من قبل، فلا يمكن سوق جندي إلى خدمة العلم ومطالبة أهله ببدل تدريب كونه غرّ وغير مدرب!

أما بالنسبة لدافعي البدل فلقد طلب منهم دفع مبالغ إضافية لتثبيت هذا البدل، ثم طلب منهم الالتحاق بخدمة العلم لكل الفئات العمرية التي تقع بين الـ18 وإلى الـ 45 بدون استثناء!

وتشكلت لجنة أطلق عليها اسم (المدافعة الملية) أعضاؤها حجي علي بك زادة سليمان، وجامباز دوزجي باكير، وأرباجي أغلو صبري، وحجي مصطفى، وكاتب يدعى أحمد وهو هارب من الجندية، كانت مهمتهم إحصاء البقية الباقية من البضائع والمواد في حوانيت الأرمن على قلتها ومصادرتها ثم قيدها بلا قيمة وتقاسمها مع اللصوص والقتلة الآخرين في خدمة المعركة، وتوالت حلقات مسلسل نهب الأموال الخاصة إلى أن وصل إلى نهايته لأنه لم يبق في حوزة الأرمن شيء قابل للنهب غير ملابسهم الرثة، حيث أتمَّ آخرون فعل ذلك وإتمام هذا النهب في سوقيات الإبادة بعد أن تركت الجثث في العراء مجردة من أثوابها وبطونها مشقوقة بحثاً عما يمكن ابتلاعه من الذهب والسير به في قوافل الإبادة!

ومن أغرب الأمور وفي مسألة تخص الرعاع والأنذال وطريقة تفننهم في البحث عن أي إمكانية لاختراع حجة جديدة  لفرض المال واقتلاع ما بقي منه إن كان موجوداً بالأصل وفي دائرة التهم التي لا تصدق بسبب الاستحالة... فلقد تم جمع أصحاب الأفران وعمَّالهم من كبار السن واتهموا جميعاً بدس السم في خبز العسكر التركي، وسأل أحدهم لجنة التحقيق قائلاً لهم:

متى حدث ذلك فقالوا له في الخبز المرسل صباح اليوم، ليتبين بعد ذلك أن جماعة المفترين هم لجنة من خارج سيواس لا يعرف أفرادها أن أفران سيواس معطلة منذ شهور وأن مستودعات هذه الأفران تحولت ومنذ فترة طويلة إلى ساحات تلعب فيها الفئران، ومع ذلك فلقد تم افتداء البعض بالمال وتم قتل العمال الفقراء جزاء ما لم تقترفه أيديهم وما لم يحدث إلاَّ في خيال المجرمين!

والجدير بالذكر أن واحد من الذين تم قتلهم بعد تلفيق هذه التهمة هو والد اليوزباشي السيواسي الأرمني هوفانيس آغينيان الذي أنقذ قائد الجيش أنور باشا من حفلة الشواء السابقة الذكر والتي أعدها له قيصر روسيا، عن طريق حمله بمعاونة أحد الضباط الأرمن واسمه ميهران تشاميان والهرب به إلى الخطوط الخلفية بعد كسر الطوق الروسي الذي أحاط بأنور باشا!

وكان هذا الأب السيواسي مفجوعاً باستشهاد ابنه الذي ضحى بروحه في معركة القوقاز فيما بعد في منطقة ايدي وأولتي، دون أن يتمكن من مشاهدته ليقوم بواجبات الصلات والدفن ، وكوفئ الرجل أعظم مكافأة!

وكوفئ قريب له هو الصيدلي السيواسي واهان وارطانيان بالقتل بعد نهب صيدليته لخدمة المعركة، وكذلك تم إعدام شقيق الصيدلي الدكتور بغداصار وارطانيان في أيار 1915، وسار مخطط الإبادة على النحو المرسوم له، فلقد تم تجريد الجنود والضباط الأرمن من السلاح وتم إلحاقهم بكتائب السخرة وتم تشتيتهم وقتلهم بعد أن أمروا بحفر قبورهم.

