الطريق إلى الدير القسم الثاني
نشر في جريدة (صوت بخديدا) العدد 48 آذار 2008 ملخص ما نشر في القسم الأول من هذا التحقيق نشرت مشاهدات عن زيارة قام بها مجموعة من إعلامي بغديدا من جريدة (صوت بخديدا) ومجلة (النواطير) ، فضلا ً عن كادر إذاعة صوت السلام . كاتب هذه السطور حاور الأب الربان أدي خضر أدي ، احد الذين نذروا أنفسهم لخدمة هذا الصرح الإيماني الكبير . الزميل عدنان خضر اسطيفو المذيع في إذاعة (صوت السلام) سجل هذا اللقاء صوتا ً.. وهذا هو القسم الثاني من اللقاء . هذا الصرح الإيماني الحقيقة يا أبونا أدي قاطعتك أو بالحقيقة قطعت سلسلة أفكار لسبب واحد بسيط هو انه أريد أن تلتقط أنفاسك بعض الشيء وذلك لكي أتحول بسؤال أخر وهو ... من هو القديس متى؟
الحقيقة يا أبونا أدي، انا أشكرك على السرد التاريخي الدقيق لتاريخ انتشار المسيحية في هذه الديار وكذلك دير مار متى هذا الصرح الإيماني الكبير ، وطالما أخذت الموضوع بتسلسله التاريخي اطلب منك أولاً أن تأخذ قسطاً من الراحة لأننا جئنا بدون موعد مسبق خاصة وان ثقل ألـ (68) سنة بدأت تبدو واضحة من خلال نبرات صوتك يا أبونا. جوابك على سؤالنا الأول شجعنا أن نستمر بموجب السياق الذي بدأت به وهو السرد التاريخي للأحداث ، اقصد تسلسل السرد وبدأنا إلى النقطة التي من المفروض أن نبدأ منها وهي بداية إنشاء الدير. سؤالنا التالي يا أبونا، هو إن الدير في مرحلة نشوءه الأولى كان عبارة عن مجموعة قلايات او غرف خاصة للنساك ما هي المراحل التي مر بها الدير عمرانيا ؟
الدير في مختلف العصور وعبر التاريخ قبل أن ينشأ الدير كان عبارة عن صوامع وقلايات منقورة في الصخر عندما التجأ إليها القديس مار متى وسائر الرهبان كان كل واحد منهم قد اختار له صومعة صغيرة من الصخر لكي يتعبد للرب يسوع المسيح ، ولان الجبل كان عال ٍ جداً وسمى بـ (جبل مقلوب) . سمي بهذا الاسم ، لان صخوره في منحدراته ومنعطفاته تكون مغايرة لبقية الجبال بالنسبة للتصفيف والتنظيف والتنسيق ولهذا سمي بجبل مقلوب ، هذا بالنسبة للرأي الأول. وهناك رأي أخر يقول بان الجبال عادة تكون من إحدى الجهات سهلة التسلق أما من الجهة الثانية فتكون صعبة التسلق . أما جبل دير مار متى فهو صعب التسلق من كل الجهات شمالاً أو جنوباً أو شرقاً أو غرباً ، ولهذا أيضا سمي بجبل مقلوب ، لأنه يختلف عن سائر الجبال الأخرى. أما تلك الصوامع والقلايات التي كان يسكنها الرهبان فكانت منقورة في الصخر ، حيث كانوا يتعبدون فيها ليلاً ونهاراً، إلى أن بدأ الدير يتطور شيئاً فشيئاً ، ولا سيما بعد تأسيس الدير في أيام القديس مار متى بمعونة الملك سنحاريب ملك نينوى ونمرود (كالح) . سخر أكثر من (20) ألف عامل لبناء الدير وذلك بعد شفاءه من مرض الصرع (كما وضحت في حديثي سابقاً) فأراد أن يكرمه فقال له القديس مار متى : أن كنت تريد أن تكرمنا فأبني لنا ديراً أولا لكي يتمجد اسم الله وأنت يتخلد ذكرك في التاريخ ، ومن ذلك الحين بدأ الملك سنحاريب ببناء ذلك الدير وكان يساعده في ذلك القديس مار متى زاكاي ومار ابروهوم وبيث القديسين وهيكل الكنيسة إلى أن أصبح الدير بهذا الشكل الرائع والجميل الذي ترونه في هذه الأيام. * أبونا هل بالإمكان أن نأخذ استراحة قصيرة ومن ثم نستمر هكذا ، إذا لم يكن لديك مانع او إذا تريد أن نكتفي بهذا القدر من الحديث على أن نواصل اللقاء يوم غد خاصة ونحن موجودون في الدير اليوم. أنا مرتاح ، خاصة وان أسلوب حواركم معي جعلني أتعامل بموجب السياقات التاريخية للأحداث ، قصدي تسلسلها الزمني أما عن تأجيل اللقاء أو تكملته إلى يوم غد فأنا والحمد الله بخير ولا تجعلكم الشعرات البيض التي تزين وجهي وكأنني متعب الله أعطانا الصحة وهذا اللقاء جزء من الخدمة التي نؤديها للمؤمنين يومياً في الدير .
