منذ أن تولى دونالد ترامپ رئاسة البيت الأبيض وأجواء ساخنة تؤشر اشتعال حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية. ولم تقف الدول الغربية الأخرى متفرجة على هذا الصراع بل سارعت إلى تأييد تهديدات الرئيس الأمريكي، سواء أكان بمزيد من العقوبات الاقتصادية، أم طرد الدبلوماسيين الروس، أم بتوجيه ضربة "صواريخ حديثة وذكية وجديدة" ضد مواقع سورية محمية من قبل القوات الروسية الاتحادية. هذا التصعيد الجديد أعقب الضجة المفتعلة التي نظمتها بريطانيا في قضية تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال (66 عاماً) وابنته يوليا (33 عاماً) في مدينة سالزبوري، ببريطانيا، واعتبرت روسيا هي المسؤولة عن ذلك، لأن هذه النوع من المادة السامة أُنتجت بالاتحاد السوفييتي، علماً بأن مكتشف هذا النوع من السموم يعيش بالولايات المتحدة. ولم تتمكن بريطانيا أن تأتي حتى الآن بأي دليل على تورط روسيا بهذه العملية غير الإنسانية، بل إن بريطانيا رفضت دخول روسيا ضمن لجنة تحقيقية لتشخيص المسؤول عن عملية التسميم، كما رفضت الدول الغربية في مجلس الأمن الدولي قيام اللجنة الدولية المسؤولة عن حظر استخدام الأسلحة المحرمة دوليا بالتحقيق في مزاعم قيام الحكومة السورية بضرب مدنية دوما بالسلاح الكيمياوي، علماً بأن هذه المهمة هي من اختصاصات هذه اللجنة. علماً بأن كل الظروف المحيطة لا تسمح حتى لنظام دكتاتوري وقح مثل النظام السوري وشخصية مستبدة هزيلة مثل بشار الأسد، على استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه. والأسئلة التي تطرح عن العوامل الكامنة وراء هذا التصعيد في توتير العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية المتنفذة وروسيا الاتحادية، وهل إن هذه الحرب الباردة يمكن أن تنتهي إلى صدام عسكري بين دول حلف شمال الأطلسي وروسيا الاتحادية على الأراضي السورية، وبالتالي احتمال إشعال حرب مدمرة في منطقة الشرق الأوسط وبعيداً عن الدول المشعلة لهذه الحرب المحتملة، أم سينتصر العقل وتعود الدبلوماسية والحوارات السياسية إلى المقدمة لتجد حلولاً معقولة لمشكلة سوريا وعموم مشكلات الشرق الأوسط؟
حين يتتبع الباحث مجرى الأحداث وتطوراتها على الصعيد العالمي وبمنطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، يمكنه تسجيل بعض الظواهر المقلقة لشعوب العالم المحبة للأمن والسلام على الصعيد العالمي والمناهضة للحروب والهيمنة الأجنبية، نشير إلى أبرزها فيما يلي:
أ) أن تخدم سياسته أولاً وقبل كل شيء الولايات المتحدة الأمريكية أمريكا أولاً America first، وكأنها قبل ذاك لم تكن كذلك. وتشمل هذه السياسة الحقل الاقتصادي أيضاً؛
أن يفرض أجندته السياسية على الصعيد العالمي وفي محاور الصراع في مناطق العالم المختلفة، ومنها منطقة الشرق الأوسط، على حكومات وشعوب تلك المناطق، بما يحقق مصالح أميكا أولاً؛
أن يبتز العالم مالياً من خلال التدخل في شؤون الدول الأخرى وفرض إرادته عليها، شريطة أن تدفع للولايات المتحدة تكاليف ما تمارسه الولايات والدبلوماسية الأمريكية من أفعال.
أن يحد من اللجوء إلى الولايات المتحدة وأن يبني سوراً مانعاً على حدود المكسيك وبأموال مكسيكية!
تعديل الميزان التجاري الأمريكي بفرض ضرائب على السلع الواردة إلى الولايات المتحدة بخلاف شروط منظمة التجارة الدولية الحرة.