وجاء دور المدنيين أو دور من بقي منهم على قيد الحياة بعد اعتقالات 3 و 10 و 13 حزيران 1915 وبموجب أمر سري من وزارة الداخلية صدر بيان عُلق على الجدران وبُلِّغ إلى مخافر الشرطة ومخاتير الأحياء جاء فيه

1-    سوف ترحَّلون إلى الجزيرة ودير الزور بموجب الأوامر العليا

2-    سوف تذهبون بأمان تحت الحراسة

3-    لن يصيبكم شيء في الطريق

4-    هذا الترحيل سببه الحرب

5-    إذا حصل احتجاج فسوف يقضى عليكم بالسلاح

6-    سوف ترحلون حياً بعد حيّ

7-    لقد تبلغت المخافر ذلك

8-  يمكنكم استئجار عربات أو خيول أو حمير. الذين لا يملكون مالاً تؤمن لهم الحكومة ما ينقلهم، مع ما يريدون نقله معهم

وبالنسبة للبند رقم 8 فلقد أمنت الحكومة بالفعل للأرمن ما ينقلهم ولكن للعالم الآخر.

وتم ترحيل 47500 أرمني من سيواس حسب قيود رجال الشرطة، موزعين على 17 قافلة لم يصل منهم إلى دير الزور سوى بضعة عشر امرأة وطفل لا غير!

وبالنسبة لسجناء سيواس من الأرمن فلقد وصل عددهم إلى 5000 سجين، تم حشرهم في السجون والمدارس كيداً وظلماً وإرهاباً، ليصرحوا عن الأماكن التي خبئوا فيها ذهبهم ومصاغ نسائهم وسندات الدين التي أقرضوا بموجبها مدينيهم من الأتراك أو الأكراد، وتم تعذيبهم جميعاً بدءاً من الضرب والجلد والإهانة والشتم والتحقير وقلع الأظافر وبتر الأصابع والأطراف، وحرق الوجه بأعقاب السجائر، وانتهاءً  برسم الخرائط على أجسادهم بالنار وبالحديد المحمَّى، ليتقرر بعد ذلك اقتيادهم في جنح الليل جماعات بعد جماعات ليقتلوا تحت جنح الظلام بحراب البنادق طعناً وذبحاً لتوفير الذخيرة خدمة للمعركة، والأصفاد في أيديهم ليتم تحريرهم بعد الموت لاستعمال نفس الأصفاد في مهام مشابهة ولكن جديدة.

فلم يبقى أحد، وصارت سيواس خاوية خالية، ينعق فيها البوم، إلاَّ من الجلاوذة والجلادين والمنتفعين وأصحاب الأوسمة والشرائط الحريرية والنياشين، ومعاونيهم من القتلة والمأجورين وأغلبهم من الأكراد.

والمبكي أن الصلاة والمراسم الكنسية والقداديس توقفت في كل كنائس سيواس وعددها تسعون كنيسة، في سيواس  والقرى الملحقة بها وأهمها تحفة مدينة سيواس : كنيسة السيدة العذراء المقدسة (الكنيسة الأم) التي هدمها عصمت بالديناميت في العام 1950م وهذا الإنجاز الحضاري تم في عهد قريب نسبياً (بعد الإبادة بـ 35 سنة... وهو يعكس السمو الفكري الذي يتمتع به ورثة مغانم الإبادة، رغم كل الذي حدث) ، وكنيسة القديس ساركيس، وكنيسة القديس ميناس، وكنيسة المخلص.

وفي حيّ هوغتار كنيسة السيدة العذراء المقدسة، أمام الكلية الأميركية(مسقط رأس مخيتار الراهب) صاحب المدرسة المخيتارية ومركزها في فينيسيا ولها أفرع كثيرة في كل أنحاء العالم.

تسعون كنيسة في أطانيوس  وألاكيليسه  وبركنيك  وبيرابيرت  وطاورا وتطماج وياراسار ويني خان وزارا وته كه لي وتودوراك واشخاني وخاندزار وخورسنا وخورخون وكاميس وكافرا وكوفدون وهوغتار وغالدي و غارابوغاز وغافراز وغوتشاسار وجنجين وهافت وشون ـ كوراك و فوغونفيد وأولاش وتشاي كورد و بارديزاك وبونيان وبينكول وساراهاسان وداوشانلو وديفيسكي وكارهاد وكوتو بيجه وكوتني وكه تشه يورد ، وكنيسة القديس فلاس للأرمن الكاثوليك في سيواس المدينة، وكنيسة الأربعين شهيداً لليسوعيين ، ومجمّعان للبروتستانت، ومدارس للفرنسيين والأميركان وميتم ومدرسة للسويسرين  لا يعرف ما حدث لمعظمها... تركها أرمن سيواس (وفقط أرمن سيواس، بمعنى أن هذه الدراسة هي غيض من فيض لأن هناك عشرات المدن والأقضية والولايات وآلاف القرى الأخرى التي كان يسكنها الأرمن، والدراسة تتعلق بسيواس فقط لتجنب الإطالة ).

