الكلدان الآشوريون السريان - شعب واحد بثلاث تسميات ج5
الدولة الكلدانية (626 -539 ق.م) دام هذا العصرزهاء القرن الواحد وكان آخر عهود بلاد بابل وهي دولة مستقلة, حيث تلته عهود صار فيها العراق ولاية تابعة, أولا الى الفرس الأخمينيين (539 – 331 ق.م) ثم الى السلوقيين المقدونيين, خلفاء الأسكندر الكبير (331 – 126 ق.م) ثم الفرس الفرثيين أو الأرشاقيين (126 ق.م – 227 ب.م) وأخيرا الفرس الساسانيين (227 – 637 ب.م). يعتبر نبوبولاصر أول الملوك الكلدانيين في هذا العصر. ويبدو من مجريات الأحداث بعد سقوط نينوى, أن الميديين لم يضّموا بلاد آشور الى مملكتهم, بل اكتفوا بالأسلاب والغنائم فأنسحبوا الى بلادهم تاركين حليفهم نبوبلاصر وشأنه ليقتطع ما يستطيع اقتطاعه من أقاليم الأمبراطورية الآشورية. فاستولى على سورية وفلسطين نظرا لأهمية هذة المنطقة الحيوية لبلاد بابل, وليحول دون تغلغل الجيش المصري فيها. فقد سبق للفرعون المصري (نيخو الثاني) أن جاء على رأس جيش الى سورية لمساعدة حلفائه الآشوريين قبل أن تسقط دولتهم فأستولى عليها وبضمن ذلك دولة يهوذا في عهد ملكها (يوشيع) ثم استولى على كركميش والتي كانت تعتبر نقطة استراتيجية هي طريق نهر الفرات, الأمر الذي هدد الدولة البابلية تهديدا خطيرا. فأسرع الملك البابلي نبوبولاصر الى ارسال حملة عسكرية كبيرة وعهد بقيادتها الى أبنه وولي عهده نبوخذ نصر لطرد الجيش المصري, فباغته في عام 605 ق.م في كركميش وأوقع فيه الهزيمة. وبينما كان ولي العهد نبوخذ نصر يطارد فلول الجيش المصري الى داخل البلاد المصرية, وتقدّم الى حدود العريش, بلغته الأنباء بموت أبيه فأسرع بالعودة الى بابل ليتوّج ملكا عليها في 23 أيلول 604 ق.م. ودام حكمه 42 عاما (604 – 562) ق.م كانت من العهود المجيدة في تاريخ العراق القديم. ولما رأى (يهوياكيم) ملك مملكة يهوذا الموالي للفرعون المصري نيخو الثاني انتصارات نبوخذ نصر في بلاد الشام أظهر له الطاعة وقدّم له الجزية, ولكنه نكث العهد بعد فترة بتحريض ملك مصر عام 598 ق.م على الرغم من نصائح النبي (أرميا) وانقطع عن دفع الجزية, فأسرع نبوخذ نصر بأرسال جيش الى مملكة يهوذا وحاصر أورشليم فأستسلمت له في عام 597 ق.م, وهلك ملكها يهوياكيم أثناء الحصار, وأسّر من اليهود 3000 أسير, ونصب نبوخذ نصر (صدقيا) ملكا على يهوذا, وكان هذا هو السبي الأول لليهود. ان توطيد السلطة البابلية في بلاد الشام أصبح يشكل خطرا على مصالح مصر التجارية المعتمدة على الموانىء الفينيقية, فأعدّ ملك مصر المسمى (حوفرا) العدة لغزو فلسطين, فأستطاع أن يتولى على غزة كما أنّه ضيّق الخناق على صور وصيدا, فأسرع نبوخذ نصر بالتوجه على رأس جيشه الى بلاد الشام, وجعل من مدينة (ربلة) قرب حماة مقرا لقيادته ومنها كان يوجه العمليات الحربية. وفي هذه الأثناء كان ملك يهوذا (صدقيا) قد خلع ولاءه لملك بابل وأنحاز الى جانب الفرعون المصري, فضيّق نبوخذ نصر الحصار على أورشليم, فأستسلمت له من بعد 18 شهرا عام 586 ق.