لقد كان الدير على مر العصور مركز إشعاع ديني وثقافي رغم المصاعب والمصائب التي مرت به من فارسية، ساسانية وعثمانية هل بالإمكان التحدث عن دور هذا الصرح الإيماني الكبير في نشر الثقافة الدينية والعامة؟ أولا ً : الدير عاش عبر العصور أزمنة سياسية مختلفة فارسية، ساسانية ، عربية ، مغولية في عهد تيمورلنك، عثمانية وأخيراً عربية مكتسباً شهرة كبيرة ملأت الأفاق وخاصة في العصر العباسي فكان الدير في هذه مرحلة المراحل التاريخية أولاً مركزاً هاماً للإشعاع الروحي والقديس مار متى كان من الرواد لنشر بشارة الخلاص والإنجيل المقدس في هذه الربوع حتى وفاته سنة 411م ، وهكذا اقتدى به جميع الذين خلفوه حيث حملوا لواء الإنجيل المبارك للشعوب الوثنية واليهودية وغيرها. ثانياً: اهتم القديس مار متى الجليل بسلك الرهبنة وقوانينها لأنه من إبطال النسك والزهد والتقشف، ولا تزال تشهد على ذلك الصوامع والمغاور والكهوف المنتشرة في الجبل ، إذ بلغ عدد الرهبان في الدير في عصره الذهبي ما بين السنتين (400-480م) أكثر من سبعة ألاف راهب حسب ما أخبرنا به التاريخ الكنسي وهناك مصدر أخر يقول كان عددهم اثنا عشر ألف راهب منتشرين في الجبل والدير لان الكثيرين كانوا يتوافدون على الرهبنة في تلك الأثناء وذلك هرباً من بطش الحكام الوثنين ، الذين كانوا يظلمون المؤمنين المسيحين في عهودهم. ثالثاً: لقد أصبح الدير محجاً ومزاراً وبحكم موقعه الجميل ومكانته الدينية يؤمه الناس من كل مكان ومن مختلف المذاهب للتبرك بأضرحة قديسية الصالحين وخاصة ضريح القديس مار متى ومار غريغوريوس يوحنا ابن العبري العلامة الذائع الصيت في القرن الثالث عشر سنة (1126-1286)م ، حيث توفي في مراغة في بلاد فارس وثم نقلوا رفاته إلى دير مار متى ودفن في مدافن المفارنة.