تركها أرمن سيواس هناك خلفهم وجاؤوا إلى هنا، وأنا لا أعرف أحد منهم ولكن أعرف الكنيسة الوحيدة المتبقية لعموم الأرمن في دمشق وهي كنيسة القديس سركيس في منطقة الباب الشرقي لمدينة دمشق وإلى داخل السور.

وبعد هذا فهل يمكن فهم المصيبة التي حلّت على رؤوس الأرمن و اقتلعتهم من مدنهم وقراهم التي تعبوا آلاف السنين في تشييدها وإعمارها وبنائها فأضاعوها وأضاعوا دورهم ومالهم وإرث آبائهم وأجدادهم ذلك الإرث المتجمع منذ آلاف السنين، وأضاعوا كنائسهم وبياراتهم وحقولهم وكروم العنب؟

 وهل توجد خسارة أفدح من هذه... فلقد تحدث طلعت باشا وزير الداخلية مازحاً ومتهكماً مع سفير الولايات المتحدة الأميركية في تركيا السير هنري مورغنتاو في الفترة 1915 ـ 1918  فقال له: عن من تتحدث يا سعادة السفير؟

فأجابه مورغنتاو...  أتحدث عن الأرمن، فقال له: لم يعد هناك أرمن في أرض السلطنة، واستطرد قائلاً ... لقد نجحت وبثلاثة أشهر في إنجاز ما عجز عن إنجازه السلطان عبد الحميد خلال ثلاثون سنة من حكمه!

 وعاد ليقول... ستتم مطالبة حكومة الولايات المتحدة الأميركية رسمياً بمبالغ بوالص التأمين على حياة هؤلاء الأشقياء حيث علمنا أن الكثيرين منهم قد أمنَّ على حياته في مصارف أمريكية تتعامل بالرهن والتأمين، وهذا المطلب شرعي لأن هذه الأموال لا بد أن تعود للسلطنة باعتبارها أموال مواطنين ورعايا غائبين !

ـ ولا يمكننا هنا إلاَّ إبداء العجب من هذه القحة أمام هيبة الموت وتلك الجسارة في حضرة ممثل الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تكن في العام 1915 دولة عظمى حتى استطاب هذا الغر إهانة سفيرها، والجدير بالذكر أن هناك بوليصات تأمين على الحياة وعقود تأمين على الأموال والأملاك ضد كافة الأخطار موجودة في بنوك سويسرية وألمانية وفرنسية وبريطانية  وأميركية، ضاعت كلها بسبب عدم وجود وارث ولا مطالب فكانت محنة فوق محنة ومصيبة فوق مصيبة، بالنسبة لتلك الفئة الثرية من الأرمن التي تم قتل أفرادها أيضاً على الأصل والعرق والهوية والمعتقد ولم ينفعها التأمين في حفظ أموالها ولا أرواح أصحابها، ولم تنل لا هي ولا ورثتها أي تعويض بسبب عدم وجود المُطالب وعدم وجود الوارث  ... وهذا غيض من فيض... وهو ليس أسرار بل حوادث تاريخية متوفرة في كل الكتب حول العالم، وهي متوفرة بكثرة الآن في كتب عربية، اشتريتها كلها ونجح صديق لي في أن يبيعني بعضها أكثر من مرة فاشتريتها وأنا أعلم لأحفِّز لديه الاستمرار في تقديم هذه الخدمة.

أما بالنسبة لصديقي الذي نصحني بقراءة كتاب الأميرة عائشة فيتوجب عليَّ شكره مرتين،  الأولى: لأنه وفَّرَ لي جزء يسير من مادة هذه المقالة المخصصة لذكرى التضحية والبطولة والفداء وهي ذكرى شهداء الأرمن التي تذهب لتعود سريعا في يوم 24 أبريل / نيسان من كل عام.