م. وقبض على صدقيا عند هروبه الى أريحا فأخذ هو وأولاده الى معسكر الملك البابلي في ربلة, وكان غضب الملك شديدا, فأمر بذبح أولاده أمام عينيه, ثم فقأت عيناه وأخذ مكبّلا مع الأسرى اليهود الذين قدّر عددهم بنحو 40000 أسير الى بابل, ودمّرت أورشليم ودكّت معالم هيكل سليمان, وهذا هو السبي البابلي الثاني لليهود الذين مكثوا في بلاد بابل الى زمن الدولة الفارسية الأخمينية حيث رجع بعضهم الى فلسطين. كان نبوخذ نصر من أعاظم الملوك في حقل البناء والتعمير. وقد كرّس جهده لأعادة بناء العاصمة بابل. وخلفه في الحكم بضعة ملوك لم يكونو جديرين بأسمه وبأدارة الأمبراطورية التي أقامها, وكان حكمهم في الواقع فترة ضعف سبقت انهيارها. ونذكر بالخصوص (نبونيدس), وكان أبوه أحد النبلاء في مدينة حرّان وأمه الكاهنة العليا في معبد الاله سين (اله القمر) في حرّان. أن اهتمام نبونيدس الكبير في حرّان وغيابه الطويل عن المملكة ولّد تذمرا وتمرّدا عامين في أرجاء مملكته, وخاصة في المدن الكبرى مثل بابل وبورسبا ونفر وأور والوركاء ولارسة. وعندما تدهورت الأوضاع الأقتصادية والأحوال المعاشية ورافق ذلك انتشار القحط وارتفاع الأسعار حاول نبونيدس حل تلك الأزمة بطرق شتى منها أن قاد جيشه وسار به عبر بادية الشام وأخذ واحة تيماء الشهيرة حيث قتل أميرها واتخذها مركزا له طوال عشر سنوات, وخلّف على مملكة بابل ابنه المسمى (بلشاصر). ويؤخذ من النصوص المكتشفة في حرّان أن نبونيدس وضع يده على واحات أخرى في شمالي الجزيرة العربية الى الجنوب من تيماء منها واحة (يتريبو) أي يثرب (المدينة المنورة حاليا). وبعد أن أمضى نبونيدس زهاء عشر سنوات في تيماء عاد الى بابل في حدود 546 ق.م. وفي هذه الأثناء استجدت في بلاد ايران احداث كبيرة, اذ استطاع الملك الفارسي كورش الثاني أخذ السلطة من الميديين في عهد الملك الميدي (أستياجس) جدّه لأمه, ويكوّن بسرعة عجيبه امبراطورية واسعة شملت آسية الصغرى وبلغت الى تخوم الهند. وبعد أن قضى كورش على (كروسس) ملك ليدية (في آسية الصغرى) صار يضم الأقاليم التابعة الى الدولة البابلية ومنها بلاد آشور التي استولى عليها في عام 547 ق.م, ثم جاء دور مدينة بابل نفسها في العام 539 ق.م. وقد عهد الملك نبونيدس الى ابنه بلشاصر لقيادة الجيش والتصدي لجيوش كورش عند سلوقية فقتل بلشاصر في المعركة, ثم تقدم الجيش الفارسي في العام نفسه نحو مدينة سبار (أبو حبة قرب المحمودية). فأنحاز الحاكم البابلي (كوبرياس) والذي كان نفسه قائدا للجيش الى كورش, فسار هذا من بعد سبار الى مدينة بابل ودخلها في 13 تشرين الثاني 539 ق.م بدون مقاومة تقريبا وأخذ نبونيدس أسيرا, ودخل كورش الى مدينة بابل بعد أيام قلائل. ودخلت بذلك بلاد بابل وبلاد آشور ضمن امبراطوريته, كما أصبحت الولاية رقم 11 في ترتيب الولايات العشرين التي قسّمت اليها الأمبراطورية الفارسية الأخمينية. وهنا لابد من الأشارة الى عظمة مدينة بابل, اذ أنّها غدت في عهد ملكها الشهير نبوخذ نصر الثاني أكبر مدن الدنيا القديمة, وبهرت العالم القديم بحيث عدّها المؤرخون والكتاب القدماء لاتضاهيها في عظمتها وسعتها مدينة أخرى. ولشهرتها صارت هذه المدينة عنوان حضارة وادي الرافدين ونسب اليها القطر كلّه فقيل بلاد بابل (بابلونيا) وأهله (البابليون) وغدت أسوارها وجنائنها المعلّقة من عجائب الدنيا السبع المشهورة, وانبهر بها حتى أعداؤها من أنبياء بني اسرائيل حين قال عنها النبي أرميا (كأس ذهب بيد الرب تسكر كل الأرض من خمرها). وفي القرن السادس ق.م (أي في عهد الدولة البابلية الأخيرة) حصلت في بابل تغيرات لغوية وسكانية, اذ ازداد اختلاط السكان, فبالأضافة الى الآراميين والعرب دخلت الى البلاد عناصر جديدة مثل العبرانيين والمصريين والسوريين وحتى جماعات قليلة من اليونان. العراق في العهد الفارسي الأخميني يبتدىء هذا العهد في العراق منذ فتح كورش الثاني لبابل عام 539 ق.