نعم ، بعد مرور مائة سنة على تأسيس الدير ، أصيب بحريق هائل عام 480 على يد (برصوم النصيبني) النسطوري ، والذي جرى بالتعاون مع حكام الفرس الساسانين الذين هجموا على الدير ، وخربوا منه اجزاءً كثيرة واحرقوا مكتبته الكبيرة والثمينة وقتلوا العديد من رهبانه ولا سيما رئيس الدير المطران الشهيد (مار بارسهذي) الزاهد. وفي نهاية القرن الخامس عاد إليه بعض الرهبان الذين نجوا من الاضطهاد واستأنفوا الحياة النسكية بعد ذلك الخراب الشامل فرمموا الدير المحترق حتى برز اسمه مرة ثانية عالياً ساطعاً من جديد في عام 544 م ، مما جعله يواصل مسيرته التاريخية الروحية المقدسة بصورة منتظمة وخاصة في العهود العربية التي عقبت العهد الساساني ، فقد لقى الدير عناية خاصة في عهد الخلفاء الراشدين وخاصة في عهد الخليفة (عمر بن الخطاب) الذي على يزدجرد الأول ملك الفرس الأخير سنة 636م . في سنة 1171 ميلادية هجر الدير بسبب اعتداءات بعض الناس المجاورين له وبقي مهجوراً حتى عام 1187 م ، وثم استأنفت فيه النشاطات الكنسية من جديد في شتى المجالات ، ومما لا شك فيه إن الدير كان في هذه المراحل والحقب مناراً للعلوم والمعارف بين فترات متقطعة. * الله يعطيك الصحة والعافية يا أبونا ، ولكن كما هو معروف في الصحافة بان لا تختلف عن "التنور" فكلما أطعمت وقوداً تتطلب المزيد، اتفقنا في بداية اللقاء بان الحديث يكون مقتصراً على دير مار متى فقط ولكن "الدير" يا أبونا حالة خاصة ضمن حالات عامة يعيشها مسيحيو تلك الفترة فهل بالإمكان أن نسألك يا أبونا أدي عن وضع كنيسة المسيح في الفترة التي تحدثت عنها تاريخياً؟ إن الحقبة التي مرت على الكنيسة السريانية في القرن الخامس يمكن تقسيمها إلى قسمين، الأول قبل ظهور النسطورية والثاني بعد ظهورها ، وهذا الأخير يشمل الأحداث الدامية والآلام المريرة التي تجرعتها كنيسة المسيح المقدسة في هذه الفترة لقد كان النصف الأول من القرن الخامس قاسياً جداً على الكنيسة في مملكة الفرس من جراء الاضطهاد القاسي الذي زعزع كيانها في عهد (بهرام الخامس 420-438م) ورغم ذلك كانت الكنيسة تتقوى في الإيمان ، وترتب صفوفها فكثرت الكنائس في كل مكان وامتلأت الجبال والوديان والبراري بالصوامع والمناسك وانتشرت أنوار الإنجيل منتعشة في بلاد ملك الملوك ، وفي هذا الزمان كان الدير ذاهباً ُصُعداً في التوسع والانتعاش الروحي وكثر فيه الرهبان والنساك وانتشرت المعابد والصوامع في (جبله الشاق) ، ولا زالت إلى ألان تشهد على تلك الأيام الغابرة وأثارها ماثلة للعيان تحاكي الزمان إلى ألاف. لقد بلغ الدير شأناً بعيداً في الميادين الدينية والروحية والعمرانية والثقافية كافة. كان النصف الثاني من القرن الخامس كارثة عظمى متواصلة الحلقات على كنيسة المسيح السريانية الفتية ، إذ انقضت المحن كالصواعق وهاجمتها فلول الظلم والطغيان وجيوش البغي والعدوان من كل صوب ، ففتكت بأبنائها فتكاً ذريعا من جراء التنكيل والتحريض والتقتيل ومنهم "أسقف نصيبين" برصوم سنة 480 ميلادية الذي أراد نشر كلمة المسيح ، فقدست بالدماء وعطرت بالقداسة والطهر والنقاوة منذ فجر المسيحية . ولما كان هذا الدير العريق عضواً حياً فعالاً في جسم الكنيسة المضطهدة وتعرض لهذا الاضطهاد الشديد الذي قوض معظم أجزاءه لكونه معقل المجاهدين الذين تمسكوا بالحق وأراقوا في سبيله دمائهم الطاهرة. أما الفترة التي امتدت من أواخر القرن الخامس إلى نهاية القرن الثامن فكانت فترة سلام للدير وان كانت الكنيسة قد قاست بعض الضيقات إلا أنها كانت في مأمن من الذبح والتقتيل وانتعش الدير وأعاد أمجاده السابقة التي أراد وأدها المضطهد الشرير برصوم النصيبيني النسطوري المارق ، وجددت فيه الدراسة اللاهوتية والعلمية وأخذت روح الانتعاش رويداً رويداً في سائر مرافق الحياة فيه.في الربع الأخير من القرن الخامس أصبح الدير كرسياً اسقفياً ثم مطرانياً وبهذا احتل مطرانه مكاناً رفيعاً في كنيسة المشرق ، وبعدئذ أصبح مقراً مفريانياً وذلك في القرن الثاني عشر وما بعده ومنهم العلامة المفريان (يوحنا ابن العبري) سنة (1226-1286).