 والثانية: فإن هذه النصيحة وضعت بين يديَّ الدليل لشيء أعرفه تماماً ويعرفه كل الأرمن، ولكني بحاجة لما يؤكده من مصادر أخرى غير المصادر الأرمنية، وهو يتعلق بهوية السلطانة الوالدة أي والدة السلطان عبد الحميد، فلقد أدعى العارفون بأنها أرمنية، وأكد على ذلك جرجي زيدان في معرض كتابته لسلسلة روايات تاريخ الإسلام حيث خصص السلطان الأحمر بكتاب سماه (الانقلاب العثماني)، ترك فيه كل مصائب الأرمن وراء ظهره وانبرى للدفاع عن نظرية خاطئة تقول أن والدة السلطان أرمنية، وقد قرأت هذه الرواية في مرحلة الطفولة، وأعدت قراءتها لمرات كثيرة وتحققت من الموضوع وعرفت أن القصد كان مؤامرة لتحقير السلطان ابتدعها ضابط جركسي مسلم يدعى أحمد صائب جاء هارباً من روسيا والتحق بجيش السلطان فلم ينال الحظوة المطلوبة ولا الرتبة المأمولة بل نال إهمال السلطان فابتدع هذه القصة في كتاب طبعه في مصر بعد أن هرب إليها، وعاد إلى استمبول بعد اعلان الدستور وسقوط السلطان، وتوفي في استمبول في العام  1922  وحيداً.

وحزنت  بعد مسألة التحقير تلك بشكل أكبر لأن صلة الدم هذه على ما أعرفه، تزيد صاحبها شرفاً بأكثر مما يمتلكه بالفعل والمؤكَّد أن السلطان الأحمر لا يستحق ذلك، ولكني حمدت الله لأنه اتضح أن هذه الفرية هي كذبة كبيرة لا غير دون أن أقبل بمبدأ التحقير حيث ورد على لسان الأميرة عائشة ما يلي:

حينما كان يتحدث والدي عن أمه كان يقول:( أمي المسكينة تركتنا وهي في سن الشباب، خيالها أمام عيني دائماً، لن أنساها ما حييت، فلقد كانت تحبني كثيرا، رحمة الله عليها).

وتضيف الأميرة عائشة... كانت جدتي (تيرمزكان قادين أفندي) مشهورة بين قلفاوات السراي القديمات برقتها وظرفها وجمالها، إذ يذكر كل من رآها أنها كانت خضراء العينين، وشعرها طويل أشقر، ذات بشرة شفافة بيضاء نحيفة القوام دقيقة الخصر، جميلة اليدين والساقين، وقد روت القلفاوات الجركسيات القديمات في السراي من أهل بلدتها أنها من قبيلة شابصة، وكان والدي أيضاً يقول عن بنات شابصة: "من قوم والدتي"

وبعد ذلك فهنيئاً للعثمانيين بالشوابصة، وبما فعلوا فيما بعد بالشوابصة وبكل الجركس كبادرة رد جميل، تكررت مع الأكراد أيضاً الذين غدروا بالأرمن ونقضوا العهد والوعد وكلمة الشرف فغدروا برفاق السلاح ودفعوا ولا زالوا يدفعون حتى اليوم غرامة هذا الغدر وتكاليفه المرعبة، والحمد لله لأني كنت ولم أزل على أعلى درجات اليقين من أن وجود نقطة دم أرمنية واحدة لا غير في جسد أي إنسان لا تتيح له ولا تمكنه من أن يفعل جزء من مليار جزء من تلك الشرور التي فعلها السلطان الأحمر عبد الحميد بجدارة،

أما صديقي الطيب فأنا أشكره وأشكر قومه لأسباب أخرى كثيرة وأقول له ولقومه: دمتم ودام الخير في بلادكم ودام السلام، وتقبلوا تحية شعب لا ينسى لكم وقوفكم إلى جانبه ومقاسمتكم إياه الزاد ورغيف الخبز، حمى الله أرضكم من كل طامع خسيس ورحم الله شهداؤكم، وطيَّبَ ذكراهم بعطور الجنة.

 وفي الختام أهدي شهدائكم وشهداؤنا وكل من ضحى بحياته لإحقاق الحق، ودفع الظلم، وإسعاد البشرية، وإغناء مسيرة الحضارة والتحضر، وشعبكم وشعبنا كل مشاعر الحب والولاء والوفاء.

