عشتار تيفي كوم - بطريركية السريان الكاثوليك/
في تمام الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة 18 نيسان 2025، احتفل غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، برتبة السجدة للصليب ودفن المصلوب يوم الجمعة العظيمة، وذلك في كاتدرائية سيّدة البشارة، المتحف – بيروت، لبنان.
عاون غبطتَه المونسنيور حبيب مراد القيّم البطريركي العام وأمين سرّ البطريركية، والأب كريم كلش أمين السرّ المساعد في البطريركية وكاهن إرسالية العائلة المقدسة للمهجَّرين العراقيين في لبنان، والراهبان الأفراميان: الأباتي حنّا ياكو رئيس الرهبانية الأفرامية، والأب بطرس سلمان.
وخدم الرتبة جوق الرعية، بمشاركة جموع غفيرة جداً من المؤمنين غصّت وضاقت بهم الكاتدرائية وساحاتها، وقد حضروا بأعداد كبيرة وملفتة للتعبير عن محبّتهم للرب يسوع وتوقهم إلى السجود لصليبه المقدس في هذا اليوم الفريد المبارك.
خلال الرتبة، أُنشِدَت الترانيم بلحن الحاش (الآلام) المؤثِّر، وتخلّلَتْها القراءات والإنجيل المقدس.
وألقى غبطة أبينا البطريرك موعظة الجمعة العظيمة، بعنوان "كانت مريم واقفة إزاء الصليب"، تحدّث فيها غبطته عن "هذا اليوم المبارك، يوم الجمعة العظيمة، حيث كانت مريم واقفة إزاء الصليب، وهذا ما سمعناه من الإنجيل المقدس بحسب يوحنّا، مريم التي حزنت وتألّمت وقَبِلَت رمحاً في قلبها، كما سبق وتنبّأ عنها سمعان الشيخ أنّه يجوز في نفسك سيف. كانت واقفة، بالطبع لا نستطيع أن نفسّر ولا نفهم الآلام التي كانت كامنةً في نفسها، وهي الأمّ أمام وحيدها المصلوب.هذه الجمعة، كما نسمّيها جميعنا، الجمعة العظيمة. عظيمة لأنّ في هذه الجمعة، هذا اليوم، تمَّ خلاصنا وفداؤنا في ذبيحة الفادي، وقد قَبِلَها بكلّ وعي واختيار لأنّه أحبّنا، وما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبّائه".
وأشار غبطته إلى أنّنا "سمعنا الأناشيد السريانية التي تنشدها كنيستنا منذ مئات السنين، وهذه الأناشيد البسيطة التي ترتكز على الكتاب المقدس، تساعدنا على التوغُّل والدخول في هذا السرّ العظيم الذي نحتفل به اليوم مع كلّ المسيحيين في العالم، أيَّ تقويم اعتمدوا، التقويم الشرقي أم الغربي، نحتفل هذا العام معاً بأسبوع الآلام الذي يتكلّل بيوم الجمعة العظيمة، ثمّ بعيد القيامة المجيدة. وسمعنا من القراءات المقدسة، النبي زكريا يتنبّأ أنّه سيكون هناك حزن وألم ونوح لكلّ شعوب الأرض، لأنّ شخصاً غريباً سيُقتَل ظلماً. وسمعنا من المزمور يذكّرنا أنّه مهما كان، يجب أن نهلّل للرب ونهتف لصخرة خلاصنا. هكذا، أحبّاءنا، ننهي أناشيدنا السريانية بعبارة "هللويا"، نهلّل للرب، ونقول أحياناً "قوريليسون"، أي يا رب ارحمنا، لكن حتّى في الجمعة العظيمة ننشد هللويا، ونهلّل للرب، ونحن ننشد في أحد الأناشيد: الخليقة بكيت على باريها، ولكنّ الكنيسة، البيعة، فرحت لأنّه بهذا الصليب خلّصها الرب يسوع".
ولفت غبطته إلى أنّنا "سمعنا من مار بولس كيف اهتدى وأصبح رسول الأمم، وإلى اليوم نقرأ رسائله ونتعمّق بها ونعيش معانيها، هذا الشخص كان نوعاً ما متعصّباً بشكل خاص لديانته، لا يقبل أنّ المسيح يُصلَب، ولا يقبل حقيقة الفداء. لذلك كان يلاحق المؤمنين، حتّى أنّه ذهب من أورشليم إلى دمشق كي يشيَ بالمسيحيين ويحاسبهم. على طريق دمشق، كما سمعنا من سفر أعمال الرسل، ظهر له يسوع وغيّره كلّياً من مضطهِد إلى مضطهَد، من شخص يفكّر بالقوّة وبأنّ الدفاع عن الله يتمّ عبر قتل الآخرين، أصبح رسولاً مضطهَداً ومتّكلاً على نعمة الرب يسوع الذي هو حيٌّ فيه".
ونوّه غبطته بأنّ "بولس يقول: لستُ أنا أحيا، بل يسوع يحيا فيّ. في رسالته إلى أهل غلاطية، يعلن بولس بشكل واضح: نحن نبشّر بيسوع مصلوباً، مهما كان الناس يفكّرون بنا، خاصّةً في هذه الأيّام حيث تسود القوّة، والمكر والحِيَل التي تلجأ إلى القوّة كي يتمّ التنكيل بالضعفاء. فالعالم، للأسف، حتّى في البلاد التي كنّا نعتبر أنّها مسيحية، العالم فيها متّجه نحو تجاهُل حقيقة الفداء. المحبّة تتمّ ببذل الذات وليس بالقوّة والعنف، مهما كان كبيراً، وليس بالحكمة البشرية، إذ أنّ خلاص الإنسان وعلاقته مع الله هي علاقة محبّة، وهذه المحبّة بقيت تُبرهَن بالفداء".