ونشير هنا إلى ثلاث مسائل مهمة مارستها الدول الغربية ودول المنطقة التي تحاول الهيمنة على سياسات دول المنطقة:
تشكيل وتأييد القوى الإسلامية السياسية المتطرفة، ابتداء من القاعدة ومروراً بداعش وانتهاءً بتنظيمات منشقة على داعش أو تابعة لها بأسماء أخرى. فنحن أمام ممارسات الولايات المتحدة لهذه السياسة وكذلك كل من تركيا والسعودية ودول الخليج وإيران.
تأييد النظم السياسية المستبدة بالمنطقة والمناهضة لشعوبها بمختلف السبل المتاحة لها، وبالتالي فهي تقف بالضد من مصالح شعوب هذه الدول.
تشكيل تحالفات سياسية مؤقتة وأخرى دائمية، بما يسهم في خدمة أهدافها ومصالحها ومصالح إسرائيل بالمنطقة، كما يلاحظ من تأييد التحالف السعودي الخليجي ضد اليمن، بسبب الوجود الإيراني الواضح باليمن والمتحالف مع الحوثيين. أو تأييد التحالف الجديد بين إسرائيل والسعودية ضد إيران.
إن هذه الوقائع والظواهر الصارخة وما تحمله من إشكاليات وموت ودمار لشعوب ودول المنطقة يمكن أن يؤشر الهدف المركزي من هذه السياسات على الصعيد العالمي والمنطقة، وأعني به الهيمنة على شعوب ودول المنطقة وفرض سياساتها ومصالحها والتحكم بخيراتها، ولاسيما المواد الخام الاستراتيجية فيها ولاسيما النفط الخام والتحكم بالتجارة الخارجية الدولية.
إن سياسة ترامپ الانفعالية الراهنة تضع العالم على حافة حرب جديدة، لما يمكن أن ينشأ عن تصرفاته الفردية وسياسة ردود الفعل الهستيرية بعيداً عن بصيرة الإنسان العاقل والمدرك لمخاطر حرب جديدة بمنطقة الشرق الأوسط أو على الصعيد العالمي. وهو اليوم يعيش تحت ضغوط داخلية شديدة الأثر على تصرفاته غير المحسوبة، وفي المقدمة منها أتهام فريقه الانتخابي بالتنسيق مع روسيا، والفضيحة الجنسية مع ستورمي دانيلز الممثلة في صناعة الافلام الإباحية، والمظاهرات الحاشدة لتلاميذ وطلاب المدارس ضد حرية اقتناء وحمل السلاح والتي بلغ عدد المشاركين فيها أكثر من نصف مليون إنسان وحصلت في 800 مدينة أمريكية، إضافة إلى مناهضة الاتحاد الأوروبي لسياسته التجارية وفرض رسوم جمركية على واردات الحديد والالومنيوم لبلاده، وبدء حرب تجارية مع الصين الشعبية، وكذلك شجب العالم لتأييده لحرب التحالف الخليجي ضد اليمن والموت المتفاقم والنزوح والهجرة والأمراض الفتاكة والدمار الشامل للمدن اليمنية، وهو متورط أيضاً بوعود انتخابية ضاغطة عليه وغير واقعية على الصعيد العالمي.
إن أي ضربة صاروخية ضد سوريا من جانب التحالف الغربي، ستجابه بتصدي روسي، كما صرح بذلك پوتين، مما يمكن أن يقود ذلك إلى توسيع الحرب بسوريا وتورط دول المنطقة كلها بحرب لا يمكن التنبؤ بعواقبها المدمرة على شعوب وحياة واقتصاد المنطقة والعالم. ولهذا لا بد من العمل على منع حصول ذلك، والسعي لإيجاد حل سلمي وديمقراطي للقضية السورية وإنقاذ الشعب السوري من حرب مدمرة تجاوز عمرها سنوات سبع عجاف. المفاوضات والحلول الدبلوماسية والسلمية عبر الأمم المتحدة هو الطريق الوحيد لحل معضلات دول المنطقة والعالم، وبدونها ستكون الشعوب وحدها هي الخاسرة من هذه السياسات المتعارضة مع الحضارة الإنسانية ومصالح الشعوب ومستقبلها.