 هذه موسيقى الأغنية الوطنية التي تتحدث عن البطولة والإباء والفداء، تلك الأغنية  التي كان يغنيها الثوار الأرمن في عهد السلطان وهم هائمون على وجوههم في الجبال والوديان وهمُّهم الأوحد إسقاط الطاغية الجبان، فيتحولون بعد ترداد كلماتها إلى أسود.... وهي أغنية خوجان آزكير( زارتير لاهو)

اضغط هنا  لسماع موسيقى هذه الأغنية وهي من عزف وتوزيع آرا  سوفاليان

 Ara Souvalian

[email protected]

05 04 2009 

   الصور الملحقة:

 01ـ آرا  سوفاليان كاتب المقالة

 02ـ همس وحوار ما بين التوأمان  السلطان الأحمر عبد الحميد والشيطان

 03ـ شمر عن ساعديك... أيها المجرم الأكبر... ظل الله على الأرض!!!

 04ـ الراية الخفاقة...الدستور...الأضحوكة... باديشاهم تشوق عيشة حُريَّات مُساوات عَدالات...، ليعيش سلطاننا طويلاً... الحرية والمساواة والعدالة ثلاث مسميات كبيرة وشعارات فارغة لم يعرفها أحد في فترة حكمه، ولم تدخل بين مفردات قاموس السلطان بالمطلق!

 05ـ استباحة المنازل والمتاجر في أرزروم من قبل الرعاع وكتائب الحميدية والكل في حماية السلطان مال وحلال ورزق وعرض ليتبين فيما بعد أن هذه الشعارات كانت جوفاء!

 06ـ التمثيل بجثامين الشهداء وقطع رؤوسهم ووضعها على الرفوف بأمر أمير المؤمنين الأمير على قطاع الطرق وعتاة المجرمين الذين خرجوا من السجون بمراسيم عفو سنيَّة مقابل خدمات مستقبلية متفق على إنجازها مقابل العفو عنهم  ومعهم  اللصوص والقتلة وشذاذ الآفاق  والمفسدون في الأرض.

 07ـ مقابر جماعية كبيرة وعميقة تعطي فكرة عن عدد الضحايا، أما القتلة فهم المكلفون بالدفن بمعنى أنه عليهم إنجاز المهمة من البداية حتى النهاية تحت طائلة حرمانهم من المغنم وذلك خوفاً من انتشار الأوبئة و حرصاً على صحتهم وصحة البقية من المواطنين الشرفاء الغير كفَّار.  

08ـ الفدائيين الذين نفذوا عملية اقتحام البنك العثماني بعد وصولهم إلى مارسيليا في فرنسا 

09ـ ضباط من السلطنة بالسلاح الكامل وأمامهم بعض الرؤوس المقطوعة والمصفوفة على الطاولة، في حركة استعراضية رخيصة لا يقبل بها من يرتدي بدلة عسكرية!

 10ـ دير الآباء المخيتاريين في فينيسيا حيث انطلقت دعوتهم وصار لها أنصار في مختلف أرجاء العالم.

 11ـ مدينة آني العاصمة السابقة لأرمينيا بسورها وبواباتها وقلاعها ومحارسها، وتقع بالكامل تحت الاحتلال التركي.

 12ـ  على مشارف صاصون ولائحة تشير إلى أن عدد سكانها 9700 شخص وهذا في العام 2008 ومواطنوها خليط عجيب من الغرباء وأغلبهم من الأكراد وليس بينهم أرمني واحد، في حين كان عدد سكان صاصون مائة ألف وكلُّهم من الأرمن سكان الجبال.

 13ـ حفلات الإعدام والضحايا على الدوام من شباب الأرمن

 14ـ حجارة عليها نقوش أرمنية ربما تم انتزاعها من جدران إحدى الكنائس الأرمنية المهدمة ونقلت إلى هنا للمساهمة في تشييد هذا المنزل وفي موازاتها بعض الأحذية التي تركها أصحابها قرب العَتَبةْ ودخلوا حفاة.

 15ـ في ساحة بيازيد تم نصب عشرون مشنقة تأرجح في ظلالها عشرون شهيد في يوم أسود مقيت من العام 1915 بتهمة الخيانة العظمى وهم على التوالي: باراماز. دكتور بيننيه طوروسيان، بيدروس مانوقيان. آرام اتشيكباشيان. كيغام فانيكيان. يروانت طوبوزيان. روبين كارابيديان. هوفهانيس دير غازاريان. توفماس توفماسيان. هاكوب بصمجيان. موراد زاكاريان. مكرديتش يريتسيان. كاريكين بوغوص. ارميتاك همبارسوميان. يريميا مانوكيان. ابراهام موراديان. ميناس كشيشيان. سمباط كلجيان. هرانت يكافيان. بوغوص بوغوصيان. كارنيك بوياجيان.