وذكّر غبطته المؤمنين بأنّنا "في أسبوع الآلام نأتي إلى الكنيسة كي نعيش هذه الحقيقة، حقيقة فدائنا التي تمّمها الرب يسوع. وتعرفون كيف جرت الأحداث، أنّ يسوع، بعدما أقام لعازر من الموت، استقبله الشعب بالتهاليل والأناشيد: مباركٌ الآتي باسم الرب. وإذا بهذا الشعب، يتمّ اللعب في عقله وتغيير فكره، فيطالب: أُصلُبه أُصلُبه. وهذا الأمر وللأسف نختبره أيضاً في حياتنا اليوم، حيث يتمّ اللعب في أفكار الكثيرين وتغييرها، إمّا عن جهل، أو عن مصلحة، وسوى ذلك".
وتابع غبطته: "قَبِلَ هذا الشعب طَلَبَ وحُكمَ رؤسائه الدينيين الذين كانوا يعادون يسوع في بشارته وحكموا عليه. وحسبما يخبرنا الإنجيل، لم يستطع بعض الناس الاعتراض على الحكم الذي حَكَمَ به على يسوعَ أعداؤُه، مع أنّهم سمعوا ورأوا أعجوبة إقامة لعازر من القبر، واستقبلوا يسوع بالتهاليل، ورأوا أعاجيبه وتعاليمه، وكانوا يقولون: إن جاء المسيح، هل سيستطيع أن يفعل هذه الأمور كما يفعلها يسوع؟ ومع ذلك لعبوا بهذا الشعب كي يطالب بصلب يسوع".
وتكلّم غبطته عن "الشخص الذي حكم على يسوع بالصلب باسم القانون، لأنّ الرومان الوثنيين هم الذين كانوا يحكمون في ذلك الزمان في هذا الشرق، بيلاطس يعطينا صورةً عن السياسي المصلحيّ الذي يخاف أن يقول ويعمل بالحقيقة. وهذا الأمر ظاهر ومعروف اليوم أيضاً، وللأسف، في سياسة العالم وسياسة الحكّام الذين نسمع عنهم ونعرفهم".
وتناول غبطته مشهد الصليب حيث "كانت مريم واقفة إزاء الصليب، ومعها المريمات اللواتي كنَّ يتبَعْنَ يسوع، ويوحنّا الحبيب. كم هو مؤثِّر أن نسمع يسوع، وهو في أوج آلامه وعذاباته، يفكّر بأمّه، ويقول لها، إزاء يوحنّا الواقف بجانبها: هذا هو ابنكِ، ويقول ليوحنّا: هذه هي أمّكَ. لا نستطيع أن نفهم هذا الأمر إلا إذا قَبِلْنا أنّ الرب يسوع المرتفع على الصليب ليس فقط إنساناً، بل هو إنسان وإله. مريم كانت واقفة، ممتلئة بالإيمان والرجاء بأنّ هذا العمل الذي تمّمه يسوع بإرادته هو خلاص البشر. لذلك كانت تتأمّل بصمت، ملتمسةً من ابنها الإلهي أن يقوّيها كي تقبل هذه المحنة والمعاناة الكبيرة".
وختم غبطته موعظته ضارعاً "إلى الرب يسوع، الذي وهو في أوج عذاباته غفر لصالبيه، أن يسامحنا لأنّه لا أحد منّا كامل. نسأله أن يقوّينا كي نظلّ أمناء له، ونبتهل إليه كي يرافقنا، لا سيما شبيبتنا وصغارنا، في هذه الظروف الأليمة التي نعيشها، حتّى نبقى دائماً شعب الرجاء الذي لا يخيِّب".
وبعد الموعظة، أنشد غبطته بالسريانية نشيد السجود للصليب: "ܣܳܓܕܺܝܢܰܢ ܠܰܨܠܺܝܒܳܐ سوغدينان لصليبو" (فلنسجد للصليب الذي به صار الخلاص لنفوسنا، ومع اللصّ نهتف: أذكرنا متى أتيتَ في ملكوتكَ). ثمّ جثا غبطته وقبَّل الصليب، وفَعَلَ مثله الآباء الكهنة، فيما الجميع يردّدون النشيد عينه بالسريانية والعربية. وبعد ذلك أتمّ غبطته تحنيط المصلوب، فقام بغسله بماء الورد، ونَضَحَهُ بالزيت، ورشَّ عليه البخور والطيوب.
بعدئذٍ أقيم زيّاحٌ بنعش المسيح المصلوب داخل الكاتدرائية، ثمّ في ساحاتها، ليخرج الجميع في زيّاح مهيب في الشوارع المحيطة بالكاتدرائية. ثمّ مرَّ الجميع تحت النعش فنالوا البركة، وبعدئذٍ أقام غبطته رتبة دفن المصلوب، واضعاً إيّاه في قبرٍ خاص تحت المذبح بحسب التقليد العريق لكنيستنا السريانية، وختمَه وبخّره.
وفي الختام، منح غبطته المؤمنين بركة آلام الرب يسوع وموته الخلاصي بالصليب المقدس. وجرى توزيع الورود والماء المرّ على المؤمنين للبركة.
|