م وينتهي بفتح الأسكندر الكبير عام 331 ق.م. ان الفرس الأخمينيين هم من الأقوام الهندية – الأوروبية التي استوطنت بلاد ايران في مطلع الألف الأول ق.م في الجزء الذي دعي بلاد فارس, وهو الجزء الجنوبي الغربي من ايران. وكان هؤلاء الفرس يجاورون العيلاميين الذين استوطنوا في اقليم خوزستان وكوّنوا حضارة مشتقة في أسسها وأصولها من حضارة وادي الرافدين. وعاش في حدود ذلك الزمن قبيلة ايرانية أخرى, هي قبيلة الماذيين في الأجزاء الشمالية الغربية من ايران وعاصمتها(أكبتانا). استطاع كورش الثاني (558 – 530 ق.م) ان يستولي على عاصمة الماذيين ويؤسس امبراطورية واسعة شملت معظم العالم القديم, تمتد من تخوم الهند الى بحر أيجة وآسية الصغرى ودخلت بلاد بابل وبلاد اشور ضمن امبراطوريته. وقد سمىّ الأخمينيون أراضي الدولة الكلدانية الواقعة غرب دجلة (آثورا) وهي التسمية المحرّفة للكلمة الآرامية آثور, أما المناطق التي تقع شرقي دجلة فأصبحت جزءا من أقليم ميديا وخاضعة أيضا للدولة الأخمينية. وعند سيطرة الأسكندر المقدوني وخلفاؤه السلوقيين على بلاد ما بين النهرين, أطلقوا على مناطق غرب دجلة اسم سيريا وهو تحريف لكلمة أسيريا أو آثوريا أو آشوريا[1] ومنها ترادفت كلمة (السريان) و(سورايي) التي شاع استعمالها بعد اعتناق أقوام المنطقة الديانة المسيحية, للدلالة على أن الشخص المعني هو مسيحي, لأن المبشرين الأوائل بالديانة المسيحية في بلاد ما بين النهرين قدموا من سوريا ولهذا تسموا (ٍسوريايي). أما الذين كانوا يتحدثون اللغة الآرامية فكان يطلق عليهم (أسيريان) لأن اللغة الآرامية منذ عهد سنحاريب كانت اللغة الرسمية بجانب الأكدية. وقد حقق انتشار اللغة الآرامية في ارجاء الأمبراطورية الفارسية حاجة شعوب هذه الأمبراطورية الواسعة الى وسيلة مشتركة للتفاهم, فأزدهرت الآرامية واتخذها ملوك هذه الأمبراطورية لغة رسمية الى جانب اللغة الفارسية القديمة واللغة البابلية ولا سيما في بلاد بابل. انتهى العهد الأخميني بفترة فتح الأسكندر الكبير للشرق والعراق. ثم تلاها العهد السلوقي نسبة الى سلوقس أحد كبار قواد الأسكندر الذين اقتسموا امبراطوريته من بعد موته, حيث صارت سورية والعراق وايران من حصة سلوقس. شرع الأسكندر بزحفه على الشرق في عام 334 ق.م واستطاع في مدى ثلاثة أعوام أن يحطم جحافل الأمبراطورية الفارسية الضخمة ويضم أقاليمها اليه ويغيّر مجرى التاريخ البشري. وكانت معركة أربيل الشهيرة ما بين الملك الفارسي دارا وبين الأسكندر عام 331 ق.م هي النهاية الحاسمة في حياة الأمبراطورية الفارسية. عبر الأسكندر نهر الفرات قرب دير الزور, فسار شرقا في جزيرة ما بين النهرين الى دجلة وعبره بمسافة قليلة شمال الموصل في الموضع المسمى(بيزبدا) ووصل الى السهل الواقع بين مدينتي أربيل والموصل, حيث كان دارا وجحافله في الموضع المسمى (كوكميلة)[2], فنشبت المعركة الكبرى في هذا الموضع عام 331 ق. م والتي عرفت في التاريخ بمعركة أربيل, حيث انتصر فيها الأسكندر على دارا. تمهّل الأسكندر قليلا في أربيل ثم توجه نحو بابل حيث فتحها بسهولة, اذ سلّمه الحاكم الفارسي في بابل (مازيوس) مفاتيح المدينة سنة 331 ق.