16ـ مشاهد مكررة وأرث مقيت برع فيه هؤلاء وحدهم، لأن التنكيل بالجثث يخالف ابسط قواعد الشرف العسكري وقواعد الجيش،  ومعركة مفتعلة مع أبناء الوطن في الداخل بعد أن تمكن الأعداء في الخارج من كسر هيبة إمبراطورية الرجل المريض، ومرَّغ أنوف قادة هذه الإمبراطورية في الوحل.

 17ـ ثلاث أطباء أرمن قتلوا وتم تعليق جثثهم بالمقلوب (الشنق من الأرجل) والدرك في أعلى الجسر لأخذ الصور التذكارية.

 18ـ سوقية منطلقة من خاربيت يحرسها الجندرما المسلحون بالبنادق، ومكونة على الغالب من الشيوخ والنساء والأطفال، ووجهتها صحراء دير الزور، ويعتقد بأنها لم تغادر مشارف خاربيت إلاَّ وتحوَّل أفرادها إلى أموات، تعبث في بطونهم خناجر الأكراد بحثاً عن الذهب.

 19ـ مدرسة تحولت إلى سجن كانوا يجمعون فيها السجناء، ويقتلونهم ليلاً بالسلاح الأبيض وهم مكبلين بالأصفاد وفي جهة اليسار وعلى المصطبة كاهنان وراهبة تم تأجيل البت بأمرهم لأسباب لا نعرفها، وربما كانت هذه الراهبة من ملاك إحدى المستشفيات الغربية العائدة للإرساليات التبشيرية، وعلى النقَّالة قتيل بملابس غربية يبدوا من ملابسه أنه من الطبقة الموسرة، وبالطبع سيتم دفن الجميع وإخلاء المدرسة استعداداً لاستقبال زوار جدد يبدأ نهارهم بالتعذيب، ليصرحوا عن الأماكن التي خبئوا فيها ذهبهم ومصاغ نسائهم وسندات الدين التي أقرضوا بموجبها مدينيهم من الأتراك أو الأكراد... وهكذا وفي كل يوم جديد نزلاء جدد وقبور جماعية تغلق، ليحفر غيرها.

 20ـ آراراد وماسيس مرسى سفينة نوح كما ورد في العهد القديم، يقعان حالياً على الجانب التركي وممكن رؤيتهما من الجانب الأرمني للحدود الحالية، والتصوير كما يتضح في الصورة هو من الجانب الأرمني، أطلق عليهما العرب في عهد الفتوحات اسم الحارث والحويرث، وللجبلين مساحات لا نهائية من المحبة والعشق في قلوب كل الأرمن حول العالم ولا تتم الزيارة والحج في أرمينيا إلاَّ بعد الوقوف في مواجهتهما من الجانب الأرمني ومناشدتهما والغناء لهما والصلاة إلى الباري تعالى للتعجيل بضم الشمل واللقاء.

 21ـ  زيتون التي حولها السلطان عبد الحميد الثاني في أواخر القرن الثامن عشر إلى أرض محروقة عادت لها الحياة والخضرة ولكنها لا زالت تحنُّ لأبنائها الذين تحولوا إلى أجزاء في نصب تذكارية منسية.

22ـ كنيسة السيدة العذراء في عينتاب وهي تحفة معمارية حجرية بناها الأرمن بسواعدهم ، ولا زالت باقية وشامخة حتى اليوم بالرغم من إزالة  النقوش والصور والكتابات الأرمنية، من على جدرانها، في داخل الكنيسة وخارجها.

 23ـ حجر منقوش وعليه صليب أزيل من مكان ما، جزء من جدار مهدم في كنيسة أو قطعة من شاهدة قبر، ولا بد أنه قد انقضى زمن غير قليل والحجر تحت أزاميل النحاتين الأرمن ليخرج بهذه الروعة في زمن كان قطع الصخر فيه يدوي، والحفر والنحت فيه يدوي، والنقش يدوي والتنعيم والتلميع يدويان أيضاً، ليستقر هذا الحجر أخيراً وبشكلٍ مائل في جدار زريبة بقر، وحوله خطوط من الإسمنت الرمادي.

