العنف ضد المسيحيين في الموصل: المسلمون أوّل الخاسرين

 

 

العنف ضد المواطنين في الموصل ليس حدثاً عابراً، وإنما يمتد عبر العصور الى 700 قبل المسيح. فالموصل المدينة تقع عند الطرف الشمالي للعراق وعلى نهر دجلة. أما موصل العراق فهي أرض خصبة غنية بالموارد الطبيعية كالحرث والانعام وما في باطن الارض. وكانت ثروتها محط أنظار العالم القديم فجرى التناوب على نهبها كلما سنحت الظروف لذلك.

وتقوم على بعد عشرة كيلومترات الى الشمال الشرقي من الموصل مدينة نينوى عاصمة الآشوريين. وقد دفع شغف الآشوريين بموطنهم حداً ان قام ملكهم سرجون الثاني ببناء مدينة جديدة تحمل اسمه على مقربة من نينوى لتكون مفخرة للآشوريين عبر الزمن وتعرف هذه المدينة باسم خورس آباد. وخورس هو تحريف لاسم سرجون وآباد تعني مدينة. وامتدت مساحتها على 350 متراً طولاً و270 متراً عرضاً وأقامها على هضبة تشرف على ما حولها لتكون قبلة للناظرين.

وشاء سرجون الثاني أن تكون مدينته عاصمة العالم. وجرى بناؤها خلال عشر سنين 717 – 706 ق.م. وأحاطها بكل ما ملكت يداه من خيرات البلاد التي غزاها كالذهب والفضة وخشب الأرز والسرو. واستخدم في بنائها خير اليد العاملة من البلدان التي غزاها وسبا أسباط اسرائيل من سامراء، اليها ليشاركوا في بنائها. وامتدت مملكة سرجون الثاني من غرب فارس شرقاً الى أرمينيا ودير بكر في تركيا شمالاً، والى سوريا ولبنان ويهودا والسامرة وقبرص غرباً.

ولكن اطماع الآخرين في ثروة سرجون الثاني لم تتوقف عن التطلع نحوها. فكلما ثارت قبيلة عليه ردّها على أعقابها وقضى على طموحاتها.

ولما خسر سرجون الثاني معركته مع البابليين عام 706 ق.م. نهب الثوار كل خزائن القصور والمعابد وبلاط العرش، ولم يبقوا على شيء منها، فوضعت هذه المعركة نهاية لمجد شاء ملك الأشوريين سرجون الثاني أن يتركه للأجيال القادمة زخراً أبدياً، فلم يتعظ بحكمة الآلهة الا بمجد نفسه ويتطلع الى الخلود .

فالطامعون اليوم في نفط الموصل يماثلون الذين طمعوا في ثروة خورس آباد أيام حكم الملك سرجون الثاني في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد. فالقتل العشوائي والتهجير المنظم اللذين يتعرض لهما مسيحيو الموصل ليس أكثر من عمل عرضي لافراغ الموصل من أهلها لتخلو الساحة لهم فيستولوا على نفطها دون منازع.

فالمسيحيون في الموصل ليسوا دخلاء عليها ليطردوا منها فهم اكثر سكانها عراقة واصالة ونسباً، ولكن ثروة النفط في باطن ارضها هي التي تقف وراء هذا القتل والتهجير.
تُرى أيعيد التاريخ نفسه في الموصل بعد سبعة وعشرين قرناً من الزمن لتماثل الاحداث فيها، سواء كان هذا التساؤل في محله ام خارج هذا المحل، فان ما يحدث اليوم في معقل الآشوريين والكلدان والسريان يبقي السؤال قائماً.