- بالتأكيد يا عزيزي لأهمية الدير الكبرى عقدت فيه عدة مجامع كنسية مهمة ، كما تخرج منه ثلاثة بطاركة وسبعة مفارنة وعدد كبير من المطارنة المعروفين بالتقوى والورع ، كما لا يمكن أن ننسى مكتبته الشهيرة التي حوت العديد من نفائس الكتب والمجلدات والمخطوطات الغالية الثمن ، التي امتدت إليها أيادي الناس الغادرين فصارت معرضة للحرق والضياع في تلك الأزمنة العصيبة . ففي عام 1369م سطا بعض الناس على الدير ونهبوا واحرقوا كل ما فيه ومنها مكتبته الشهيرة ، وهكذا فعل (محمد باشا الراونذزي) حتى غدا الدير أثراً بعد حين لولا عناية الرحمن القدير التي حفظت لنا بعضاً من تراثه . أن لهذا الدير الجليل شهرة واسعة مستفيضة في كنيسة المشرق السريانية بشكل خاص والكنيسة السريانية الأرثوذكسية بشكل عام ، وقد رن صيته في كل الورى نظراً لقدسيته ولاحتوائه على الذخائر المقدسة ولشهرة معهده الكهنوتي ومكتبته النفيسة ومركزه المرموق ومكانته السامية في كنيسة المشرق ، إذ أدى دوراً مهماً على ساحة الكنيسة منذ تأسيسه حتى ألان .يشتهر الدير بمكتبته الفاخرة وبكنيسته التي تحمل اسم القديس (مار متى ) وتشمل على المذبح والهيكل ومدفن الآباء القديسين المعروف ببيت القديسين والمذبح قديم جداً ربما ارتقى قسم منه إلى القرن السابع الميلادي ، تكلله قبة كبيرة عالية تنطق ريازتها بتقاوم عهدها والقسم الأخر الذي يشكل واجهة المذبح ، حيث شيد عام 1858م أما الهيكل فجديد فقد شيد عام 1858 أيضا مع واجهة المذبح ، بيد إن جداره الشمالي وضع على أساس قديم جداً ، وأهم جزء في هذه الكنيسة هو بيت القديسين والذي هو جزء من المذبح تقريباً ، يفصل بينهما حائط له قبل طريقه تشبه ريازتها قبة المذبح . ويشتمل بيت القديسين هذا على سبعة أضرحة، واحد لمار متى ، مار زاكاي، مار ابروهوم، ومار برسهذي الشهيد أول مطران لدير مار متى ولبعض المفارنة من ضمنهم العلامة ابن العبري ولبعض المطارنة أيضا. * هناك تقليد تتبعه جميع الأبرشيات وكذلك قرانا المنتشرة على مساحة هذا الوطن وهو إنها تجعل من كل قديس يوم تحتفل بهذا القديس وتتخذه في بعض الأحيان شفيعاً لها . بالنسبة للقديس (مار متى) هل هناك يوم معين يحتفل بذكراه هذا ؟ وهل أقيمت أديرة أو مؤسسات كنسية على اسم هذا القديس وأحياء لذكراه؟ - للقديس مار متى في أبرشيته ذكرى عاطرة وخاصة ً في تاريخ الكنسية السريانية فقد ضمنت اسمه إلى جريدة القديسين وعيدنت له الثامن عشر من أيلول كيوم انتقاله في كل سنة ورتبت له طقساً أو فرضاً خاصاً به ، كما ضمنت اسمه إلى الشملايه أي (دبتيخا الآباء) القديسين الراقدين، وان الكثيرين من المؤمنين اتخذوا اسمه تيمناً ولا سيما قد َمنّ الله على أبويهم بشفاعته وقد اعتاد كثيرون أيضا أن يعمدوا أولادهم في الدير تبركاً أو وفاء ً لنذرٍ.
نمرود قاشا
|