 24ـ جزيرة آختامار في وسط بحيرة فان، وفي وسط الجزيرة معبد الصليب المقدس الذي توقفت فيه الصلاة منذ الإبادة المروعة، وقد تم تحويل المنطقة برمتها إلى منطقة سياحية محمية تدرُّ ذهباً أصفر، وتم تحويل المعبد إلى متحف.

 25ـ صورة قريبة لمعبد الصليب المقدس والأحفاد جاؤوا يزورون المعبد من أنحاء العالم ويدخلونه لإقامة صلاة قصيرة ولإشعال شمعة ولتحرير دموع محتبسة منذ العام 1915

 26ـ في الجزيرة بوغوص خاجاريان أمام (الخاتش كار) الصليب الحجر وهو محطم من المنتصف والجدير بالذكر أن كل الصلبان الحجرية تم تحطيمها في تركيا حتى تلك الموجودة في المقابر مع أنها تشكل أرث وكنوز لا تقدر بثمن وتتعلق بحضارة شعب عاش على هذه الأرض آلاف السنين، وتحطيم آثاره وإلغاؤها لا يلغيه على الإطلاق، وهذه المعادلة حقيقية وصحيحة للغاية ومجربة في كل أرجاء المعمورة.

 27ـ الديناميت يفعل المستحيلات

 28ـ كنائس بلا أسقف... والسقف ظهر البيت... ويقع من لا ظهر له، إللاَّ هذه الكنائس التي لا ظهر لها والتي لم تقع على الرغم من توقف الصلاة فيها وتوقف العناية بها وتدعيمها منذ العام 1915 وقد تحولت إلى أماكن لتجمع القتلة ومأوى للمجرمين ورجال العصابات ثم إلى دور دعارة ثم إلى مخازن للمخدرات وللمشروبات الروحية، ويتم تحويلها الآن ودورياً إلى متاحف لجذب الأحفاد حول العالم لرؤيتها وتذكر سواعد أجدادهم الذين رفعوها مجبولة بدمائهم.

 29ـ  الأحفاد الذين سبق ذكرهم وقد تم جذبهم  لخدمة السياحة ولأهداف نبيلة أخرى تتعلق بمدخراتهم.

 30ـ الحفلة الرهيبة ونتائجها المروعة، فلقد قال طلعت باشا وزير الداخلية مهدداً: سأضرب الأرمن ضربة لن يستيقظوا منها ولا بعد خمسين سنة، وفي الوقع فلقد مضت الخمسون سنة ومضى فوقها أربعٌ وأربعون سنة والأرمن لم يستيقظوا بعد!

 31ـ في 24 أبريل/ نيسان من كل عام تتجمع كل ورود أرمينيا المحررة، وهي الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان والى درجة لا تصدق، وهي في المجمل لا تصل إلى 8/100 من إجمالي مساحة أرمينيا الكبرى، تتجمع كل ورود أرمينيا  فوق هذا النصب التذكاري، ومن يعلم؟ فقد يكون لكل وردة اسم يطابق اسم أرمني قضى وهو يدفع ضريبة الوحشية، يدفع ضريبة الظلم والقسوة، يدفع ضريبة أن يُحتفل بإسمه ويُقحم بين حجارة نصب تذكاري شامخ في ضمائر الصالحين، ومنسي في ضمائر سادة المال والمصالح، يَدفع ضريبة المجون والعبث والمتعة التي تخلفت، بعد أول ضربة من يد قايين أودت بحياة أخيه هابيل فاستمزج ذلك وأحبه وندت عنه، ضحكة عالية، وتقاسمت أجزاء جسده متعة خيالية أحب أن يتزود بها في كل فرصة سانحة، غير عابئ بنظرات رب السماء وغضبه، وهذا هو حال الأرمن مع جلاَّديهم، وسيبقى إلى أن تتغير قوانين الأرض، فتصبح القوة في جانب الحق، بعد أن استعذب أهل الأرض ولفترة طويلة جداً مقولة أن يكون الحق في جانب القوة.

 آرا  سوفاليان

الذي يكتب للتاريخ شيء لا يريد أحد كتابته عدا القلائل، وشيء لا يريد أحد أن يتذكره عدا القلائل، يكتب لكي لا يضيع التاريخ فيضيع الأصل والحق.

Ara Souvalian

[email protected]