وقد أثارت حوادث القتل والتهجير في الموصل حفيظة الاستاذ الكريم ادمون صعب في جريدة "النهار الجمعة 17 تشرين الاول 2008 وسأل اذا كان الاسلام يجيز قتل المسيحيين وتهجيرهم. فالغيظ الذي غمر قلبه بعث في نفسه حمية الجاهلية. وتساؤله جاء في غير محله لأنه لم يقرأ القرآن الكريم ولم يقف على العشرات من آياته البينات التي تكرم المسيح عيسى بن مريم وتزكي مقامه، فأتى على ذكر بعض الآيات فأخطأ في نسبها وبتر بعضاً منها، فأفسد فيما ذكر ما جاء في الآيات البينات من نور وهدى .

فالمسلمون منذ أن فتحوا الديار الواسعة من سمرقند شرقاً الى طليطلة غرباً لم يهجروا أحداً من أبنائها، وانما تركوا الناس يمارسون عقيدتهم بحرية تامة وأمان مصون الى ان اهتدى قسم منهم الى الاسلام فصَبَأ(1).

وقد أخطأ الاستاذ الكريم في ما نسب الى النبي محمد من آية جاء بها. فالنبي لم يأت بأية آية على الاطلاق، والآيات انزلها الله على رسوله ليخرج الناس من الظلمات الى النور، وكان الرسول مبشراً ونذيراً.

وقول الاستاذ الكريم أن هذه الآية التي أرادها الرسول "هداية" للناس لم تكن من عنده، وانما انزلها الله على رسوله يهدي بها الله من يشاء من عباده، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء (البقرة 272) "من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون". (سورة الاعراف 138).

"قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل". (سورة يونس 108).

"إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فانما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (سورة الزمر 41) وقد اضفى الله على السيد المسيح الكثير من الاطراء والمديح. يقول تعالى في كتابه الكريم:

"وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس (البقرة 253) "وقفينا على اثرهم بعيسى بن مريم مصدّقا لما بين يديه من التوراة والانجيل فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (المائدة 46).

"إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا. وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بأذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بأذني وتبرئ الأكمة والأبرص باذني وإذ تخرج الموتى باذني وإذ كففت بني اسرائيل عنك اذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم ان هذا إلا سحر مبين" (المائدة 110).

"قال كذلك قال ربك هو علي هيّن. ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا" (سورة مريم 21).

فالذين يعتدون على المسيحيين في الموصل، وفي أي مكان آخر في العالم ليسوا على شيء من الاسلام، فهم يشترون الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.

فالآية 85 من سورة البقرة تزكي هذا الموقف وتزجر المعتدين: "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تنادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون الى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون".

وقد أخطأ الاستاذ الكريم في معاني الكلمات التي ذكرها في سورة التوبة فجعل المسيحيين مشركين في الدين وهذا القول مخالف لما جاء في القرآن الكريم من آيات بينات. فالمشركون هم عبدة الاصنام بينما المسيحيون هم أهل الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل. فكيف يجيز الاستاذ الكريم لنفسه ان يضع المسيحيين في مرتبة المشركين. وإصحاح هذا القول واجب على المتقين.

وتساءل الاستاذ الكريم في مكان آخر "كيف يمكن ان يتحول دين الرحمة والسماح دين القتل والذبح لـ"الآخر". فهذا التساؤل تجن على الاسلام والمسلمين لأن الاسلام دين الرحمة والمودة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والشهادة بالقسط (سورة المائدة 8). والايمان بالكتاب الذي أنزل من قبل (سورة النساء 136) والاستمساك بالتوراة والانجيل (سورة المائدة 68). والاسلام لا يدعو الى ذبح الآخرين على الهوية كما أراد الاستاذ الكريم ان يقول في تساؤله.

وتابع الاستاذ الكريم تساؤله عند نهاية مقاله في نص أخذ منه شطرا وترك الباقي.

"وما نفع أخذ المسيحيين بقول الانجيل "أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم". اذا كان هنالك من يحلل قتلهم باسم الله والدين. وقد كان أجدر بالاستاذ الكريم لو أورد الارشاد المسيحي كاملا كما ورد في الاصحاح الخامس من انجيل متى: وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، أحسنوا الى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات". فهذا التساؤل هو نفي للموعظة، ونفي الموعظة هو خروج على الانجيل. والتزام أقوال السيد المسيح واجب على المتقين.