م ورحّب به السكان على أنّه محررهم. ولم يمكث في بابل سوى شهرا واحدا, حيث تابع فتوحاته نحو الشرق مرورا بسوسة, ولمّا عاد الى بابل من بعد تسع سنوات من حملاته البعيدة في الشرق والهند كان مشبعا بأفكار وأحلام في جعل العالم دولة واحدة وأن تكون بابل والأسكندرية عاصمتي تلك الدولة العالمية. وبينما كان الأسكندر متهيئا للشروع بحملة حربية الى جزيرة العرب, مرض الأسكندر بالحمى وتوفي في قصر نبوخذ نصر في 13 حزيران 323 ق.م وهو في سن 32 عاما. وبعد موته نشبت منازعات وحروب ما بين مشاهير قادته دامت زهاء 42 عاما, اقتسم ثلاثة منهم امبراطوريته الواسعة وهم سلوقس وبطليموس الذي أسس مملكة البطالسة في مصر وأنتيكونس حاكم آسية الصغرى (اقليم فريجية) وصارت بلاد بابل وآشور وسورية من حصة سلوقس. وانقسمت المملكة السلوقية منذ نشأتها الى قسمين كبيرين. القسم الشرقي وكان يتضمن العراق والأقاليم الشرقية وقد أسست له عاصمة جديدة وهي (سلوقية دجلة) والقسم الغربي يتضمن بلاد الشام وتوابعها وجعل مركز ادارته في مدينة أنطاكية الشهيرة التي أسسها سلوقس في عام 300 ق.م على العاصي وسماها بأسم أبيه (أنطيوخس). تميّز العهد السلوقي في العراق في نشوء المدن الجديدة. ففي أعالي ما بين النهرين أسست المدينة المهمة (أديسا) أي (الرها) و(دورا – يوروبس) أي الصالحية على الفرات ومدينة سلوقية في منطقة سلمان باك وتضاؤل شأن الكثير من المدن القديمة وموت البعض منها بأستثناء تلك المدن الواقعة على الطرق التجارية المهمة مثل كالح وماري وأرسلان طاش. العراق في العهد الفرثي أعقب الملوك السلوقيين المقدونيين في حكم العراق الملوك الفرثيون الآيرانيون عام 138 ق.م ودام حكمهم الى العام 227 ب.م. وكان موطن الفرثيين في السهول الممتدة ما بين بحر قزوين وبحر (أرال) وأشتهروا بالفروسية والحرب. وتميّز حكمهم بكثرة الحروب مع السلوقيين ثم بعدئذ مع الرومان وكان شمالي العراق ميدان الكثير من المعارك التي نشبت ما بين الفرثيين والرومان فبرزت في أخبار هذه الحروب جملة مدن مهمة مثل أنطاكية وحرّان ونصيبين وغيرها. بدأت الحرب ما بين الدولتين منذ عام 92 ق.م وتخللتها معاهدات سلم ما بين الطرفين, وانتهى السلم ما بين الفرثيين والرومان في زمن الأمبراطور الروماني تراجان (98 م – 117م) المعاصر للملك الفرثي خسرو. وبدأ تراجان حملته من أنطاكية, قاعدة الجيوش الرومانية في بلاد الشام وعبر الجيش الروماني دجلة بعد تغلّبه على مقاومة ضعيفة, بيد أن تراجان لم يزحف على العاصمة طيسفون رأسا, بل رجع فعبر دجلة واتجه غربا ومرّ بمدينة الحضر فلم يستطع فتحها لمقاومتها الشديدة ومناعة أسوارها فتركها متجها الى الفرات, وبعد ألتقائه بالأسطول القادم من الفرات سار بالأسطول الى بابل. ولم تنجح محاولات الرومان في الاستيلاء على العراق وايران من الفرثيين. لكن حياة الفرثيين السياسية انتهت بعد معركتهم الأخيرة ضد الرومان قرب نصيبين بين آخر الملوك الفرثيين أرطبان الخامس وبين الأمبراطور الروماني مكرينيوس, والتي انتهت بأبرام الصلح. بعدها دخلت بلاد ايران والعراق تحت حكم السلالة الفارسية الجديدة هي السلالة الساسانية (227 م – 637 م) وظل العراق تحت حكم الساسانيين الى الفتح الأسلامي في موقعة القادسية عام 637 م.
يتبع
[1] للمزيد من المعلوما ت راجع كتاب " الكلدان في التاريخ" لمؤلفه الأستاذ حبيب حنونا [2] يعتقد الكاتب حبيب حنونا أن موضع كوكميلة هو بلدة كرمليس حاليا نظرا لسهلها الواسع وقربها من أربيل.
|