إن اتهام المسلمين بارتكاب جرائم القتل والتهجير دون علم او يقين هو إثم مبين. والتشكيك في أقوال السيد المسيح هو إثم كبير آخر. وتبقى البصيرة رأس الحكمة.

ولرفع الظلامة عن المسيحيين في الموصل، على المسيحيين في العالم عامة وفي الشرق خاصة ان يأتوا المسلمين عامة والمسلمين العرب خاصة ويذكروهم بما خص الله به السيد المسيح عيسى بن مريم من منزلة كريمة في الاسلام حيث جعله الله وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (سورة آل عمران 45) وعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل (آل عمران 48)، وطهّر أمه مريم واصطفاها على نساء العالمين (آل عمران 42، 55)، فالتذكير هو من تعاليم الله العلي القدير (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر (سورة القمر 17، 32، 40).

قال الله تعالى عن الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا ان لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (آل عمران 77). فالذين يتولون عن آيات الله البينات فأولئك هم الظالمون (آل عمران 94).

وقد شاء الله ان يكون المسلمون أمة تدعو الى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فكيف بفئة منهم تخرج عن آيات الله البينات، والذين يخرجون عن آيات الله البينات هم الفاسقون.

وأوصى الله تعالى المسلمين ان يلتزموا حسن الجوار: "يا أيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون (سورة النور 27) فاذا لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم (سورة النور 28).

فدخول المسلمين على بيوت المسيحيين في الموصل هو خروج على الآيات البينات التي جاءت في القرآن الكريم.

والذين اعتدوا على المسيحيين في الموصل مشوا في الارض مرحا وصعّروا خدودهم للنصارى، "والله لا يحب كل مختال فخور "(سورة لقمان 18).

ان مناصرة المسيحيين في الموصل هي نصرة للتوراة والانجيل المتين اوصى الله بهما المسلمين ان يأخذوا بهما (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل اليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (المائدة 68).

إن أول الخاسرين من قتل المسيحيين وتهجيرهم من الموصل هم المسلمون العرب الذين احتضنهم المسيحيون الاوائل من آشوريين وكلدان وسريان وأحسنوا وفادتهم، فمنهم من صبأ ومنهم من بقي على ايمانهم فظل مسيحيا مؤمنا. وعاش الفريقان في مودة ووئام ألفا وأربعمائة سنة. فاذا افترقا فان كل فريق سيبحث عن صاحبه في خبايا التاريخ كما يبحث علماء الآثار عن أمجاد سرجون الثاني في متحف اللوفر في باريس او المتحف البريطاني في لندن او المتحف الشرقي في برلين .

ان تقصير المسلمين عن نصرة المسيحيين في الموصل يعود في الدرجة الاولى الى أنهم لا يقرأون القرآن حق قراءته ليعرفوا أية منزلة خص الله بها المسيح عيسى بن مريم وأنصاره.

"لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود الذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (سورة المائدة 82).

والله ولي الهدى والتوفيق.

 (•) في ذلك الزمان صعد عبيد نبوخذ نصر ملك بابل الى أورشليم وأخرج من هناك جميع خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وكسر كل آنية الذهب التي عملها سليمان ملك اسرائيل في هيكل الرب.

 (التوراة: الملوك الثاني. الاصحاح الرابع والعشرون).

 (••) راجع المتحف البريطاني في لندن حيث سرجون الثاني تفصله شجرة التين المقدسة عن الآلهة آشور ويعلوهما القوس المجنح.

 (1) – راجع البعثة الفرنسية المختصة بعلم الآثار القديمة اي العاديات الى سمرقند وبخارى وطشقند وخيفا.

 

بقلم الدكتور صادق طبارة    

السبت 25 تشرين الأول 2008 - السنة 76 - العدد 23511

جميع الحقوق محفوظة - © جريدة النهار 2008